مجلة الرسالة/العدد 470/المستوى الجامعي في مصر بين الجامعة والأزهر
→ الحديث ذو شجون | مجلة الرسالة - العدد 470 المستوى الجامعي في مصر بين الجامعة والأزهر [[مؤلف:|]] |
مساجلات ← |
بتاريخ: 06 - 07 - 1942 |
للدكتور محمد البهي
لجامعة فؤاد الأول بالقاهرة دعاة ينادون بلا ملل وفي تكرار يشبه الإلحاح بمنزلة (الجامعة) وبالقداسة الجامعية وباستقلال (الجامعة) وبمنحها سلطة مطلقة ليست في البحوث العلمية فحسب، بل أيضاً في التعليم المدرسي والتثقيف الشعبي
وللأزهر من رجاله وأبنائه من يكثر الحديث عن الأزهر وعن تقصيره وعن المسافة التي يبتعد بها الأزهر في سيره العلمي عن المثال الجامعي
وبقدر نموّ سيطرة الدعاة لجامعة فؤاد الأول على الرأي العام المصري، بقدر ما يفقد الأزهر بمن يكثرون الحديث عن بطئه أو جموده في السير الجامعي، من سلطان كان له على الرأي العام الإسلامي وكسبه لمنزلته من العقيدة ومن الثقافة الشعبية
وربما كان هناك غلو فيما ينادي به دعاة جامعة فؤاد الأول، وربما كان هناك غلو أيضاً فيما يصوره بعض الكاتبين الأزهريين يحول بين الإنسان الذي تؤثر فيه الدعاية، إيجابية أو سلبية؛ وتتحكم فيه العاطفة، وبين معرفة الواقع. والرأي العام هو ذلك الإنسان في صورة مكبرة
وربما كانت مبالغة دعاة الجامعة لأنهم من رجال العصر، وربما كانت مبالغة بعض الكتاب الأزهريين لأنهم من رجال العهود السابقة وهي عهود قريبة إلى الطبيعة الساذجة التي لم تلتو بعد
ولكن وراء الداعين من رجال جامعة فؤاد الأول، ووراء المتحدثين عن الأزهر من رجال الأزهر حقيقة تدرك وتتضح في الإدراك، وتصور وتتضح كذلك في التصوير، مدركها من غير هؤلاء وهؤلاء، وهو المؤرخ وبالأخص مؤرخ الحياة العقلية والعلمية لشعب من الشعوب. ومصورها من غيرهم أيضاً، وهو معالج الظواهر الخاصة بأمة من الأمم.
ما هو المثال الجامعي الذي إذا وجد كان للجامعيين دولة هي دولة العلم والفكر، وكان للجامعة قداسة هي قداسة الإرشاد الواضح في النواحي المختلفة لحياة الجماعة الخاصة ثم للإنسانية؟ المثال الجامعي يكون إذا تجردت البحوث عن العوامل الشخصية؛ عن الطائفية وعن الحزبية وعن الدعاية. يوجد المثال الجامعي إذا خلصت البحوث للعلم - بقد يمكن - وبعبارة أخرى إذا غلبت الحكمة على العاطفة والغريزة وسيطر العقل على النفس.
هل حققت جامعة فؤاد الأول هذا المثال الجامعي كما تعطيه دعاية الداعين؟ وهل يبتعد الأزهر كثيراً عن هذا المثال الجامعي كما يفرضه تصوير المتحدثين عن تقصير الأزهر من الأزهريين؟
جامعة فؤاد الأول حوَّلت المدارس العالية لوزارة المعارف في سنة 1925 إلى كليات. وجعلت داخل الكلية الواحدة أقساماً مختلفة حسب مواد الدراسة. وألحقت بكل قسم مكتبة خاصة به فوق المكتبة العامة. وعينت أساتذة مصريين وغير مصريين، ومساعدين للأساتذة، ومدرسين، ومعيدين. أي أنها أتمت النظام الجامعي.
