الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 475/سفارة (الرسالة)

مجلة الرسالة/العدد 475/سفارة (الرسالة)

بتاريخ: 10 - 08 - 1942


للأستاذ عباس محمود العقاد

أعجلني السفر - وابتغاء القرار بعد السفر - أن أكتب إلى الرسالة في موعد كتابتي إليها. وقد فاتني أن أكتب إليها، ولم يفتني أن أذكرها؛ فليس بيدي ذلك وكل من لقيت مذكري بها، حتى في وعثاء الطريق.

برح القطار القاهرة، فلم يمض غير قليل حتى أثار علينا من العثير ما يملأ الخياشيم ويوشك أن يملأ الصدور؛ ووجدتني مرة أخرى في حياتي أوازن بين منفذ مفتوح وغبار ثائر، وبين منافذ مغلقة وجو رائق. ولا صعوبة في الموازنة إذا كان الجو الذي يثور فيه الغبار جو تفكير وشعور وارتياء، فالغبار الثائر هنا أرحم وأدنى إلى الاختيار.

ولا صعوبة في الموازنة كذلك إذا كان الجو الذي يثور فيه الغبار جو خياشيم وصدور؛ فالجو الرائق هنا هو الأرحم والأدنى إلى الاختيار، وإن ضاقت الصدور بالحر والحرج؛ فضيق الصدور في الواقع أهون من ضيق الصدور في المجاز.

أغلقت النافذة واسترسلت في نسق من هذا التفكير أدرى كيف بدأ ولا أدري كيف أنتهى، لأنني ختمته في عالم الأحلام، ونمت والضجة من حولي وقد كان النوم عصياً ومن حولي السكينة والقرار.

ثم مضى القطار لا أسأله أين مضى ولا يسألني أين مضيت؛ حتى أشرقت الشمس على معالم الإقليم القنائي الذي يصح أن أعيد فيه ما قاله أبن الرومي:

فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد

لأنني قضيت فيه أوائل عهدي بالخدمة الحكومية، ولبثت فيه زمناً أنتظر التثبيت فيحول بيني وبينه عيب واحد يا له من عيب! وهو أنني دون الثامنة عشرة بسنتين.

وأطلت أنظر الثامنة عشرة التي انتظرتها هنالك فترة من تينك السنتين، وأطلت النظر في مكاني. وحسبني بعض الرفقاء في القطار: هل من خدمة؟ ثم أسرع قائلاً: لا تؤاخذني أن أتطفل عليك بالسؤال فإنني لست بمتطفل في الحقيقة! لأنني أعرفك منذ عهد بعيد: ألست فلاناً؟ إنني ليسرني يا سيدي أن أؤدي لك بعض الخدمة التي أستطيعها، فهي دَينٌ لك علينا أجمعين.

قلت: يخيل إلي أنني أنا أيضاً أعرفك. ألست من برقة؟

قلت ذلك لأنني علمت أن في القطار نخبة من سراة برقة وأدبائها، وعرفت بلده من لهجته التي يسهر تمييزها بين لهجات مغربية عديدة لطول ما تحدثت إلى أبنائها في الصحراء.

فقال: نعم!

وبدأ الحديث في الأدب

وعطف بعد هنيهات إلى الرسالة وموضوعاتها وكتابها، فإذا صاحبي ملم بأدب مصر في هذا العصر إلماماً يندر بين شبان من المصريين. ولحق به أصحاب من قومه يكبرونه سناً ويشبهونه كياسة وأدباً، فإذا هم ملمون بشئون مصر العامة أحسن إلمام يتاح لغريب عنها، وإن كان اهتمامهم بالقادة والرؤساء أوفر من اهتمامهم بالكتاب والشعراء.

وإذا في برقة وطرابلس أحزاب لأدباء مصر وأحزاب لقادتها السياسيين، ومساجلات وفكاهات لا نسمع بمثلها في مصر، وهي أحق شيء أن نستمع إليه.

ولم أشأ أن يكون الحديث كله عن مصر وأدبائها، فسألته عن برقة وأدبائها، وما فيها من شعائر الحركة الأدبية، ولا سيما بعد احتلالها.

فراعني أن أسمع شعراً حسناً ينضج بالشاعرية المطبوعة، ويجري في صيغة عربية سائغة، وما سمعت بأسماء قائليه قبل ذاك وإنهم لأولى بالذكر من كثيرين.

