الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 474/سجينة الزهرية

مجلة الرسالة/العدد 474/سجينة الزهرية

بتاريخ: 03 - 08 - 1942


(كلمة تفصل ألواناً من أوهام العقول وأحلام القلوب. . .)

للدكتور زكي مبارك

الزهرية إناء صغير مختلف الأشكال، فيكون حيناً لحفظ الزهيرات أياماً بتغذية الماء، ويكون حيناً لحفظ الشجيرات أعواماً بتغذية الطين، وباختلاف ما يحفظ يختلف شكله بعض الاختلاف

وحديث اليوم عن شُجيْرَة حُفظَتْ في زَهرية، فظلت كيومها الأول في النمو والنضارة بضع سنين، مع أن أختها المنقولة إلى وعثاء الأرض في الريف بلغت مبلغ الدوحة الباسقة في أقصر زمن وبأيسر عناء

هل كان يغيب عني السبب في تفاوت الحظ والمصير عند هاتين الأختين؟ لا. . . وإنما أردت أن أعرف من أحوال (سجينة الزهرية) أكثر مما أعرف، فدار بيني وبينها الحوار الآتي ذات صباح:

- كيف حالك، أيتها الشجيرة الغالية؟

- حال من يعيش تحت حماية القوانين!

- أنت إذاً سعيدة؟

- سعيدة جداً، ألا ترى أن وجهي لم يتغير منذ التعارف الأول؟!

- وإلى أي عهد يرجع ذلك التعارف السعيد؟

- أنت تعرف التاريخ، فقد كنت أنا وأختي هديتين لك من حديقة الصديق (. . .)، ثم كانت السعادة من نصيب أختي، وكانت الشقاوة من نصيبي!

- ألم تقولي: إنك سعيدة؟

- حسُبتك فهمتَ مرادي حين أخبرتُك أن وجهي لم يتغير منذ التعارف الأول!

- وهل تكون السعادة في غير الثبات على نضارة الشباب؟

- أهذا هو فهمك للسعادة، أيها الآدمي الحصيف؟

- وما فهمُكِ أنتِ للسعادة، أيتها الشجيرة الحمقاء؟

- أخرجني من سجن القانون لأملك الرد عليك! - أي قانون؟

- قانون الزهرية

- وما عيب قانون الزهرية؟

- إنه يحبسني في تربة قصيرة المجال

- ولكنه لا يحبسك عن السماء، وهي أرقُ من الأرض وأنفس!

- السماء للفروع، والأرض للجذور، ولا فرع لشجرة لم يثَبتْ أصلها في الأرض، فأمكِنْ جذوري من الأرض، لأطاول السماء بفروعي، كما صنعت مع أختي

- لستُ مسئولاً عن تدليل الأخوات!

- ولست مسئولة عن إمتاعك بدوحة تصدُ الهجير عن دارك.

- أفصحي، أيتها الشجيرة، عما تريدين

- أنت فرقتني بيني وبين أختي، ثم أنصفتها وظلمتني!

- قولي غير هذا القول، فقد حفظتُكِ بداري في مصر الجديدة، وأرسلتها إلى داري في سنتريس، وداري هنا تنال من رعايتي أكثر مما تنال داري هناك. فما شكواك، أيتها البلهاء؟!

- شكواي من القانون!

- أي قانون؟

- قانون الزهرية

- وما عيبُ قانون الزهرية؟

- إنك تتجاهل تجاهل العارف

- ولعلني أتعالم تعالم الجاهل!

- حوشيتَ من تعالم الجاهلين! وهداك الله إلى إخراجي من سجن القوانين!

- أوضحي يا بُنَيَتي

- اخلع نعليك أوضح لك!

- يا سفيهة؟

- لست بسفيهة، وإنما أحبُ أن تحدثني عن السبب في طول قدميك - كان ذلك لأني كنت في طفولتي وحداثتي من الشياطين، والشياطين لا يلبسون النعال، فطالت قدماي!

- وهنا الشرح لقول العرب (فلان ثابت القدم) فالقدم لا تَثبُت إلا بعد اتصافها بالعَرض والطُّول

- تلك عبارة مجازية

- العبارة المجازية فرعٌ عن العبارة الحقيقية، فالقدم لا تطول إلا بفضل التحرر من القيد. والنعل قيد، وإن زعموا أنه يقي القدمين متاعب الحفاء، وهو يصنع بالأقدام بعض ما تصنع الزهريات بالشجيرات

- أوضحي، يا حمقاء!

