مجلة الرسالة/العدد 470/على هامش النقد
→ مرسلات | مجلة الرسالة - العدد 470 على هامش النقد [[مؤلف:|]] |
المصريون المحدثون ← |
بتاريخ: 06 - 07 - 1942 |
كتب وشخصيات
للأستاذ سيد قطب
(عبقرية محمد) للعقاد
(تتمة ما نشر العدد الماضي)
للعقاد منطقه القوي في كل ما يكتب، فقد كان مهيأ أن يكون رياضياً لو لم يكن أدبياً. وتلك علامة الطبع المستقيم. إلا أن منطقه في كتاباته الأولى كان منطقاً وئيداً متمهلاً فيه أيد وصرامة. فأما في (عبقرية محمد) فهو المنطق الجارف المتطلق المتحدر عن غير طريق من طرق الإقناع. مع وضاءة شفافة وإشعاع لطيف.
وفي الكتابة لمسات بارعة من المنطق العميق، أدق ما يصورها قول العوام (ضربة معلم!) وهي كثيرة متناثرة في الكتاب نكتفي منها ببعضها:
يقول قوم: إن الإسلام أستهوى من أسلموا باللذائذ الحسية وبالتخويف من السيف. فما إن يعرض لهذا القول حتى يجهز عليه بلمسة تهتدي إلى موضع الإقناع، أو (بضربة معلم) بارعة في الصميم وإذا هو يقول في موضع: (لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر) ويقول في موضع آخر: (وما يقسم الطائفتين أحد فيضع أبا بكر وعمر وعثمان في جانب اللذة والخوف ويضع الطغاة من قريش في جانب العصمة والشجاعة) فيدرك القارئ أنها الضربة المجهزة التي لا تدع مجالاً للتعقيب، ويعلم كيف ينتفع المؤلف بالواقع المعروف على هذا الوجه الفريد.
ويعيب قوم على الإسلام التجاءه إلى السيف ويسمونه بميسم الإكراه على الدين. فما إن يعرض العقاد لهذه الفرية حتى يجهز عليها في لمسات متتالية أبرزها وأجدّها: (أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف (فكرة) يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع. ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف (سلطة) تقف في طريقه وتحول بينه وبين أسماع للإصغاء إليه. لأن السلطة تزال بلا سلطة ولا غنى في إخضاعها عن القوة. ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، وإنما كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقالي لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء. . . الخ) وعندئذ يبلغ العقاد بهذه اللمسة موضع الاقتناع من كل ذي طبع مستقيم
ويعيب بعض المتعصبين على النبي - عليه السلام - إقراره لقتل كعب بن الأشرف، ولم يكن وقت قتله محارباً بالسيف ويشبهون هذا بما عيب على نابليون من اختطاف الدوق دانجان. فما إن يعرض العقاد لهذا الاعتراض حتى يأخذه بضربة معلم فيقول: (الفارق عظيم بين الحالتين. لأن حروب الإسلام إنما هي حروب دعوة أو حروب عقيدة، وإنما هي في مصدرها وغايتها كفاح بين التوحيد والشرك أو بين الإلهية والوثنية، وليس وقوف الجيش أمام الجيش إلا سبيلاً من سبل الصراع في هذا الميدان. فليس في حالة سلم مع النبي إذن من يحاربه في صميم الدعوة الدينية، ويقصده بالطعن في لباب رسالته الإسلامية، وإن لم ينفر الناس لقتاله ولم يحرضهم على النكث بعهده. وإنما هو محارب في الميدان الأصيل ينتظر من أعدائه ما ينتظره المقاتل من المقاتلين. . . الخ) فتبلغ هذه اللمسة موضع الاقتناع ممن يقتنعون!
ويتحدث قوم عن قسوة محمد لأنه راح ينظر القتلى في ساحة الحرب بعد موقعة بدر، فيضرب العقاد ضربته على هذا الحديث بمثل هذه القوة في صفحات 97، 98، 99، 100 وخلاصتها (أن الرجل الذي يرى الدم في المدنية العصرية غير الرجل الذي يرى الدم في حروب البادية على الإجمال. ونعني بها حياة الرعاة التي تتكرر فيها إراقة الدم كل يوم، وحياة القبائل التي كانت تغزو وتغزي في كثير من الأيام). . . وأنه كذلك (كان على أولئك الناقدين أن يشهدوا بدراً لينظروا بعين النبي إلى عواقب هذه الوقعة التي أوشكت أن تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الإسلام)
وتلوك ألسنة أن محمداً كانت تستهويه لذائذ الحس ويتحدثون في هذا عن تعدد الزوجات. فيعرض العقاد لهذا بضربة من ضربات المعلم حين يقول: (حب المرأة لا معابة فيه. هذا هو سواء الفطرة لا مراء. وإنما المعابة أن يطغي هذا الحب حتى يخرج عن سوائه، وحتى يشغل المرء عن غرضه، وحتى يكلفه شططاً في طلابه، فهو عند ذلك مسخ للفطرة المستقيمة يعاب كما يعاب الجور في جميع الطباع فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته، ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير أو عن عمل صغير؟) ثم يقول: (وأعجب شيء أن يقال عن النبي إنه استسلم للذات الحس وقد أوشك أن يطلق نسائه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة وهو لا يستطيعها) ثم يقول: (ولو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه اللذات أن يجمع النبي إليه تسعاً من الفتيات الأبكار اللائى اشتهرن بفتنة الجمال. . . الخ) فينتهي الجدل عند المنصفين