أنشدني قصائد شتى لشاعرهم رفيق المهدوي، فاستزدته وقلت له: إنكم لعلى حق أن تفخروا به وأن تذكروه باسم (شاعرنا) كلما ذكرتموه، فرب قصيدة من هذه القصائد التي سمعتها هي أنفع في التعريف بكم والإصغاء إلى قضيتكم من دعاية الساسة الذين يجهلون الدعوة ولا يوجهونها إلى أحسن الأسماع وأصدق القلوب.

ومما أنشدنيه له قصيدة على وزن جديد يقرب من الوزن الذي اختاره الزهاوي لقصيدته:

ويلا يا ويلا! ... ما أقوى السيلا

ليلى سلَّيني ... سليني ليلى!

فقال في وصف الشاعر:

كالنحلة في الروضة تعبث بالنوار

إن رفرف كالواقف أو حوَّم أو طار لا يقنع بالورد ولا زهر النسرين

فيميل من السرو إلى شجر المرسلين

كالظامئ يتلهف واظَمَأ المسكين!

لم يرو صدى الغلة من نُطفِ الأزهار

ما لاح له زهر إلا وتمناه!

كم صادف ما يحذر من خادع مرآه

(يحذَره حيناً ويعود فيهواه)

قل واهاً للشاعر من واه محتار!

كالنحلة في الروضة تعبث بالنوار

وأنشدني أبياتاً له فيها مداعبة وشكاية، وقد نفي من وطنه وكتب إلى بعض أخواته:

بعد السلام وتقديم احتراماتي ... أهديك يا سيدي موسى تحياتي

إلى أن يقول:

والله ما باختياري أن أفارقه ... لو لم ينغصه حكم الظالم العاتي

فارقت موطن آبائي على مضض ... مما تجرعت من هم وويلات

تأثرتني عيون القوم ترصدني ... تحصي خطاي فتحصيها خطيئاتي

وما جنيت سوى إنكار منكرهم ... بمذودي فتغالوا في معاداتي!

وظل ينشدني للمهدوي وزملائه وأستزيده، لأعرف ليبيا حقاً، وقد عرفتها حقاً، وقلت لأصحابي: إن ليبيا حية وفيها من يعبر عنها هذا التعبير. فاستوصوا بشعرائكم خيراً، فأنهم لأدل عليكم وعلى قضيتكم من جميع ما عرفناه عنكم

وعبر القطار بأسوان عاجلاً، فإن كنت قد أطلت النظر عند (قنا) لأرى الثامنة عشرة وما دونها، فقد أطلت النظر إلى أرباض (أسوان) لأرى السادسة والخامسة وما دونهما. . . فرأيت حتى استوفيت.

وتبيت الباخرة على النيل بين الشلال وحلفا ليلتين.

ففي تينك الليلتين كان السمر إلى هزيع من الليل عربياً في كل فن من فنونه، فما أحسب أن أمراً يهم العرب قاطبة قد تركناه في سمرنا فلم نعرج عليه ولم نطل الوقوف عنده.

ولم يرعنا مما ينغصنا إلا صوت طفل صغير من الليبيين يتكلم الإيطالية، لأنهم فرضوها على الصغار وأبعدوا ما بينهم وبين التمكن من العربية بمسافات وآفاق.

فعدنا إلى حياة اللغة العربية، وإلى مهمة أدباء العرب وصحافة العرب، ولا سيما الصحافة الأدبية.

ثم وصلنا إلى ما قبل حلفا وانتظرنا في الباخرة إنجاز مراسم الدخول والحيطة الصحية. فإني لأنظر من باب المقصورة إلى النيل إذ أقبل نفر من الفتيان الذين يلوح عليهم أنهم طلبة وموظفون. فسألوني: أأنت فلان؟ قلت: نعم. كيف عرفتم؟ فابتسموا وقالوا: لا تؤاخذنا إن قلنا من صور المجلات، ولا سيما الفكاهية!

قلت: يا أصحابي إن هذا لا يرضيني أو لا (يملقني) كما يقول الأوربيون. . . أو ترون الشبه قريباً بيني وبين تلك الصور إلى هذا الحد؟ قال قائل من الواقفين حولنا ليرضيني أو يملقني على حسب ذلك التعبير: بل هي مبالغة الرسامين في بعض معارف وجهك المميزة لك قد دلتهم عليك.

