مجلة الرسالة/العدد 476/الفن
→ طلعت حرب | مجلة الرسالة - العدد 476 الفن [[مؤلف:|]] |
المصريون المحدثون ← |
بتاريخ: 17 - 08 - 1942 |
ليس من خصائص الإنسان أن يعرف الجمال الطبيعي ويحبه فحسب،
بل خلق مزوداً بالقدرة على إنتاجه أيضاً. فحين يرى جمالاً طبيعياً،
سواء أكان جمالاً فيزيقيا أم خلقيا، فإنه يحسه ويعجب به ويتأثر به،
فينجذب نحوه، وتتملكه عاطفة الجمال وتسيطر عليه. فإذا كانت تلك
العاطفة فعالة مثيرة ونشيطة، فإننا نميل إلى رؤية ما سبب لنا تلك اللذة
وإلى إحساسه ثانية، ونرغب في تحقيقه وإحيائه، لا كما هو عليه في
الخارج، بل كما تصوره لنا مخيلتنا، حتى تظهر فيه ذاتية خاصة،
وهذا هو الفن
فالفن إذن إنتاج حر للجمال، يصدر عن قوة كامنة في الإنسان هي ما نسميه العبقرية ويلزم لذلك الإنتاج الحر للجمال قُوى، هي نفس القوى اللازمة لمعرفته وإحساسه. فالعبقرية هي الذوق السامي، مضافاً إليه عنصر آخر هو القدرة على الإبداع. والذوق ملكة مركبة يدخل فيها ثلاث قوى، هي المخيلة والعاطفة والعقل. هذه القوى الثلاث لازمة بالضرورة للعبقرية، ولكنها ليست كافية، فإن الذي يميز العبقرية عن الذوق، إنما هو القدرة الخالقة، أو القدرة على الابتداع والابتكار. فالذوق يحس ويحكم ويناقش ويحلل ولكنه لا يبتكر، والعبقرية مبدعة وخالقة قبل كل شيء. والعبقري إنما يكون عبقرياً بواسطة رغبة مشبوبة لا يمكن مقاومتها للتعبير عما يحس به من عواطف وانفعالات وصور وأفكار تضطرم في صدره. وقد قيل: إنه لا يوجد رجل عظيم بدون بذرة من الحماقة فيه، هذه الحماقة هي الجزء الإلهي من العقل، وهذه القوة الخفية سَّماها (سقراط): (شيطانة)؛ وأسماها (فولتير): (بالشيطان في الجسد)، وهي التي تلهم العبقرية وتثيرها حتى تبوح بما أضناها. وعلى ذلك، فهناك شيئان يميزان العبقرية: حيوية الرغبة في الإنتاج، ثم القدرة على الإنتاج، لأن الرغبة بدون القدرة ليست إلا مرضاً.
فالعبقرية بالضرورة هي على العمل والإبداع والخلق، بينما يختص الذوق بالملاحظة والإعجاب. والعبقرية الزائفة - أعني المخيلة المشبوبة العاجزة معاً - تضني في الأحلام المجدبة، وتفنى دون أن تنتج شيئاً ذا أهمية، وقد لا تنتج شيئاً على الإطلاق؛ ولكن العبقرية هي التي يمكنها أن تحول تصوراتها إلى خلق وإبداع جديدين
وإذا كانت العبقرية تخلق، فإنها إذن لا تقلد، ولذا قد يظن أنها أعلى من الطبيعة ما دامت لا تقلدها، والطبيعة من صنع الله، فالإنسان بذلك منافس لله؛ ولكن ليس ذلك بصحيح فإن الطبيعة تفسر الأشياء وتنتجها حسب طبيعتها الخاصة، كذلك العبقرية الإنسانية تنتجها حسب طبيعتها هي. . . ولنقف لحظة أمام تلك المسألة التي أثيرت مراراً، وهي: هل الفن ليس شيئاً آخر إلا تقليد الطبيعة؟
الفن من جهته تقليد بدون شك، لأن الخلق المطلق لا يمكن أن يعزى لغير الله، والعبقرية لا تأتي بالعناصر التي تعمل عليها إلا من الطبيعة. . . ولكن، هل تقتصر العبقرية على إخراجها مثلما صنعتها الطبيعة؟ وهل هي ليست إلا مجرد نسخ ونقل للواقع؟ إذا كانت العبقرية كذلك، فإن ميزتها الوحيدة تكون هي الأمانة في النسخ والنقل، وإذا كان الأمر كذلك كان الفن عاجزاً، مثله مثل طالب كسول بليد، لا يفعل شيئاً إلا أن يقلد كل ما يفعله جاره، وينقله منه بكل أمانة
