الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 472/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 472/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 20 - 07 - 1942


للدكتور زكي مبارك

انتخاب بطرك الأقباط - أسئلة وأجوبة توضح المشكلة القبطية

- بين الصنعة والطبع - موقعة العلمين - اختيار لون الموت

يدل على حيوية الذوق

انتخاب بطرك الأقباط

البطريرك كلمة يونانية الأصل، أو لاتينية الأصل. ومن الطريف أن نذكر أن كازيميرسكي يجعل البطريق (بالقاف) من اللاتينية، ويجعل البطرك (بالكاف) من اليونانية، برغم تقارب مدلول الكلمتين. وأنا أترك تحقيق هذه المسألة لحضرة الباحث المفضال الأب أنستاس، فهو بها من الخبراء.

والذي يهمني هو أن أشرح لقراء الرسالة مشكلة تثور اليوم في البيئات القبطية، وشرحها لا يخلو من نفع، لأنها تنطوي على دقائق اجتماعية وأخلاقية، ولأن من الخير أن يعرف قراء المجلات الأسبوعية حقيقة ما يُنشر بلا شرح في الجرائد اليومية. فإن وقع في كلامي شيء من الخطأ فليتفضل بتصحيحه أحد المطّلعين من أفاضل الأقباط.

وأواجه الغرض فأقول: الأصل أن يُنتخَب البطرك من الرهبان، وقد سارت الأمور على هذا الأصل في جميع العصور الخوالي، ثم انحرفت عند انتخاب البطرك السابق، فقد انتُخب وهو مطران، وبانتخابه على ذلك الوصف ضاع أعظم حق من حقوق الرهبان.

والذين قرءوا ما نشره سعادة الأستاذ توفيق باشا دوس في جريدة لابورس يدركون أن المشكلة ستثار من جديد، مشكلة المفاضلة بين الراهب والمطران في انتخاب الرئيس الديني للأقباط. . . فما حجج الفريقين؟

حجة القائلين بأن يُنتخب البطرك من الرهبان تقوم على أساس متين، وهو سلامة الانتخاب من المؤثرات المالية، لأن الرهبان لا يملكون شيئاً على الإطلاق، فمن المستحيل أن يشتروا أصوات الناخبين، وإذن يكون مرجع المفاضلة بين راهب وراهب هو الشهرة بالتقوى والورع والقنوت.

وحجة القائلين بأن ينتخب البطرك من المطارنة تقوم أيضاً على أساس، فهم يرون أن المطارنة قد يعرفون من شؤون المجتمع ما لا يعرف الرهبان، بغض النظر عن تعرّض الانتخاب لمؤثرات مالية أو اجتماعية.

وهنا يسأل القارئ عن المصادر التي تجعل المطارنة أغنياء، بحيث يتناضلون بالقُوى المالية عند الانتخاب.

ونجيب بأن البلاد المصرية من الوجهة القبطية مقسَّمة إلى أبرشيات (والأبرشية كلمة يونانية معناها الإقليم) ولكل أبرشية مطران، فيقال: مطران المنوفية، ومطران البحيرة، ومطران جرجا، ومطران أسيوط، إلى آخر التقاسيم.

ولكن كيف يغتني المطران؟

يغتني من (العوائد) وهي جمع عادة، كما تُجمع حاجة على حوائج، ولك أن تجعل مفردها عائدة، إن تناسيت العُرف، وهو من أهم الأسندة اللغوية. فما تلك العوائد؟

حين يتلطف المطران بزيارة أحد البيوت يكون على أهل ذلك البيت أن يتلطفوا بتقديم (العادة) وهي مبلغ من المال يقلّ أو يكثر تبعاً لقدرة أهل البيت، فيكون جنيهاً أو جنيهين، وقد يصل إلى عشرين. ومن هذه العوائد تتكون ثروة المطران، وهي ثروة مستورة لا تتعرض لرقيب ولا حسيب، وإن كان المفهوم أنها تُجمع لإسعاف المرضى ومواساة المحتاجين، وهي بالفعل مصدر خير لأولئك وهؤلاء.