- الزهرية حفظتْ عليَّ شكلي الأول، فأنا كما عهدتَ منذ سنين، والمخلوقُ الذي لا يتغَّير ميِّتٌ ميت، لأن الحياة تجدُّدٌ وتغيُّرٌ وتبديل، وذلك حظ أختي التي حُرِّرت من قانون الزهرية فأُلقيت في أحضان الأرض البَرَاحِ بسهول سنتريس

- أوضحي، ثم أوضحي!

- عند التحرر من سجن الزهرية يكون من حق الشجرة أن تساور ما في الأرض من زادٍ طيّب أو خبيث، فتكون لها طعوم مختلفات، ويكون لها في كل يوم لون أو ألوان، وكأنها الأديب الذي يقرأ في لغات مختلفة لحكماء مختلفي الأفكار والأذواق

- أوضحي، أوضحي!

- خلصني أول من سجن القانون

- أي قانون؟

- قانون الزهرية

- ولكن هذا القانون هو الذي حماك من التغير والتلون، وحفظ عليك هذا الشكل الجميل؟

- الجمال الذي لا يتغير ولا يتلون هو جمال التماثيل، وأنا شجرة لا تمثال

- أيجوز أن أساعدكِ على التغيُّر والتلوُّن والتقلُّب؟

- ليكون من حقك أن تقول إنك تتأدب بأدب الله، وهو عز شأنه قد أفتنّ أعظم الافتنان في إبداع الألوف والملايين والبلايين من الملامح المختلفات في اللغات والطباع والأحاسيس.

وإذا كان رقم الديشيليون صورة وهمية فهو في أفعال الله صورة تقريبية، لأنه قد يعرّض الفرد الواحد من عباده لآراء وأهواء تفوق الدشالين

- وتريدين أيتها الشجيرة أن تكون أن تكوني كذلك؟

- خلِّصني أولاً من سجن القانون

- أي قانون

- قانون الزهرية!

- يظهر أننا لن ننتهي من هذا الحوار السخيف!

- أمِن السخف أن أطالب بحقي في الحرية؟

- أية حرية؟

- حرية الجذور في اعتصار أمواه الأرض

- وفي تلك الأمواه ما هو خبيث

- الحياة لا تعرف الفروق التي يعرفها الآدميون في تقسيم الأشياء

- ماذا تقولين؟

- أقول إن الحياة مزاجٌ من الحُلو والمُر، والطيِّب والخبيث، وهي نفسها لا تلتفت إلى هذه التقاسيم، ولعلها تجهل الفرق بين الريح الصَّرصر والنسيم العليل

- وإذن؟

- وإذن لا يكون الخير كل الخير لشجيرةٍ مثلي أن تكتفي بشرب الماء المقَّطر، وأن تعيش في تربة ضيقة الحدود، وإن كانت غاية في النقاء، ولا ينفعني بشيء أن تتلطف فتحييني في غدوك ورواحك مرة بالعربية ومرة بالفرنسية، كأنني إحدى بنات الجيران!

- ألم يثمر فيك الجميل، يا شقية!

- أيَّ جميل؟ خلَّصني من سجن الزهرية لأمتصَّ ما في الأرض من عذوبة ومُلوحة، ولأصاول ما فيها من أسباب النعيم والشقاء، فما تضخم شجرة، ولا تستفحل فِكرة، ولا يستحصد عقل، إلا بمكابدة ما في الوجود من أطايب وصعاب

- وما جزائي على الصنيع المنشود؟

- هل تجهل أني سأصير دوحة تصدُّ الهجير عن دارك؟ - لا أجهل، ولكني أخاف عليك عواقب الطول والإبراق

- ما تلك العواقب؟

- أنتِ اليوم في أمان لأنك صغيرة محبوبة، فإذا ضخُمت وطُلت وعَظُمتِ فقد صار من حق كل سفيه أن يرجمك بالحصيات الغلاظ لتجودي عليه بشهي الثمار، أو لينتفع بأوراقك في تغذية الدوابّ

- الشجرة الكريمة تجود بالثمر والورق، قبل السؤال

- هذا كلام في كلام!

