مجلة الرسالة/العدد 47/النقد
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 47 النقد [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 28 - 05 - 1934 |
حول ديوان الينبوع
للدكتور احمد زكي أبي شادي
إنني آسف أشد الأسف إذا كان ردي السابق على الأديب المرتيني يصح أن يوصف بالحدة كما وصفه حضرته، وما كنت أحسبه إلا مثالا للهدوء المقترن بالصراحة. وقد كرر ناقدي الأديب قوله عن الأدباء المصريين: (وإذاً أنا أعود فأردد مرة أخرى، ما عرفت الدكتور وإضرابه من إخواننا المصريين إلا أباة على النقد. يثيرون من أجله المعارك ويتسارعون بسبه إلى الخصام والنزاع). وقد أغناني الشاعر الناقد طلبة محمد عبده برده في عدد مايو من مجلة (أبولو) عن الرد المسهب على الأديب المرتيني، وحسبي هنا أن ألاحظ في إيجاز نقطتين: الأولى أن كل حجة صاحبنا في مؤاخذتي تقدمي إلى الرد عليه في أدب واعتدال، كأنما الواجب علي وعلى أمثالي الخضوع لديكتاتوريته النقدية، فإذا ما ناقشناها في هدوء مناقشة أدبية وصمنا بما وصمنا به، والثانية شهادة مجلة (الضياء) الهندية، وقد وافتني يوم صدور عدد (الرسالة) المنشورة به مقالة ناقدي، فقد ذكرت (الضياء) - وهي من أرقى المجلات الأدبية في العالم العربي - في كلامها على (الينبوع) وصاحبه وتشجيعه للنقد الأدبي أن تشجيعي هذا هو (جرأة نادرة) في هذا الزمن.
إذن ليس هناك يا صاحبي أي حدة ولا تأب على النقد، فأعداد (الرسالة) بين أيدي القراء، كما أن (الينبوع) وغيره من دواويني ومؤلفاتي بين أيديهم، ويمكنهم أن يدرسوا ويقارنوا لأنفسهم بين كتابتي وكتابتك. وفي الحق لم يعرف عني إلا العداء للديكتاتورية الأدبية، سواء أجاءت من ناحية المؤلفين أم من ناحية النقاد، وقد شجعت وسأشجع دائماً النقاش الأدبي البريء لأنه خادم وأي خادم للأدب، ومتى تحقق الاحترام المتبادل بين المؤلفين والنقاد، فلن يؤدي النقاش الأدبي بينهم إلا إلى الخير الأدبي المحض. ولولا هذا الإيمان في نفسي بالنقد وفوائده لصدقت عن التعليق على ما يكتب عني، فجل شعري لنفسي أولا لا للجمهور الذي تتحدث أنت عنه وتود أن تراعيه، وأنا لا أتطلع إلى مدح أو تصفيق لقاء جهودي، وقد أصبحت لا أتطلع حتى إلى محض الإنصاف من معظم معاصري
ومن كان لا يعنيه مدح ولا قلى ... يعف عن المدح العريض ويستغنى وقد تأملت الملاحظات الفنية الجديدة التي جاء بها نقدي الفاضل في مقاله الثاني فأسفت لأنه لم يذكرها في مقاله الأول. ولو كان قد فعل ذلك لما كنت رددت عليه: فقد كان في مقاله الأول يلقي الأحكام كأنه القاضي الأعلى الذي لا مرد لحكمه. وأما في مقاله الثاني فهو ينزع إلى التفسير النفساني ويتحدث عن الذوق الفني وما إلى ذلك. . وهو في موقفه الجديد منع من أن يساءل أو يناقش، اللهم إلا في تذكيري إياه بأن قولي:
كن أنت نفسي واقترن بعواطفي ... تجد المعيب لدي غير معيب
لا يعني شيئاً مما ذكره، وإنما يعني أن الناقد الذي لا يستطيع أن يتمثل نفسية الشاعر وظروفه والعوامل المؤثرة عليه وقت نظمه هو أبعد الناس عن الإنصاف، لأنه سيعيب ما لا يعاب لو أنه تمثل شخصية الشاعر في المناسبة التي نظم فيها ذلك الشعر المنقود. وليس من الحكمة ولا من الإنصاف في شيء أن يتقدم الناقد لي أثر شعري وهو نافر من صاحبه كيفما كانت أسباب ذلك النفور.
إن التحدث عن اللغة الفنية لا أول له ولا نهاية. وقد نقد لغتي من نقدها ممن عرفوا بالتضلع في اللغة والتمكن من الشعر. وفي مقدمتهم السيد مصطفى جواد، ولهؤلاء السادة ما لهم من الذوق الشعري الناضج. أليس هؤلاء إذن أولى من الأديب المرتيني بالحكم في هذا المجال؟ وما معنى انتقاص معارفهم ومناحيهم؟ أليسوا أجدر منه ومني بتحديد ما يسميه باللغة الصحفية؟ ليس لي يا صاحبي أن أزكي نفسي، وإن كان لي أن أدافع عن مذهبي أحياناً، وقد كتب في تقدير روحي الفنية وتعابيري الشعرية غير واحد من الأدباء المشهورين، ومنهم من ناقشك، فلك أن تناقشهم إذا شئت، وأما أنا فلا أجد فيما كتبت من جديد سوى إبهام جديد، إلا في موضع أو موضعين، وليس لي من رد على مثل هذا الانتقاص المبهم غير إنتاجي الجديد. . .
لقد أعجبك قول امرئ القيس
مكر، مفر، مقبلٌ، مدبرٌ، معاً ... كجلمودِ صخرٍ حطه السيلُ مِنْ علِ!
نظراً لما فيه من موسيقى وحركة وخيال، ولا أعرف أن كل شعر امرئ القيس من هذا القبيل، أو أن شعري تجرد من مثل ذلك، كما أني لا أعرف أن مثل هذه الصفات التي شاقتك مرغوب فيها في جميع ضروب الشعر، ومنه ما قد تؤثر فيه موسيقى المعاني والهدوء والتأمل العميق قبل رنين الألفاظ والحركة والخيال الوثاب.
ولك أن تنتزع بيتاً أو بيتين من قصيدة، وأن تقف حائراً مستنكراً، ولكني (وأنا المؤمن بوحدة القصيد والحريص على ذلك) لا أطلب شططاً إذا سألت قرائي أن يقرءوا تلك القصائد كاملةً ليتبينوا مواقع الأبيات بعضها من بعض وما تحمله من المعاني الظاهرة والضمنية إذا ما انتظمتها وحدة القصيد، وله لها حينئذ قيمة مادية وروحية أم ليست لها تلك القيمة.
وقد تفضل الأديب المرتيني ببيان طويل عن نظراته الأدبية العامة وأسلوبه في النظم ونحو ذلك، أشكره عليه لما حواه من الطرافة ودواعي التسلية التي يتحدث عنها. ولا أود أن أشغل فراغ (الرسالة) بالتعليق عليه فذلك أمر يعنيه، وأود بهذه السطور أن أختم تعليقاتي على كتابته شاكراً (للرسالة) منبرها الحر وغيرتها، وشاكراً لناقدي الفاضل تحمسه للفن وللغة العربية السامية.
احمد زكي أبو شادي