والفنان الحق يحس ويعجب بالطبيعة إحساساً وإعجاباً عميقين ولكن ليس كل ما في الطبيعة باهراً ومدهشاً بدرجة واحدة. وفي الطبيعة شيء ما تتخطى به الفن إلا مالا نهاية، أعنى الحياة؛ ولكن الفن يتخطى الطبيعة ويفوقها حين لا يقلدها تقليداً دقيقاً. وكل ما هو طبيعي لا بد أن يكون معيباً من ناحية ما مهما كانت درجة جماله. وكل ما هو واقعي لا بد أن يكون ناقصاً. وعلى ذلك نجد الشناعة والقبح مختلطين بالسمو والجلالة من ناحية، ونجد الظروف والرشاقة بعيدين عن العظمة والقوة من ناحية أخرى، وهكذا. وخطوط الجمال منفصلة بعضها عن بعض؛ فإذا اتحدت اتفاقاً وبدون قاعدة ينظم بمقتضاها هذا الاتحاد أخرجت لنا المسوخ. ولكن السماح بوجود قاعدة للنظام يعني السماح بوجود مثال يخالف جميع الأفراد. هذا المثال هو ما يؤلفه الفنان حين يدرس الطبيعة والواقع فيحكم عليهما وينازلهما به
والمثال موضوع تأمل عاطفي للفنان. فالتأمل الدائم الهادئ العميق الذي تحييه العاطفة يوقظ العبقرية ويثير فيها تلك الرغبة الملحة لرؤية ما يرغب فيه متحققاً وحياً؛ ولذلك تأخذ العبقرية من الطبيعة كل المواد التي يمكن أن تساعدها، وتضفي عليها يدها القوية مثلما فعل ميكلانج مثلاً بإزميله على الرخام الخام. فتخرج منها أعمالاً ليس لها نماذج في الطبيعة؛ أعمالاً لا تحاكي شيئاً آخر إلا المثال المتصورَّ؛ أعمالاً هي من ناحية خلق آخر أقل من الأول بالفردية والحياة، ولكنها من جهة أخرى أعلى منه بالجمال العقلي والخلقي
والجمال الخلقي أساس لكل جمال حقيقي، وهذا الأساس مغطى محجوب قليلاً في الطبيعة والفن يطلقه ويظهره. وغاية الفن هي التعبير عن الجمال الخلقي بمساعدة الجمال الفيزيقي، فهذا الأخير ليس إلا رمزاً لذاك، وهو مظلم غير واضح في الطبيعة، والفن حين يوضحه يصل إلى أعمال لا تنتجها الطبيعة دائماً. نعم إن الطبيعة قد تسبب سروراً وانشراحاً أكثر لأنها تحوز الحياة وتملكها، ولكن الفن يثير أكثر لأنه في تعبيره عن الجمال - وبخاصة عن الجمال الخلقي - يصل مباشرة إلى منبع الانفعالات العميقة. فالفن بذلك قد يكون ابعد تأثيراً من الطبيعة، والتأثير هو علامة الجمال ومقياسه
وطالب الفن ودارسه يجب عليه أن يعرف - في بدء دراسته - الواقع والمثال ويدرسهما معاً لا أحدهما أولاً. والطبيعة نفسها لا تقدم الجزئي بدون الكلي ولا الكلي بدون الجزئي، فالواقع والمثال شرطان من شروط الفن، والعبقري يعرف كيف يوحد بين المثال والواقع، بين الصورة والفكرة. وهذا الاتحاد هو كمال الفن. والأعمال الفنية الكبرى تقتضي هذا الثمن، ولكن يجب التفرقة والتميز بينهما ووضع كل منهما في مكانه الصحيح، فإنه لا يوجد مثال حقيقي بدون صورة معينة، ولا توجد وحدة بدون اختلاف، ولا نوع بدون أفراد؛ ولكن أساس الجمال هو الفكرة ' والذي ينتج الفن هو تحقيق تلك الفكرة لا تقليد الصورة الجزئية.
