مجلة الرسالة/العدد 469/الحديث ذو شجون
→ الحب الضائع | مجلة الرسالة - العدد 469 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
التصوير عند العرب ← |
بتاريخ: 29 - 06 - 1942 |
للدكتور زكي مبارك
علاج النفس - الخادع المخدوع - مداخل الشيطان - صورة
إسلامية - المنافق الجميل
علاج النفس
كتب إلينا حضرة (. . .) الموظف بوزارة المالية خطاباً يذكر فيه أنه يعاني أزمات نفسية تتمثل في تجسيم الخلاف الذي يثور بينه وبين أهله وأصدقائه من حين إلى حين، وهو يستحلفنا بالله أن ندله على طريق الخلاص من هذه الأزمات السُّود
ونحن من جانبنا نستحلفه بالله أن ينظر في الصور آلاتية:
1 - رجلٌ صائم يشعر بأن الصيام قد يحمله على سرعة الانفعال، فهو يتجنب الاصطدام بالناس، لئلا يؤذيهم بغير حق
2 - رجلٌ ترك التدخين بعد طول العهد بالتدخين، فهو يعرف أنه في الأيام الأولى محتاج إلى التصبُّر، ومضطر إلى البعد قليلاً عن المجتمع، لئلا يحمله ضيق النفس على الوقوع في محرجات لا تليق
3 - رجلٌ مأزوم يخفي كربه عن زوجته وأبنائه، فهو يبتعد عامداً عن الحديث في المطالب المعاشية، لئلا تلوح فرصة يثور فيها كربه فتنفرج شفتاه عن بعض الألفاظ الغلاظ في إيذاء الزوجة والأبناء
4 - قاض ينسحب من الجلسة وقد أحسّ بنوبة مَرضية خوفاً من الإضرار بالمتقاضين، لأنه يعرف أن العلة ولو كانت خفيفة تعرّض أحكامه للاعتلال
5 - مدرس غاضب على أحد التلاميذ، وهو لحرصه على النزاهة يرفض امتحان ذلك التلميذ، لئلا يؤثر غضبه في تقدير الدرجات، وهو نوع من القضاء
6 - غريب يشعر بالضجر من أحد البلاد، فيمنعه العقل من اغتياب ذلك البلد، إيماناً بأن الغربة قد تلوِّن أحاسيس المغتربين بالحزن والانقباض، فهم يرون الدمامة ويعمَوْن عن الجم 7 - خصمٌ شريف يعرف أن الخصومة قد تُفسد أحكام الرجال على الرجال، فهو يحاسب نفسه قبل أن ينطق بكلمة تسيء خصمه اللدود
فما رأيك في هذه الصور السبع، ولها أمثال تفوق الإحصاء؟
إن كان حكمك على هذه الصور يوافق أحكام أولئك الرجال فادرس نفسك وزمانك لتعرف أنك معرض لآفات نفسية تفرضها عليك الظروف في هذه الأيام (البيض)
أحترس كل الاحتراس من نفسك في هذه الأوقات، واعلم أن سلامة الأعصاب تعرضتْ لمصاعب لا تطاق، ومن النادر أن تجد رجلاً يساير الحياة بقلبٍ سليم، وقد قضت متاعب الحرب بأن يصير الناس جميعاً مجنَّدين، ولو كانوا من سكان المغاور والكهوف
يومك الحاضر متعب، ولا تمر فيه لحظة بلا منغصات، ولذلك أرجوك أن تسارع فتتهم نفسك قبل أن تتهم الأهل والأصدقاء عند اشتجار الخلاف
ومن المؤكد أن (مرض العصر) لا يمسك وحدك، لأنه وباء، والوباء لا يقتصر شره على الأفراد، فهو يمس الجميع بلا استثناء
فهل تكون عند حسن الظن بك فتقف موقف الطبيب من مرضاه؟
ومع من تجسَّم الخلاف؟
إنك تعامل أقواماً ضعُفت أعصابهم أقبح الضعف، بسبب المضجرات التي ساقتها أعوام الحرب، فهم في حقيقة الأمر مرضى لا أصحاء، والعاقل لا يطالب المريض بما يطالب به الصحيح
وأنا مع هذا أنصحك بما لا أنصح به نفسي، فأنا أكتب هذه الكلمات في أعقاب ثورة نفسية قضت بالقطيعة بيني وبين صديق لا ذنب له غير العيش في أيام تُجسَّم فيها أشباح الهفوات
وما جاز عندي أن أنصحك بما لا أنصح به نفسي، إلا لأني أرجو أن تكون قدرتك على نفسك أكبر من قدرتي على نفسي. . . وليتك تتأدب بأدبي، فأنا لا أنفض يديَّ من صديق إلا بعد الصبر عليه عدداً من السنين الطوال، ثم لا يكون عقابه غير الهجر الجميل
لطف الله بي وبك، وهداني وهداك!!