بعد هذا الشرح نفهم كيف يخاف الراهب صولة المطران عند الانتخاب، فالراهب يتقدم بالدين، والمطران يتقدم بالدين والمال. وقد سمعت أن للمال سلطاناً على أصوات الناخبين، وسمعت أيضاً أنه يزيد الأتقياء جلالاً إلى جلال. وهذا وذاك يؤكدان خوف الراهب من مناضلة المطران.

أسئلة وأجوبة

س - هل من الحتم أن ينتخَب بطرك الأقباط من هيئة دينية؟

ج - يجوز انتخابه من هيئة مدنية إذا قلَّت الصلاحية لهذا المنصب في الهيئات الدينية، لأن الغرض هو إقامة راعٍ موصوف بالصدق والعدل، ولو كان من المدنيين

س - هل فكَّر أقباط مصر قبل اليوم في انتخاب بطرك من الهيئة المدنية؟ ج - بعد موت البطرك الأسبق كان من بين المرشحين لهذا المنصب رجلٌ مدنيٌّ هو الأستاذ سابا حبشي؛ ويقال إنه نال كثيراً من الأصوات؛ وهذا يدل على استعداد الأقباط لتشجيع العقلية المدنية في الحياة الدينية

س - إذا توفرت الشروط في الرجل المدني، فما الواجب لإيثار الرجل الديني؟

ج - يرى الأقباط أن منصب البطرك هو مصدر الحياة للدير، فمن الخير أن تبقى لسكان الديارات آمال في السيطرة الروحية على الجمهور القبطي، وهي تُعرَّض للزعزعة إن ضاع منهم ذلك المنصب المرموق

س - وما الخطر من زعزعة مركز الدير؟

ج - الخطر عظيم، لأن الدير هو أكبر الخصائص في المسيحية؛ وضعضعة الدير تضعضع هيبة الرهبان

س - وما الموجب للإبقاء على الرهبانية؟

ج - الرهبانية مفروضة على البطرك، ولو انتُخب من بين المدنيين

س - ألا تظنَّ أن رهبنة المدنيّ أرقُّ وألطف؟

ج - أقباط مصر يقولون بغير ذلك، وهم يرون أن الرهبنة لا توصف بالرقة ولا باللطف، وإنما توصف بالتقشف والزهد والقنوت

س - هل ترى أن البطرك القادم من سجن الدير يصلح لمقابلة الوزراء والسفراء؟

ج - أقباط مصر لا يطلبون البطرك لمقابلة الوزراء والسفراء، وإنما يطلبونه لمواساة اليتامى وهداية الأشقياء، ولا يكون كذلك إلا حين تغلب عليه الهيبة الدينية

س - وإذا صَلَح الرجل المدني لتأدية هاتين الوظيفتين؟

ج - يكون أصلح الرجال على شرط أن ينتخَب من طريق لا تعترضه الشبهات

س - وما الشبهات التي تعترض ذلك الطريق؟

ج - هي الشبهات التي ألمعتُ إليها في مطلع هذا الحديث

أما بعد فهذه صورة لما يعتلج في صدور أقباط مصر بعد موت البطرك، وإني لأرجو أن يُكتب لهم التوفيق في اختيار البطرك الجديد، فهم مواطنون أعزاء، واطمئنانهم إلى رياستهم الدينية يقع من أنفسنا موقع الجذل والارتياح وسبحان من لا يقع في مُلكه إلا ما يريد

بين الصنعة والطبع

إذا كتبت خطاباً في المساء فأتركه بلا تظريف، لتَسهُل مراجعته في الصباح، ولتبقى فرصة للحذف منه أو الإضافة إليه، فمن المؤكد أن للرأي موجات تختلف باختلاف الأوقات. وقد تُنكر في بياض الصبح، بعض ما كتبت في سواد الليل. وأنت عن تموُّجات رأيك مسئول.

كذلك أصنع في خطاباتي ومقالاتي لهذا العهد، ولم أكن أصنع ذلك من قبل. وإن زمناً يكفُّ من جموحي لهو ألأم الأزمان!