وهكذا. . . من مثل هذا المنطق المتطلق الوضيء السريع
وللعقاد في (عبقرية محمد) لفتات نفسية وفكرية جديدة، هيأه لإدراكها انفساح في النفس وغنى في الشعور وحيوية في الطبع والضمير
من ذلك قياسه الجديد لعظمة محمد بمقدار ما استحقت من صداقات وبمقدار ما استجابت به لكل من هذه الصداقات: (تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم والحيلة والصراحة والألمعية والاجتهاد وحنكة السن وحمية الشباب)
وقياسه لهذه العظمة في موضع آخر بما انفسحت له من العطف على الصغير والتقدير العظيم، لأن إنصاف العظيم جميل كإنصاف الصغير
وقياسه لهذه العظمة في موضع ثالث بما انفسحت له من الجد والنهوض بعظائم الأمور مع تقبلها للفكاهة وعطفها على المتفكهين
وقياسه لهذه العظمة في موضع رابع بما انفسحت له من طبيعة العبادة وطبيعة التفكير وطبيعة التعبير الجميل وطبيعة العمل والحركة
ولولا الانفساح الكبير في طبيعة العقاد ما تهيأ لإدراك هذا الانفساح العظيم في مثله العليا في هذه النفس الرحيبة، ولما التفت إليه هذا الالتفات وصوره هذا التصوير
ومن هذه اللفتات التي لا محيص من ذكرها - وإن ضاق المقام - التفاته إلى تسمية النبي ﷺ لبعض أدواته وأسلحته بأسماء الأعلام وما فيها من (معنى الألفة التي تجعلها أشبه بالأحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين، كأن لها شخصية مقربة تميزها بين مثيلاتها كما يتميز الأحباب بالوجوه والملامح وبالكنى والألقاب)
لقد تحدث المتحدثون عن عطف النبي وحدبه فذكروا حوادث بره بالناس وبالحيوان. وممن كتبوا في ذلك حديثاً الدكتور هيكل في كتاب (حياة محمد) ثم تحدث العقاد فعرض بأسلوبه وطريقته مظاهر هذا العطف على الناس وعلى الحيوان، ثم تجاوزه إلى هذه اللفتة المشرقة. والزيادة هنا ليست لقصد الزيادة، ولا لمجرد الاستقراء، ولكنها تزاد لنوع جديد من الدلالة لا يدرك ما فيه من طبيعة الألفة والمودة لأول وهلة، ولا تدركه إلا بصيرة نافذة ونفس عطوف وحس شفيف
ويبلغ العقاد قمة اللفتات النفسية البارعة عند تحليله لعقوبة (الهجر في المضاجع) ويتجاوز الظواهر إلى حقيقة البواعث ومكامن الطبائع، وتبدو الخبرة بطبيعة المرأة واليقظة لسيكلوجيتها الصميمة. ولن يتسع المجال هنا لعرض هذه اللفتة، فهي هناك في الصفحات ما بين 214، 218 يرجع إليها من يريد
وفي (عبقرية محمد) بعد هذا كله قصائد إنسانية رفيعة، وإشراقات نفسية وذهنية وضيئة
فأما القصائد فهي هناك في مواضع متفرقة، ولكنها تروع وترفرف في ص26 حين يتحدث عن (عبد الله) فيقول: لكأنما كان بضعة من عالم الغيب أرسلت إلى هذه الدنيا لتعقب فيها نبياً وهي لا تراه. ثم تعود. . . الخ)
وحين يتحدث عن (مولد إبراهيم وموته) في فصل (الأب) فيقول: (ولد الطفل الذي نظر إليه أبوه يوم مولده فأمتد به الأمل مئات السنين بل ألوف السنين، وتخير له الاسم الذي وراءه أعقاب كأعقاب جده الأعلى ليكون أباً ويكون له أحفاد ويكون لأحفاده من بعدهم أحفاد. . .
(ثم مات ذلك الطفل الصغير
(ومات ذلك الأمل الكبير)
ثم يمضي في هذه القصيدة وفي تلك فتحس خفق قلب إنساني عطوف على مصاب قلب إنساني كبير وتلمح رفرفة نفس شفيفة على نفس لطيفة من وراء الآباد والقرون
وأما الإشراقات النفسية والذهنية فهي هناك في مواضع متفرقة، ولكنها تروع وتعجب عند الكلام على محمد (العابد) وهناك صفحات في الإيمان والتفكير كانت خليقة أن يكتبها أحد (الواصلين)! فلعلها محسوبة للعقاد عند جمع درجات الحساب في الكتاب المكنون، ولعله واصل بهذه الدرجات إلى عليين!! وفي عبقرية محمد تقويم صحيح لطبيعة العبقرية، ولطبائع كثير من المواهب والحقائق، عني فيها العقاد دائماً بتوكيد الباعث المكنون في الضمير وإيثاره على ظواهر الأمور (فالعبقرية قيمة في النفس قبل أن تبرزها الأعمال ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يغالي بها التقويم). . . (ولقد فتح الإسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالماً مغلقاً تحيط به الظلمات. فلم يزد الأرض بما استولى عليه من أقطارها، فإن الأرض لا تزيد بغلبة سيد على سيد، أو بامتداد التخوم وراء التخوم. ولكنه زاد الإنسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة فارتفع به مرتبة فوق طباق الحيوان السائم ودنا به مرتبة من الله. . .)
وبعد فإن الجديد في (عبقرية محمد) هو ضخامة الطاقة النفسية التي تستطيع أن تلم بنفس (محمد) هذا الإلمام. هذه الطاقة هي التي لم تتهيأ من قبل لأيٍِّ ممن كتبوا عن (محمد). وهي التي تشيع في جو الكتاب كله، ويتعذر لمسها في نقط خاصة منه
(إن (نفس) محمد العظيمة هي التي يصورها هذا الكتاب أبرع تصوير ويجلوها أحسن جلاء. وتلك هي (عبقرية العقاد) في (عبقرية محمد) على وجه الإجمال
سيد قطب