مجلة الرسالة/العدد 47/الحياة بعد الموت
→ مملكة في الصخر أو بلاجيوس | مجلة الرسالة - العدد 47 الحياة بعد الموت [[مؤلف:|]] |
صورة من الثورة الفرنسية ← |
بتاريخ: 28 - 05 - 1934 |
ما هو الموت؟
رأي السير اوليفر لودج
حديث الحياة بعد الموت ألذ الأحاديث، ولا سيما إذا أنبأك به خبير يبني ما يقول على أساس علمي. ومن هؤلاء الخبيرين السير أوليفر لودج العالم الطبيعي الإنجليزي. وليس المراد بالطبيعي هنا ما يفهم عادة من هذه اللفظة، أي العالم الدهري المادي الذي ينسب إلى الطبيعة الجامدة ما ليس لها ويحلها محلاً أرفع من العقل، والذي شعاره وشعار طغمته (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) بل المراد بالطبيعي في هذا المقال العالم الذي تفرغ لدرس نواميس الطبيعة وكشف النقاب عن أسرارها وحل ألغازها بانياً ذلك كله على البرهان العلمي
رأيت للسير أوليفر لودج مقالاً في مجلة إنجليزية عنوانه (ما هو الموت). وسأحاول تلخيصه بهذا المقال تاركاً للقراء الحكم فيه وما يستسيغون منه
مهد لموضوعه بمقدمة وجيزة عن كون الموت موضوعاً يدخل الغم على النفوس لأنه سفر مجهول وفرقة لا لقاء بعدها على هذه الأرض. ثم قال ما خلاصته.
إذا شئنا أن نفهم ماهية الموت وجب أولاً أن نعرف ما هي الحياة. وتعريف الحياة ليس بالأمر السهل. فإننا نعرف شيئاً عنها - نعرف أنها ليست صورة من صور الطاقة بل أنها مبدأ للهداية والإرشاد. وتستخدم لذلك الطاقة والمادة ولا يلوح أنها شيء طبيعي البتة
نحن نعيش في فرن من الطاقة المنبثقة من نور الشمس، ولنا قدرة على توجيهها وإدارتها. والدليل على أن الحياة ليست طاقة هو أن في وسع البذرة مثلاً أن تخرج أجيالاً لا يحصى عددها
والحياة تحدث أشياء لا يمكن أن تحدث بغيرها من الصدفة البحرية إلى الكنيسة الكاتدرائية. وذلك بتداخلها هي والمادة، وهذا التداخل أوجب تجهيزها بجسم مادي
وماذا نعني بالجسم؟ نعني به طريقة للظهور أو أداة. فقد يكون للموسيقار موسيقى في روحه، ولكنه يحتاج إلى آلة لإظهارها. فالجسم للنفس كالقيثارة للموسيقار
نحن بنينا الجسم طبقاً لأعمال طبيعية وبلا علم منا، وصففنا دقائق الطعام على شك خاص. ولا ريب أن للشكل معنى
والعنصر الطبيعي والعنصر العقلي متفاعلان. فهل يحتمل أن العنصر العقلي الذي يدبر ويريد ويرجو ويرسم الخطط ويحب، محصور في طريقة ظهوره وعمله وحركته، ومقصور على مركب كيميائي معين، وخصوصاً المركب المعروف باسم البيومن (المادة الزلالية التي توجد فيها نطفة الحياة أو البروتوبلازم). فكرة على غاية من السخافة
إننا نعرف العنصر العقلي على هذه الصورة المعينة، ولكن قد تكون له صور وأشكال لا عداد لها ونجهلها الآن
ونحن مجهزون بآلة نسميها الجسم، وهذا الجسم مصنوع الآن من المادة. ومن السهل تصور صنعة من أشياء أخرى
ولكن هذه العلاقة علاقة المادة بالعنصر العقلي أو النفسي الذي يتسلطن عليها ويستخدمها يمكن فصلها وإنهاؤها، وهذا الفصل والإنهاء هو الموت، فالموت إذاً هو افتراق النفس عن الجسد، ولكنه ليس فناء واضمحلالاً، بل فرقة وخروجاً عن (علمنا الحاضر)
ويقول البيولوجيون الذين درسوا هذه المسألة إن الموت ليس أمراً لازماً للجسم كله، بل إن الخلايا الأخيرة خلايا التناسل لا تموت. والحييوينات الدنيا ذات الخلية الواحدة خالدة. فقد تقتل ولكنها لا تموت بل تنقسم قسمين وأكثر، وتبقى تتقسم وتستمر حية.
