مجلة الرسالة/العدد 479/منهاج الذاتية الأدبية
→ كَررَي. . . | مجلة الرسالة - العدد 479 منهاج الذاتية الأدبية [[مؤلف:|]] |
مهمة التعليم الجامعي ← |
بتاريخ: 07 - 09 - 1942 |
للدكتور زكي مبارك
صديقي. . .
كتبت إليّ تسأل عن المراد من (الذاتية الأدبية) وهي كلمة يكثر ورودها على سنان قلمي، ثم تدعوني إلى رسم المنهاج، إن كان لها منهاج
وأجيب بأن الذاتية الأدبية هي أن تكون أنت أنت فيما تكتب وفيما تقول، بحيث يشعر من يقرأ لك، أو يستمع إليك، أنك تنقل عن قلبك وضميرك، وأن لك خصائص ذاتية لا يزاحمك فيها سواك، وأنك لو نشرت مقالاً بدون إمضاء لتم عليك الروح قبل أن يتم عليك الأسلوب، فإن الأساليب قد تتشابه في كثير من الأحايين تشابهاً يسمح بإضافة آثار كاتب إلى كاتب، أو شاعر إلى شاعر، أو مؤلف إلى مؤلف، عند طيّ الأسماء
أما التشابه في الأرواح فهو نادر الوجود، ولعله لا يقع إلا عند ضعف الأرواح، كما تتشابه الغرائز أو تتماثل عند صغار الطير والحيوان
ولتوضيح هذه النظرية أذكرك بمعلقة امرئ القيس ومعلقة لبيد، فمعلقة امرئ القيس يمكن أن تضاف إلى غيره من الشعراء، ويمكن لأي شاعر أن ينظم مثلها بلا عناء، أما معلقة لبيد فهي شعر لبيد، ولن يحاكيه فيها شاعر، ولو قضى العمر في رياضة النفس على الاقتداء
وبفهم هذه النظرية تتضح مشكلةٌ عجز عن حلها من تحدثوا عن المتحول من الشعر الجاهلي، لأنهم يبنون أحكامهم على الأساليب لا على الأرواح؛ فرقّة الأسلوب هي عندهم خَصيصة حضرية، وجزالة الأسلوب خَصيصة بدوية، وعلى هذا يقاس، كما صنع سعادة الدكتور طه بك حسين
الروح هو الأصل في تقدير القيم الأدبية، وعن الروح يتفرع الأسلوب. ولو شئت لقلت إن لكل كاتب أساليب تختلف باختلاف مقامات الإنشاء، كما تختلف نظرات العيون باختلاف مقامات الحديث، وكما تختلف نبرات الأصوات لمثل تلك الأسباب، ثم يبقى الروح الذي يدل على صاحبه في جميع الحالات بلا استثناء
فانظر أين أنت من هذه الحدود: أينم عليك روحك؟ أينم عليك أسلوبك؟ أتنم عليك التبع الذليلة في الروح والأسلوب لأحد الكتاب أو أحد الشعراء
أنظر أين أنت، فأنا أحب أن أعرفك بالروح قبل أن أعرفك بالأسلوب، وافهم جيداً أنه لا قيمة لأديب بلا روح، روح أصيل تعرفه بسيماه، ولو أقبل عليك ملَّثماً مع ألوف من الأرواح
هل قرأت سورة يوسف؟
في تلك السورة الكريمة آيةٌ صريحة في أن يعقوب وجد ريح يوسف قبل أن يصل القميص، وأنه شُفِي من عماه عند وصول القميص
فهل تفهم المراد من هذا الرمز الطريف؟
هل تفهم كيف يدرك الأعمى أشياء بطريق لا سمع فيه ولا لمس؟
هذا هو الروح الذي أحب أن تلتفت إليه في حياتك الأدبية؛ الروح الذي يدل عليك من أول سطر، أو من أول حرف، قبل أن يرى القارئ اسمك في خاتمة مقالك، فإن وصلت إلى هذا فأنت من أصحاب الذاتية
ولكن كيف تصل؟
هنا يبدأ الحديث عن المنهاج:
يجب أولاً أن تحرر عقلك وقلبك وروحك من جميع الأوهام والأباطيل والأضاليل. ومعنى هذه الوصية أنه يجب أن تنظر في جميع الأشياء وجميع المعاني نظرة استقلالية منزهة عن الخضوع لنظرات من سبقوك ولو كانوا من أعاظم الرجال، لأن الغرض هو أن تصبح روحك جارحة من الجوارح، وهي لا تصير كذلك إلا إن عودتها الفهم والإدراك بلا وسيط. وهل تكون الروح أقل قيمة من الرِّجل، يا بني آدم، والرجل لا تمشي إلا إن عودناها المشي؟
وإذا كان علم السباحة لا يُعّرف بالوصف، وإنما يُعَرّف بالتدريب على مغالبة الماء في أيام أو أسابيع، فعلم الروح لا يدرك بالوصف، وإنما يدرك بتدريب الروح على التذوق والتفهم في أعوام أو أزمان