ما كنت أعرف الفرق بين التسويد والتبييض، ولا كنت أستبيح معاونة الصنعة على مبالغة الطبع، وكنت أعجب حين أسمع أن في الكتَّاب من ينسخ مقاله مرات قبل أن يطمئن إلى صلاحيته لمواجهة القراء.

كان رأيي أن جري القلم في القرطاس هو جري الجواد في الميدان. . . وللقلم أن يتلفت قبل إصابة الهدف، إن كان للجواد أن يتلفت قبل بلوغ الغرض. . . ومن المحال أن يتلفت الجواد حين ينطلق في ميدان السباق، أو ميدان القتال.

وهذا المذهب في رياضة القلم هو الذي عرَّضني لكثير من الجراح، لأني لا أملك صده حين ينطلق، وهل يملك الجواد مجانبة العثرات حين ينطلق؟

فما بال الأقدار تروضني بعد الجموح، وتفرض عليَّ أن أتلَّفت ذات اليمين وذات الشمال وأنا أجري في ميدان البيان؟

وما هذا الذي أعاني من زماني؟

أليس من المزعج أن أصبح من مخاطر القلم في أمان، لأن الظروف توجب أن يراعي قلمي أشياء لا يراعيها الجواد حين ينطلق في الميدان؟

وما قيمة الحياة الأدبية إذا خلت من المخاطر والمهالك والحتوف؟

أنا لا أعدّ الكاتب فارساً إلا إذا استطاع بكل سطر، أو بكل حرف، أن يعرّض قراءه إلى الاشتباك في حروب مع معاني والآراء والأهواء.

فأين أنا مما أريد؟

وأين الفرص التي تسمح بأن أجرّد من قلمي مِشرطاً يرفع الغشاوة عن أعين أبناء الزمان؟ أنا اليوم أضمن السلامة من جرائر قلمي، كارهاً غير طائع، لأن النظام في هذه الأيام يصدّ الأقلام عن عنت الجموح والطغيان

قلمي

كيف مرّت شهور بلا جراح يُدميها سنانُك؟

وكيف أمِنتُ شرَّك، ونجوت من طغيانك؟

كيف وكيف؟؟

بيني وبينك ميعاد وميثاق، والأحرار لا يخلفون المواعيد، ولا ينقضون المواثيق.

موقعة العلمين

العَلَمين اسم بقعة في الطريق بين الإسكندرية ومرسى مطروح، وهي مثنّى عَلَم، وقد صارت بفضل حرب الصحراء الغربية أشهر من نار على عَلَم أو على عَلَمين!

والذي يراجع أخبار الصيال بين قوات الحلفاء وقوات المحور في الصحراء يعرف أن تلك القوات لم تقف وقفة أطول من وقفتها في العلمين، فهل كانت المقادير أرادت أن يكون لتلك التسمية هذا المصير فتكون تلك البقعة مكان الصراع بين العَلم المهاجم والعَلم المدافع؟

اللهم حوالَيْنا ولا علينا!!

ألوان الموت

لك أن تقول ألوان الموت، كما تقول ألوان الطعام وأصناف الشراب، ومن حقك أن تختار لون الموت، لأنه فنٌّ من الفنون، أو صنفٌ من الصنوف، أو (ضربٌ) من الضروب، ولعل من واجبك أن تفكر في اختيار لون الموت، لأن ذلك يشهد بأنك من الأحياء. وهل يفاضِل المرء بين لون ولون إلا وهو في حيوية ذوقية أو روحية تضيفه إلى أكابر الفنانين؟

ولتوضيح هذا المعنى أسوق الحادثة الآتية، وقد وقعت في مساء اليوم السادس من هذا الشهر الميمون:

قُبَيْل الغروب هبّت عاصفة عنيفة، عاصفةٌ كادت تنقل إلى داري جميع رمال الصحراء، جزاءَ بما صنعتُ من التغنّي بإشراف داري على الصحراء!