في بدء القرن التاسع عشر، عقد المجمع الفرنسي مسابقة عن أسباب كمال فن النحت القديم، وعن عوامل انحطاط ذلك الفن. وكان الفائز في هذه المسابقة إمري دافيد الذي قرر أن دراسة الجمال الطبيعي هي التي قادت وحدها الفن القديم نحو الكمال، وبالتالي تقليد الطبيعة هو الطريق الوحيد للوصول إلى الكمال. ولكن كاترمير دكانسي هاجم نظرية دافيد ودافع عن الجمال المثالي، وبين أن الفن عند الإغريق لم يعتمد على تقليد الطبيعة ولا على نموذج واقعي لأن النموذج ناقص مهما كان جميلاً، بل كان يعتمد في الحقيقة على الجمال المثالي الذي لا يوجد في الطبيعة. وكان دافيد قد ادعى أن كلمة (الجمال المثالي) تعني عند اليونان - بفرض أنهم كانوا يعرفها - (الجمال المرئي)، لأن (المثال يأتي من اليونانية وهذه تعني - في رأيه - (الصورة المرئية - ولكن دكانسي أتى بأثرين رد بهما على دافيد: أحدهما من طميادس حيث بين أفلاطون بوضوح كيف يكون الفنان الحق أعلى من الفنان العادي، والآخر من (الخطيب) حيث يشرح شيشرون كيفية عمل الفنانين العظام ممثلاً لذلك بعمل فيدياس أعظم أستاذ في أكمل عصر فني. فهو حين كان يصنع تمثالاً ما لم يضع تحت ناظريه نموذجاً معيناً يعكف على تقليده، ولكن كان يوجد في نفسه صورة أو مثالاً تام الجمال. وطريقة فيدياس هذه هي نفس طريقة رفائيل التي وصفها في خطابه إلى بقوله: (لما كان ينقصني نماذج جميلة استخدمت مثالاً معيناً صنعته بنفسي)
هناك نظرية تجعل من الوهم غاية للفن، وهي نظرية ترجع الفن إلى التقليد بطريق غير مباشر. فالجمال المثالي للنفس مثلاً هو وهم العين وخداعها، ومنتهى الفن في قطعة مسرحية هو أن تقنعك أنك أمام الواقع. وكل ما في هذا الرأي من حقيقة هو أن العمل الفني لا يكون إلا إذا كان حيا. ففي الدرامة مثلاً يجب ألا تأتي بأشباح الماضي الشاحبة، بل بشخصيات مستعارة من المخيلة أو من التاريخ، ولكنها شخصيات حية وعاطفية، تتكلم وتعمل كما يعمل الناس لا كما تعمل الأشباح. ولكننا لا يمكن أن نجعل الغاية من الفن هي الخداع والإيهام؛ فإننا لو جعلنا ممثل دور بروتس نسخة منه وألبسناه ملابسه وأعطيناه نفس الخنجر الذي طعن به بروتس قيصر، لما مس ذلك الخبراء الحقيقيين إلا مسا رفيقاً. والمغالاة في الخداع تجعل عاطفة الفن تختفي لتظهر مكانها عاطفة طبيعية صرفه، فإن كنت أتوهم أن أفيجينيا على وشك أن يذبحها أبوها على بعد عشرين خطوة مني، فإنني قد أخرج من صالة المسرح مرتعداً من الخوف