الخادع المخدوع
هو من يوهمه اللؤم أو توهمه الحماقة أن صداقات الرجال تُنال بالرياء، وأن لُطف المحضر يغني عن صدق المَغيب
الصديق الحق هو الذي يستطيع أن يغزو قلبك بأشعة روحانية توحي إليك أنه أنيسك في النعماء، وحليفك في الضراء، وأن وداده الصحيح هو القبس الذي تستضيء به عند اعتكار الظلمات
الصديق الحق هو الذي يدرك بوضوح أن الصداقة تفرض عليه أن يكون سنادك في جميع الأحايين، وأن يؤاخي من آخاك ويعادي من عاداك، ولو كنت على ضلال. وهل يستطيع الصديق أن يرى في صديقه غير كرائم المناقب وروائع الخصال!
ليس بصديق من يرى عيوبك، أو يسمع فيك أقوال مبغضيك. وليس بصديق من يجوز عنده أنك واحد من الناس يقترب إليه باسم الصداقة، ويبتعد عنه باسم العقل. وليس بصديق من لا يراك في جميع أحوالك أشرف الرجال
إن استباح الصديق أن يتعقب صديقه بالملام، في جد أو في مزاح، فهو عدو يلبس ثوب الصديق
قال الرسول عليه السلام: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)
وقد أوَّل قومٌ هذا الحديث فقالوا إن نصر الأخ الظالم هو نهيه عن الظلم
وأقول إن هذا الحديث الشريف يرمى إلى غاية لم يفطن إليها أولئك المؤولون، وهو عندي دعوة إلى العصبية الأخوَّية، وهي الغاية في شرف الإخاء، وتلك العصبية توجب أن نكون في صفوف الإخوان ولو كانوا ظالمين، لأن الوداد الصحيح هو الاشتراك الوثيق في المحاسن والعيوب
أقول هذا وأنا أعلم أن في خلق الله من يثور على هفوات صديقه ليتسم بالنزاهة والعدل، ولو عقل لأدرك أن مؤاخذة الصديق - ولو بحق - هي أقبح ألوان الظلم والجور والإجحاف
مداخل الشيطان
إن جاريت العقائد الدينية فالشيطان مخلوق يوسوس لك بلا انقطاع ليضلك عن سواء السبيل. وإن جاريت المذاهب الفلسفية فالشيطان هو هواك، وأنت بين هذين الفرضين مسئول عن مقاومة هذا الهوى أو ذلك المخلوق، لأنه في حاليْة مشئوم مشئوم ينزع الشيطان فيقول: لك أن تختار بين إيثار صديقك وإيثار الحق
وعند هذه الفكرة المضللة تلتفت فترى الحق أجدر بإيثارك فتثور على الصديق
ثم تلتفت مرة ثانية فترى ناساً يُعجبون بشجاعتك ونزاهتك لأنك آثرت الحق على الصديق
وتلتفت مرة ثالثة فتراك وُصفتَ بأوصاف لطاف هي منحة الشيطان لمن يثور على الصديق
ثم تلتفت مرة رابعة فتراك مسئولاً عن تبرير ثورتك على الصديق، ولا يتم ذلك بغير مآثم يكون منها أنك أشرف من صديقك، ولا يقول رجلٌ إنه أشرف من صديقه إلا حين يُشرف على هاوية الانحطاط!