وما هو إلا أن فرغنا من شأن الباخرة وانتقلنا لقضاء الليل في مركبة القطار حتى كان أول حديث طرقه هؤلاء الفتيان ومن صحبهم بعد ذلك حديث الرسالة وآخر المساجلات الأدبية فيها. وبدأ لي في الخرطوم كذلك أن هذه المساجلات تعقد حولها حلقات مختلفات من المتشيعين لهذا الفريق أو لذاك، وبدا لي منذ أول الطريق أن أدباء ليبيا والأقطار العربية والسودان يأخذون علينا أنهم يعرفوننا ولا نعرفهم، ويتتبعون أخبارنا ولا نتتبع أخبارهم، وأن الأديب منهم يستطيع أن يحدثنا عن جميع كتابنا وشعرائنا ولا يستطيع أحد منا أن يحدثهم عن كتابهم وشعرائهم، وإن كانوا جدراء بالحديث.

وهذا كله صحيح ولكن السبب الذي يردونه إليه غير صحيح؛ فالمصريون لا يفوتهم ما يفوتهم من أدب ليبيا والأقطار العربية والسودان لأن اهتمامهم بالعرب أقل من اهتمام العرب بمصر، كلا وأقولها عن يقين، وإنما يفوتهم ما فاتهم لأن صحف مصر تصل إلى كل مكان في بلاد العربية، ولا يصل إلى مصر من صحف تلك البلاد إلا القليل.

ويخطر لي في هذا الصدد أن صديقنا الأستاذ الزيات قد فكر في تخصيص أعداد لكل أمة من أمم الضاد يحيط فيها بشئون تلك الأمة أدباً وثقافة ومرافق أخرى؛ فإذا مضى في تحقيق تلك الفكرة فقد أتم سفارة الرسالة فأصبحت لها السفارة المزدوجة بين مصر وجاراتها وأخواتها، فتسفر للمصريين عندهم، وتسفر لهم عند المصريين، وتعمل في وحدة العرب ما لا يرجى أن تعمله السياسة، لأنها تفرق ولا تؤلف، وتلتوي ولا تستقيم.

هذا بعض حديث تلك (السفارة) في رحلة عاجلة بين القاهرة والخرطوم. ولو شئت لطال وطال، لأنه حديث موصول يتجدد كل أسبوع، بل كل يوم اجتمع فيه ندى من القراء والأدباء، وهم يجتمعون هنا عامة الأيام.

لكني أختمه الآن بما لا يخرج عنه من مساجلات الرسالة أيضاً؛ فقد سئلت هنا رأيي في مناقشات بعضهم لي حول رسالة الغفران وصداقات الأدباء.

فأما رسالة الغفران والشبه في محاوراتها بين ما كتبه أبو العلاء وكتبه لوسيان فلست أنوي أن أعود إليه وقد أغناني عن العودة إليه ما كتبه الأديب الجبلاوي حين سأل المعترض أن يذكر أحداً غير لوسيان تقدم المعري بذلك الحوار. أما رحلات الجنة والنار فنحن قبل عشرين سنة قد ذكرنا وأكدنا إنها ليست بالشيء الجديد.

وأما صداقات الأدباء فالمناقشات فيها أعجب وأطرب! نحن نأخذ على الأستاذ الحكيم أن يضرب لنا المثل بصداقات الأدباء في أوربا لأنها لا تخلو من العلات، فيجيئنا من يعترض فلا يكون اعتراضه إلا تكريراً لما قلناه، وهو أن صداقات الأدباء الأوربيين ليست على المثال الذي تصوره الأستاذ الحكيم!

وأعجب من هذا وأطرب أن نشير إلى صداقات الأدباء في إنجلترا ونذكر بيرون وشيلي فيكون الاعتراض أنهما لم يتقابلا في إنجلترا بل تقابلا في إيطاليا. . . فهما إذاً قد أصبحا من أدباء الأمة الإيطالية وخرجا من عداد الأدباء في الأمة الإنجليزية!

مثل هذا المحال لا نرد عليه، ولا ننوي بعد اليوم أن نرد عليه. وحسبنا أننا لم نلق من قارئ هنا إلا وقد رد على ذلك الاعتراض بالإعراض.

الخرطوم

عباس محمود العقاد