- خلَّصني من سجن الزهرية، ثم أختبر أخلاقي في البخل والجود

- أنا أعرفك أنكِ من سلالة بخيلة

- البخل عن إرادة بابٌ من أبواب العقل، ومهما بخلتُ فلن أبخل عليك، فلن يغيب عني أنك تملك إروائي وإظمائي، وإنك قد تصّيرني حَطباً حين تريد، فأنا مقهورةٌ مقهورة على مسايرة هواك

- ما أنت شجرةَ، إن أنتِ إلا روحٌ جريح

- نعم، فقد تقدَّم أترابي وتخلفتُ، بفضل الحياة تحت حماية القوانين

- قولي كلاماً غير هذا، فبفضل قانون الزهرية عشتِ في أمان، من الغربان

- لأني بقيْتُ صغيرة محبوبة أتلقّى التحيات الآدمية في الصباح والمساء؟

- هو ذلك!

- أنت إذن تجهل فرح الدوحة العظيمة بأن يكون عَرَقُها غذاءَ للسمَّال، وبأن يكون أعاليها ملاذاً لكل خائف، وبأن تكون ثمارها منية كل جائع، وبأن تكون عرضة في كل الأوقات لتطاول الأوباش والسفهاء

- وما الموجب لهذه المتاعب؟

- العظمة في جمع الخلائق من جماد ونبات وحيوان وإنسان لا يتصورها الوهم أو الحس أو العقل إلا محفوفة بالمكاره والصعاب. وليست السعادة بالميزان الذي نعرف به الأقدار الصحيحة لمختلف الخلائق، وإنما الميزان الحق هو الشقاء بالخلق وقد سمعت أنه أشرف ما ظفر به الأنبياء - إن كان الشقاء هو ما تبتغين فقاسميني حظي، يا شجيرتي الغالية

- أنا أطلب الاستقلال

- حتى في الشقاء؟

- حتى في الشقاء، لأشعر بقوة الذاتية

- وهل تضعف الذاتية حين يتساقى المحبون كأس العذاب، شفةً إلى شفة، وقلباً إلى قلب؟

- أنت تحبني؟

- وأي حبّ؟ ألا تذكرين أنني سقيتك مرات كثيرة من دموعي؟

- متى كان ذلك؟

- إن ذلك يقع في كل يوم، وفي غفلة الجنّان، فأنت وليدة الحب والدمع، لا سليلة الماء والطين

- وكيف خصصتني بهذا البِرّ النفيس؟

- جمع بيننا اليتم القاسي، فأنت يتيمة في صحراء مصر الجديدة، وأنا يتيم في بيداء الوجود، ولن تظمأي ولن تجوعي وأنت في ضيافة قلبي وروحي، وما حبستك في سجن الزهرية إلا رغبة في أن يطول نعيمُك بالطفولة الغافية، أيتها اليتيمة العصماء. . . خذي حياتك أيتها الشجيرة من عطفي وحناني، فما لك بعدي أبٌ ولا أخٌ ولا صديق، أنا نصيبُك من دنياك كما كنت نصيبي من دنياي، وضلوعي هي زادك من القُوت إن عزّت الأقوات

- أكنتُ حقَّاً نصيبك من دنياك؟

- أنت الصديق الذي لم يتغّير في مدى سبع سنين، فأوراقُكِ أوراقك، ومَرآك مرآك، بفضل القانون

- أي قانون؟

- قانون الزهرية، يا بلهاء، فهو الذي حفظ عليك نعمة الشباب

- وتريد أن أظل يتيمة طول حياتي؟

- لا يوصَف باليتم غير الأطفال، فإن أبحتُك مُلوحة الأرض فلن تظفري بعد اليوم بملوحة دمعي، لأن الأرض ستصيرك بعد قليل مرأةً شمطاء

- سعادة القاصرين لا تقاس إلى شقاوة الراشدين - أوضحي، يا حمقاء

- قد أوضحتُ، ثم أوضحت، فأتمم جميلك وامنحني الحرية والاستقلال

- منحتك الحرية والاستقلال

- كنت بالأمس راعياً وأنت اليومَ صديق، وما أبعد الفرق بين الراعي والصديق

زكي مبارك