إن الإفك في محاربة عدوّك أشرف من الصدق في محاربة صديقك، ولك أن تقول إني أفضّل الإفك على الصدق في بعض الأحيان
عِرضُ الصديق هو عِرضُك، ولن تكون رجلاً إلا حين تفرح بضلال صديقك قبل أن تفرح بهُداه
كن صديقاً صدوقاً، ثم تجرّدْ من سائر الفضائل إن شئت، فما يقيم الله وزناً لغير أعمال الصديق الصدوق
اسمع كلامي، يا غافل، إن كان لك سمعٌ أو قلب، اسمع ثم أجبْ:
هل تعرف لأي سبب قلّت الصداقات في هذه السنين العجاف؟ وأساعدك على الجواب فأقول:
قّلت الصداقات، لأنها جواهر نفيسة وكريمة، ونحن في زمن لم يرتفع فيه غير ثمن الرغيف المخلوط بالتراب. . . وما أُحب أن أزيد!
صورة إسلامية
في أحد أيام سنة 1938 - وكنت ضيف العراق - أطلعني السيد صادق الوكيل رحمه الله على قصة صدرت في بيروت تسمى (خطيئة الشيخ) أو (توبة الشيخ) فما أذكر اسمها بالضبط، ولعل إحدى المكاتب ترسلها إليّ بالثمن محوّلاً على البريد فأعرف ما فيها من مقاصد وأغراض
أخذ السيد صادق الوكيل يقرأ من تلك القصة صفحات معيّنة، وهي الصفحات التي يشرح فيها المؤلف كيفية الوضوء وكيفية الصلاة، بصورة مُزِج فيها القَصص بالتعليم، ثم عقّب فقال: ترضيني هذه الطريقة، فأنا أخشى أن يجيء يوم ننسى فيه كيفية الوضوء وكيفية الصلاة!
وفي صيف سنة 1939 قضيتُ أياماً في الإسكندرية لأستكمل الصور المنشودة لكتاب (أدب الشواطئ) وهو كتابٌ صرفتني عنه صروف الحرب، أو صرفني عنه إقفار الشواطئ من احتراب العيون والقلوب، وسأرجع إلى إتمامه ونشره يوم يرجع الأمان إلى صدر الزمان
وأواجه الغرض من هذه الكلمة فأقول:
في ساحة الفتون بالشاطئ الإسكندري لقيني الشيخ محمد أبو العيون، وهو أزهريٌّ طيب القلب جداً، وقد تهمّ حين تراه بأن تسأله الدعاء، على قلة هذا النوع في هذا الجيل، وإني لأرجو أن يتفضل فيذكرني بالدعوات الصالحات حين أخطر في البال
كنت أمتع عينيّ بأحد ملاعب (التِّنِسْ) في الشاطئ حين لقيني الشيخ محمد أبو العيون، ولملاعب التنس فوق الشاطئ الإسكندري جاذبيه تفوق الوصف، ولكن قدوم هذا الشيخ الصالح صدّني عن ذلك النعيم، وأشعرني أن للتقوى جاذبية رائعة، وأن النظر في وجه الرجل العابد يوحي من اشعر ما لا يوحيه النظر في طلعة البدر الوهاج
ولم يكن بدٌّ من صحبة هذا الشيخ في ذلك الوقت، وكانت الشمس تتأهب للاستحمام، وهي تستحم في البحر كل يوم قُبَيل الغروب، ولعل هذا هو السبب في أن جسمها خالد الإشراق!