والأزهر الذي أراد أن يكون جامعة منذ عشر سنوات تقريباً حولّ الدراسة العالية فيه إلى كليات وألحق بها أقساماً للدراسات العالية، وأوجد بكل كلية مكتبة خاصة بها غير مكتبته العامة. وانتدب أساتذة من رجال الجامعة، ورجال وزارة المعارف بجانب مدرسيه
والفرق في هذا فقط أن جامعة فؤاد الأول أغدق عليها من مال الدولة - وربما تحت تأثير الدعاية - فكانت لها أبنية فخمة؛ وأنشئ بها كراسي متنوعة للأساتذة ومساعديهم وجلبت لمكتبتها الكتب الحديثة والفنية. وأن الأزهر - ربما لإظهاره بمظهر المقصر في رسالته أو اضعف شيوخه - لم تقتنع الدولة بالزيادة السخية في ميزانيته، ولم يتضح لها من المبررات ما يزحزحها عما تعتقد من أنها متفضلة على الأزهر إذا هي تركت له ما اعتاد إنفاقه سنوياً. والزيادة في الإنفاق في العصر الحديث تكون لزيادة المقابل من منفعة عامة أو خاصة. والأزهر في أوقات كثيرة صور نفسه أو قبل أن يُصور بأنه يُمنح ولا يعطى
هذا الفرق لا يكسب جامعة فؤاد الأول قربها من المثال الجامعي، كما لا يصور الأزهر بعيداً عن هذا المثال، لأن هذا الفرق يتعلق بالشكل، ولأنه نتيجة لقوة سلطان وضعف سلطان آخر ليس سلطان العلم وليس سلطان البحث
رجال جامعة فؤاد الأول أخرجوا كتباً وألفوا. أخرجوا على الطريقة الجامعية كتباً مفهرسة حسنة التبويب والتنظيم، روعي في التعليق عليها إثبات الفروق بين الروايات المختلفة، والتعريف بما ورد فيها من مصادر متعددة. وألفوا كذلك كتباً؛ وألفوا في الفلسفة والتاريخ والأخلاق. ولكن الكثير من هذه الكتب المؤلفة يلازمه الغموض في التعبير عن الفكرة، وتندر أو تنعدم فيها شخصية المؤلف. والغموض في التعبير يدل غالباً على عدم نضوج الفكرة أو عدم هضمها عند المعبر، وضعف الشخصية في التأليف أو انعدامها يدل على سيطرة الروح المدرسية وضعف الروح الجامعية. فإخراج جامعة فؤاد الأول إخراج يسير على النهج الجامعي في العرض، وتأليف رجالها لم يخرج بعد عن النطاق المدرسي؛ وإذا كان للإخراج قيمته في تكييف المستوى الجامعي، فالمقدِّم الأول لهذا المستوى هو التأليف العلمي الذي تبدو فيه شخصية المؤلف واضحة، وليس هو جمعاً لمنثور الفكر أو تنظيماً لمشتت الآراء
فجامعة فؤاد الأول تسير بلا شك في الطريق الجامعي، وقطعت فيه شوطاً لا بأس به، ولكن دونها والوصول إلى المستوى الجامعي خطوات أخرى يشق فيها السير ويكثر فيها التعثر، وهي خطوات الشخصيات العلمية الجامعية
الأزهر أخرج في نطاق ضيق، وألِّف في نطاق ضيق كذلك، لأنه ابتدأ منذ وقت قريب فقط يدرك أنه في حاجة إلى إخراج، وفي حاجة إلى تأليف، وفي حاجة كذلك إلى ترجمة بعد أن كان لا يستطيع أن يتصور أنه في حاجة إلى غير المتوارث من كتب والى غير المألوف من نمط في إخراجها لضغط التقاليد على العقلية فيه، وكما تندر الشخصية أو تنعدم في تأليف جامعة فؤاد الأول، تندر أو تنعدم كذلك في تأليف الأزهريين. ولعل سبب هذه الظاهرة هنا وهناك هو قرب عهد مصر بالنهضة العلمية وقرب عهد المؤلفين - على الخصوص - بالاستقلال الشخصي. ولعل الرغبة في كسب الرأي العام - وهو على ما به من شدة الولع والحرص على التقاليد - من أسباب عدم الاستقلال أو من أسباب عدم الجرأة في الاستقلال
لا أنكر إذا على جامعة فؤاد الأول أنها بدأت العمل الجامعي، كما لا أنكر على الأزهر ذلك الآن؛ ولا أنكر على جامعة فؤاد الأول أن خطواتها في السير الجامعي أسرع من الأزهر، وأنها ستحقق المستوى الجامعي قبل الأزهر، لا لضعف في العقلية الأزهرية، بل لأن للأزهر من مهمته الأولى وهي الدين والمحافظة عليه - ويتبع ذلك التقاليد، وما أشق الفصل بينها وبين الدين - ما يقلل من سرعته في السير، ويعلل بطاه في الوصول إلى المستوى الجامعي، ولكنه سيصل هل لنا الآن - إنصافاً للواقع - أن نطالب الطرفين بالاعتدال في الدعوة لجامعة فؤاد الأول وبالاعتدال في التحدث عن تقصير الأزهر؟ أم لنا أن نطالب الكتاب من الأزهريين في الدعوة إلى أزهرهم بأن يحتذوا سنة رجال الجامعة، إذ ربما يكون هؤلاء أحسن خبرة بالنفسية المصرية وعقلية الرأي العام المصري؟ فالتهويل لم يزل بعد من أخص مظاهر الحياة الشرقية، ولم يزل كذلك سبباً قويًّا من أسباب النجاح في حياتنا المصرية!
محمد البهي