أراد سابح عبور النيل فغرق، وأراد سابح عبور المانش فنجح، مع أن السباحين توأمان. فكيف نجح هذا وغرق ذلك؟ يرجع الفرق إلى اختلاف التمرين والتدريب. وما يقال في القوة الجسمية يقال في القوة الروحية. فعاود روحك بالتمرين والتدريب في كل وقت، واحفظها من الغفلة عن إدراك دقائق الفروق بين الأشياء والمعاني، وعودها التفكير في جميع ما ترى عيناك، وما تسمع أذناك، وما يهجس به الخاطر في اليقظة أو في المنام، فالنوم كلمة سوقية وليس له مع حياة الروح وجود
إن عملت بهذه الوصفة عاماً أو عامين ظفرت حتماً بالحاسة الذوقية، وهي مفتاح الظفر بالذاتية الأدبية، فتوكل على الله وابدأ من هذا اليوم
ويجب ثانياً أن توطن النفس على الغربة الأبدية ولو كنت في دارك وبين أهلك، فالمفكرون في جميع العصور غرباء
لن يكون لك ظهير غير قلمك، ولن يكون لك نصير غير روحك، فاعرف أين تضع قدمك قبل أن تخاطر بنفسك فتصحب رجال القلم البليغ
إن صحبتنا متعبة ومضنية ومؤذية، لأن طريقنا أشواك من تحتها أشواك، وقد رحبنا بالظمأ والجوع، وبما هو أفتك من الظمأ والجوع، في سبيل الذاتية الأدبية، فانظر كيف تصنع إذا ضَعُفتَ عن السير في بداية الطريق، أو في منتصف الطريق، طريق الموت أو الخلود
أنا أرحمك فأنهاك عن الاحتراق بنار الأدب، وليتني وجدت من ينهاني قبل أن أحترق!
إن صريع الأمواج يجد من يمدّ له يد الإنقاذ والإغاثة، أما صريع النيران فلا منقذ له ولا مغيث، ونحن صرعى النيران لا الأمواج
إن اللصوص يتعاطفون فلا يشهد بعضهم على بعض، ولا يكيد أحدهم لأخيه، ولسنا لصوصاً حتى نعِدك ونمنّيك، وإنما نحن أدباء يكتب أحدنا لزميله صحيفة الاتهام، بلا تورع ولا استحياء
ارجع قبل أن تحترق، أيها الخاطب لما يسمونه الأدب الرفيع
ولو أني أملك الرجوع لرجعت، فارجع أنت قبل أن يصعب عليك الرجوع، وقبل أن تصير الاستغاثة فوق ما تطيق
كان شيخنا العظيم (عبد الحميد بن يحيى الكاتب) زودنا بنصائح تحفظ كرامة رجال الأقلام، فهل سمعنا وأطعنا؟ هيهات ثم هيهات!
لا يخدعك السراب الخداع فتتوهم أن احتراف الأدب أنفع من الاتجار بالتراب، ولا تُطِع المضللين من أدعياء الأدب إلا إن ارتضيت إطاعة الشياطين
لقد نصحتك ونصحتك ثم نصحتك، فإن رأيت أن هذا النصح لم يؤثر في نفسك، ولم يصّدك عن عزمك، فأقبل ثم أقبل على الاحتراق باللهب المقدس، لهب الأدب، فنحن وحدنا الأحياء، ونحن وحدنا الخالدون، ولأعدائنا الموت والفناء!
إن كَلمةً تُضَمُّ إلى كلمة في ذكاء ولوذعية أشرف وأعظم وأنفع من كنوز تضاف إلى كنوز؛ وإن جود الله بالفكر والروح على من يصطفيهم من عباده، لهو أطيب الهبات، وأكرم الأرزاق
أقسم الله بالقلم ولم يقسم بالمال، ونحن بالله مؤمنون!
هل رأيت الله تخلى عن أديب سليم القلب قوي الروح؟
لقد خرج المتنبي هارباً من مصر في ليلة عيد، فكم ألوفاً من الدنانير أنفقت في مصر في تعليم أبنائها حكمة المتنبي؟
وقد مات محمد عبده بعلة أورثه إياها عقوق معاصريه، فكم أُلوفاً من النفوس حاولت التشرف بأنها رأته قبل أن يموت؟
وعانى مصطفى كامل الكاتب والخطيب أشتات التهم الأواثم، ثم كان من خصومه وحاسديه ومبغضيه من اشترك في صنع التمثال
ومرت آلاف السنين، والناس جميعاً يستوحشون من الليل، فكان غناء المصريين: يا ليل. . . يا ليل!!
صديقي:
أتراني شرحت المراد من الذاتية الأدبية، ثم رسمت لك المنهاج؟
هذه ومضة من ومضات، وسأرجع إلى إرشادك بالتفصيل، حين أطمئن إلى أنك أحد الأوفياء بالعهود.
زكي مبارك