وقد يقال رداً على ذلك إن غاية الشاعر هي إثارة الشفقة والخوف مثلاً. هذا صحيح، ولكن إلى حد، وبعد ذلك يخلط بذلك عاطفة أخرى تعدَّل منهما أو تمحوهما وتكون لها غاية أخرى. فإن كان الغرض من الدرامة هو إثارة الشفقة والخوف والحزن فقط بدرجة كبيرة، فإن الفن يكون بذلك غريماً عاجزاً للطبيعة، وأي مستشفى أكبر امتلاء بالشفقة والرعب والحزن من كل مسارح العالم. ونحن حين نعجب بمنظر عاصفة أو حادثة غرق، فإن إعجابنا ليس ما يثيره هذا المنظر من شفقة أو رعب؛ بل هناك سبب آخر هو استيقاظ عاطفة الجمال والسمو التي هاجتها عظمة المنظر وامتداد البحر واصطخاب الأمواج المزبدة وقصف الرعود المدوية، ولكننا لا نفكر لحظة في أن هناك بؤساء يقاسون ويألمون وقد يموتون وإلا صار المنظر فظيعاً لا يمكن احتماله
وهناك نظرية أخرى تخلط عاطفة الجمال بالعاطفة الخلقية، والعاطفة الدينية، وتضع الفن في خدمة الدين والأخلاق، وتحيل غايته أن يرفعنا نحو الله ويهذب من أخلاقنا. وهنا يجب أن نذكر تفرقة ضرورية: إذا كان كل جمال يحوي جمالاً خلقياً، وإذا كان المثال يرقى دائماً نحو اللانهاية، فإن الفن المعبرَّ عن الجمال المثالي يطهر الروح ويرفعها نحو اللامتناهي أي نحو الله. فالفن يؤدي إذن إلى كمال الروح بطريق غير مباشر. والفيلسوف الذي يبحث عن المعلولات والعلل يعرف المبدأ الأخير للجمال ومعلولاته الحقيقية والبعيدة، ولكن الفنان فنان قبل كل شيء، وما يحييه هو عاطفة الجمال، وما يريد إيصاله إلى القلوب هو نفس العاطفة التي تملأ قلبه هو. هذه العاطفة هي رباطٌ بين العاطفة الخلقية والعاطفة الدينية، توقظهما وتحفظهما، ولكنها متميزة عنهما. والفن المؤسس على تلك العاطفة هو استطاعة غير حرة، فهو يشارك بطبعه في كل ما يعظم الروح في الأخلاق والدين، ولكنه لا يرقى إلا بنفسه. وحين يسترد الفن حريته وكرامته وغايته الذاتية، فإنه لا يمكن فصله عن الدين والأخلاق والوطن، لأن الفن يقتبس إلهاماته من هذه المنابع العميقة، كما يقتبسها من الطبيعة. والفن والوطن والدين قوى لكل منها عالمه الخاص، وبينهما اتحاد متبادل، فإذا ابتعد أحدها عن الآخرين ضل السبيل. ولكن ذلك لا يجعل الفن خاضعاً لقوانين الدين والوطن وإلا فقد سحره وجماله بفقدانه حريته
واتحاد الفن والدين والوطن لا يضر باستقلال كل منها، ونتأدى من ذلك إلى أن الفن نوع من الدين. فالله يتضح لنا بواسطة فكرة الحق وفكرة الخير وفكرة الجمال، وهي ثلاث فكرات متساوية فيما بينهما، تؤدي كل واحدة منهما إلى الله لأنها تأتي منه. والجمال الحقيقي هو الجمال المثالي، وهذا الأخير انعكاس اللامتناهي، وعليه فالفن يعبر في أعماله عن الجمال الأبدي. وكل عمل فني، إذا كان جميلاً سامياً، تمثالاً كان أو أغنية، أو غير ذلك، يلقى بالروح في حلم عظيم يحملها نحو اللامتناهي. واللامتناهي هو الحد المشترك الذي تتوق إليه الروح على أجنحة الخيال والعقل بواسطة الجمال والحق والخير
أحمد أبو زيد
كلية الآداب