- هل يضايقك أن نتعشى معاً، يا حضرة الدكتور؟
- أنا لا أتناول طعاماً بالليل، ويكفي أن أكون في ضيافتك الروحية
- تعال معي إلى الفندق، فهنالك مشكلة ينفع في حلها تعاون الرفاق
- وما تلك المشكلة؟
- خادمٌ بالفندق يرفض أن يتعلم كيفية الوضوء وكيفية الصلاة، مع أني عرضت عليه خمسة قروش. ولو أنه استزادني لزدته؛ ولكنه يرفض
مضينا معاً إلى الفندق لحل تلك المشكلة، وأنا أبتسم ابتسامةً تخفي على الشيخ، فمن (المضحك) أن يُفكر روّاد الشواطئ في تعليم خدّمّة الفنادق كيفية الوضوء وكيفية الصلاة
ونظرتُ إلى الخادم فرأيته فتىً تشهد ملامحه بأنه مسلمٌ لفظاً لا معنىً، وأن طول عهده بخدمة الفنادق والقهوات راضه على اليقين بأن المصطافين ليس فيهم من يذكر الله بصدق وإخلاص. . . وهل تزار الإسكندرية في الصيف لأداء الصلوات؟
عَرض الشيخ من جديد خمسة قروش، وعرضتُ عشرة قروش فقبِل الخادم (وهو يضحك ضحكة السخرية) أن يطيعنا فيتعلم كيفية الوضوء وكيفية الصلاة
أخذ الشيخ يعلَّم الفتى كيفية الوضوء بإيجاز، وكان الموقف في جملته من غرائب المضحكات، لأن قروش الشيخ وقروشي جعلت الفتى من المأجورين المأزورين، ولا قيمة لعبادة يكون جزاؤها بأيدي الناس!
كان الفتى يضحك ويلعب، ثم تغيَّر وجهه فجأة فصار في خشوع النسّاك، واحتجزّنا ساعتين لنعلَّمه سائر الفروض الإسلامية، ولم يَفُته أن يردَ القرَوش التي أخذها من الشيخ والقروش التي أخذها مني، برغم الإلحاح في قبول الهدية، وكانت حجته أنه قضي في صحبتنا لحظات هي أثمن وأنفس من أطايب الأموال
وفي الأسبوع الماضي زرت الإسكندرية لبعض الشئون، فراعني أن أجد فتى يهجم على يدي فيقبّلها بحرارة وشوق، ثم يسألني الدعاء، وهو الفتى نفسه، الفتى الذي علَّمناه كيف يصلي وكيف يصوم
خُذ علمي وأعطني إيمانك، أيها الجاهل السعيد، فلا حياة للعلم بدون إيمان
المنافق الجميل
هو شجرة الخِلاف أو الصَّفصاف، وهي شجرة غرستُها بيدي عشرات المرات، قبل أن أهاجر من سنتريس إلى باريس
لا يدوم جمال هذه الشجرة غر سنتين أو ثلاث، ثم تُخّوَّخ، والتخويخ في عُرف أهل مصر هو أن تعتلّ الشجرة بعلة الجوف، فيكون لها ظاهرٌ صحيح، وباطنٌ عليل، على نحو ما تكون شجرة الصفصاف بعد أعوام قصار، وعلى نحو ما تكون ضمائر الأصدقاء المزيّفين بعد أيام طوال!
رجال القلم هم أطباء النفوس والقلوب والعقول، والطبيب بلا مَرَضى كالمحامي بلا قضايا والمدرس بلا تلاميذ
ومن أجل هذا أحبك، أيها المنافق الجميل، لأن وجودك فرصة لدرس الغرائز والسرائر والأهواء
أدامَ الله عليك نعمة الغدر، وأدام عليَّ نعمة الوفاء.
زكي مبارك