وفي ثورة تلك العاصفة يترنم الهتَّاف، فأسمع صوت المسيو دي كومنين يدعوني إلى سهرة تدور فيها أكواب الحديث، وهو لا يقدِّم لأضيافه غير أكواب الحديث، لأنْ العقَل نهاه عن الشراب قبل أن ينهاه الطبيب.

وما كادت العاصفة تسكن حتى سلكت الطريق إلى ذلك الصديق، وهو لا يسلكه عابر في ليله ظلماء إلا إذا كان على مع حبيب

كان المسيو دي كومنين في توحد الليث، فقد قضت ظلمات الأيام الأخيرة بأن يقرّ الناس في بيوتهم، فلا يسمر صديق مع صديق. . . ولا تسأل كيف طابت نفسي حين عرفتُ أنني السمير الوحيد في ذلك المساء، مع رجلٍ صِيغَ روحه من لباب الضياء.

كانت غابة الليسيه في تلك الليلة تكابد الشوق إلى من يتنقل بين أشجارها من وقت إلى وقت، ليُشعرها بأن في الوجود أرواحاً لم تشغلها مزعجات الحوادث عن الاستماع للأغاريد المطوية في ضمير الحفيف. . . وهل تصمت أشجار مصر عن التناجي بالحفيف في أي زمان؟

تحدثنا بجانب كل شجرة، وسلَّمن على كل مكان، حتى المكان الذي أوصى المسيو دي كومنين بأن يدفن فيه، بعد العمر الطويل العريض.

وطال الحديث حتى استغرق أكثر من خمس ساعات، فأستاذنت في الانصراف، بعد أن شكرت للمسيو دي كومنين لطفه البالغ في إمتاع روحي وعقلي بذلك الحديث.

ويهتف هذا الصديق بالسائق ليوصلني بالسيارة إلى داري، فلا يجده، وينادي الحارس ليصل جناحي بضع خطوات، فيعرف أنه يرابط في ناحية نائية، فيعلن أسفه على أني أسير وحدي في ذلك الظلام المحفوف بالحتوف، ولكني أطمئنه فأقول: إني لا أعرف ولا أصدِّق أن في الدنيا رجلاً أقوى مني، فليجرب اللصوص حظهم في مصاولتي، إن كان في (مصر الجديدة) لصوص غير سُرَّاق القلوب، وأنا قد نجوت من المعاطب الوجدانية في مصر الجديدة، فما خوفي على جيبي وقد نجا قلبي؟!

كان الطريق موحشاً أعنف الإيحاش، وكان الليل كأنه الليل!

طاخ، طاخ، طاخ!!!

وألتفت فإذا المدافع تنطلق من كل صوب، ولم يسبقها نذيرٌ من صفارة أو بوق، وأنظر فأرى لهيبها ودخانها يثوران فوق رأسي، فأسرع بالدخول في بيت بلا أبواب، بيت لا يزال في مهد البناء، والمصريون لا يكفّون عن البناء ولو ارتفعت تكاليفه إلى عشرات الأضعاف.

طق، طق، طق!!!

وألتفت مرة ثانية فأرى الأخشاب التي تحمل السقف مهددة بالسقوط، فأقفز إلى الفضاء، وقد اخترت لون الموت، وللموت ألوان: رأيت الموت بشظية مِدفع أفضل من الموت بسقوط تخشيبة، كما أن الموت بالبِطنة أفضل من الموت بالجوع!

ثم نظرت فرأيت الضرب ابتعد، فهو ضرب طيارة إنجليزية تطارد طيارة ألمانية، وقد أفلح الضرب فسقطت الطيارة المطارَدة عند الكيلو رقم 3 بطريق السويس، وكفى الله رأسي شر الهلاك، وضاعت الفرصة على أعدائي، فلم يحبّروا المقالات الطوال في: (مصرع الملاكم الأدبي): والمستميت لا يموت، كما قال الحكماء!!

أفي هذه الأيام نقرأ ونكتُب، ونحاسب هذا الشاعر، ونصاول ذلك الكاتب؟!

نعم، ثم نعم. . . فليحاول الدهر بأحداثه وخطوبه زعزعة الفكر الثاقب والقلم البليغ!

محمد زكي مبارك