أما الأحياء العليا مثلنا ففيها خلايا أخرى غير الخلايا الخالدة، وهذه الخلايا هي التي تموت. ولما كانت تزيد كثيراً على الخلايا الخالدة، فأنها تزول بالتفاعل الكيميائي الحادث في الجسم بعد انفصال الروح عنه، وبذلك يزول الجسم أي أنه يتحول على طول المدى. وقد عرف الشعراء ذلك فقال شكسبير:
(أضجعت هنا في الأرض، ولتنبت أزهار البنفسج الربيعية من لحمها الجميل غير الفاسد)
وقال تنيسن: وليصنع من رماده بنفسج بلاده)
لكن الميت ليس هنالك، بل هو ذلك الذي مر في الجسم ورحل. فلا نخش لفظة الموت. ولا فائدة من القول أن لا موت. بل الموت موجود والمسألة مسألة تفسير وتأويل، فإذا قلت أن لا موت عنيت أن لا فناء. إذ الموتى لم يموتوا، بل لا يزالون أحياء عند ربهم يرزقون كما قال تنيسن، وليست حياتهم الثانية كالحياة الأولى ولكنها حقيقية مثلها يخبرنا الذين رحلوا عنا (يشير إلى ابنه رايموند الذي قتل في الحرب وقال انه ناجاه وكتب مجلداً كبيراً عنه وعن مناجاة الأرواح) بأن لهم أجساماً غير عادية، لكنها محسوسة وجامدة مثل الأجسام الأولى بل أحسن منها.
ويقولون إنهم مسرورون، وانهم لا يحبون العودة إلى الأرض مهما أعطيتهم. وانهم حولنا وأكثر دخولاً وخروجاً معنا مما يخيل إلينا. وكل ما هناك انهم لا يقعون تحت حواسنا
الحياة متصلة غير منقطعة، والموت لا يغير أحوال هذا الكون لانه شيء داخلي يتعلق بالفرد، وليس الموت سوى تغيير في نظره إلى الكون وفي إدراكه لما فيه. فقد كان يدرك نظاماً معيناً فإذا مات أدرك نظاماً آخر. ونحن نسمى ما وراء القبر العالم الثاني أو الحالة المستقبلة، وأما الكون فواحد ولكن هناك حاجزاً. ونحن نعرف الآن ونُعرف على جانب من هذا الحاجز، فإذا متنا عرفنا الجانب الآخر وعُرفنا فيه. وربما عُرفنا ما هناك وعرفنا بجلاء لا يقل عما نعرف ونُعرف هنا
إن في الكون عالماً آخر بل قد تكون هناك عوالم كثيرة غير التي قدرت لنا معرفتها، وليس عالم حواسنا سوى جزء صغير من ذلك الفلك المدار
وقد تسألني: وكيف عرفت أن أولئك الراحلين لا يزالون باقين. فأجيبك بأني لا أرتاب في ذلك لأني أتصل بهم كثيراً. وأنت لا تستطيع أن تشك في وجود الذين تخاطبهم بالتليفون أو اللاسلكي. وليست الحياة شيئاً يفنى ولكنها تظهر بمظاهر شتى، وهذه الحياة الدنيا هي أحد تلك المظاهر
وسنلبس في العالم الآخر أجساداً ونتخذ أشكالاً يمكننا التعارف بها. وإذا نظرنا إلى المسألة بعين العلم الباردة (أي الخالية من العواطف) وجدنا أن هناك حقائق كثيرة تؤيد البقاء بعد الموت، وأنا مقتنع بها بالبرهان التدريجي. ولست أنتظر أن يؤمن كل أحد على قولي هذا، ولكنني أؤكد تأكيداً علمياً أن الحياة شيء دائم، وأنها والمادة تتداخلان زمناً وتتفاعلان، ثم تطلق المادة إلى محيط آخر وبيئة أخرى
وتسألني هل الحياة القادمة أكثر سعادة من الحياة الحاضرة؟ فأجيبك بأن ذلك يتوقف على ما نصنع هنا، وعلى انتهازنا للفرص التي تعرض لنا في هذه الحياة.
ولقد تعودنا المظهر المادي هنا حتى بات يصعب علينا تصور مظهر آخر، بل أن بعضنا لا يستطيعون أن يتصوروه. أما أنا فأستسهل هذا التصور، لأننا في علم الطبيعة نبحث في أشياء كثيرة لا تقع تحت الحس، ولكنها مع ذلك حقيقة كالتي نشعر بها بحواسنا، بل ربما كانت أقرب إلى الحقيقة منها. فإننا جعلنا نحلل المادة وندرس طبيعتها حتى ليصح القول أننا مع كثرة تحليلنا لها نكاد لا نعرف شيئاً عنها
ولو أمكننا أن نرى المادة المحيطة بنا، يعني العلم، لم تظهر لنا كما تظهر عادة - أي جامدة ومحسوسة بل تظهر مثل المجرة كثيرة الثقوب والمسافات الشاسعة بين أجزائها. ففي داخل الذرة أماكن خالية. والدقائق قليلة متباعدة كالسيارات في النظام الشمسي
إنما الحياة في هذه الدنيا تجربة كبيرة، ونحن موجودون هنا لنجرب ونمتحن. ومصائر الوجود في الأبد وفي عين الخالق مفتوحة أمامنا، وهي أبعد مما نستطيع تصوره. وليس الوجود الحاضر على هذا السيار، سوى قصة قصيرة، ومخاطرة وقتية، وسفر زائل، يتبعها ذلك السفر السامي الطويل
فلا تخف لأن الخوف قطعة من العذاب (والمحبة الكاملة تزيل خوفنا) وهذا الكون تحكمه المحبة الكاملة. وهذه هي رسالتي. فلنغن مع المرنم صاحب الزبور (سبحي الرب أيتها السموات واسجدي له)
(ق. س)