مجلة الرسالة/العدد 468/مثل المصرية الحديثة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 468 مثل المصرية الحديثة [[مؤلف:|]] |
طلائع هجوم الصيف ← |
بتاريخ: 22 - 06 - 1942 |
- 1 -
لا تزال السيدة و. . . على العهد بها طاهرة القلب حاضرة اللب
ساحرة الحديث حرة الفكر، لا تختلف وهي عقيلة تدبر البيت وتدير
المزرعة، عنها حين كانت معلمة تسوس الفصل وترأس المدرسة، ولا
يزال بهوها الجميل يستقبل في مساء الخميس من كل أسبوع نفراً من
خليط الخاصة فيهم الأديب والطبيب والمحامي والجندي والفلاح
والواعظ، وكلهم إما قريب أو صديق أو صهر
والسيدة و. . . مثل صادق للمصرية الحديثة حين تراها في ثوبها الأنيق، المحكم على قدها الرشيق، تتخذ من البهو مكان القلب، فترسل الدم بالحياة والنشاط والرغبة والبهجة إلى كل عضو من أعضاء المجلس
جمال السيدة فاتن؛ ولكن جلال الحشمة فيه يكف عنه النظر الشهوان فيقف على حدّ الإعجاب به
وأدب السيدة رائع؛ ولكن روعته آتية من قوة الذكاء لا من سعة الإطلاع؛ فهي ترى الرأي في بعض معاني الأدب فتحسبه من إلتماع الذهن فيه عالي النمط، وهو في حدود الوسط
وعلم السيدة دون الكفاية؛ ولكنها ترفده بقليل من الدعوى المقبولة، فترفعه المبالغة منها والمجاملة منك إلى المستوى اللائق بالمرأة المثقفة
وذوق السيدة رفيع؛ ولكنه ذوق الأنوثة الموهوب لا ذوق الحضارة المكتسب؛ أرهفته بالقراءة، وصقلته بالمران، حتى أوشك أن يكون من خلالها الأصيلة يصدر عنه ما يصدر عن الطبع السليم من حسن الاختيار وجمال التنسيق وصحة المواءمة.
وزوج السيدة طبيب؛ ولكنه يعمل في عيادته عمل المنهوم بالعلم والمال؛ فهو لا ينفك طول يومه بين تفريق (التذاكر) وجمع النقود ثم لا يعلم من دنياه شيئاً بعد ذلك. فهي التي تدبر المنزل وتدير العزبة وتربي الأولاد وتنمي الثروة وتراجع البنك وتعامل الناس، ثم تجعل من بيتها ومكتبتها وحديقتها جنة يسكن إليها زوجها المكدود وولدها المجهود وقريبه المكتئب وزائرها المتطلع
قد يكون لمزاولتها التعليم في شباب العمر بعض الأثر في تكوينها على هذه الشيمة من حسن الإدارة وحب النظام وبراعة الحيلة ولطف المداخلة؛ ولكن المرأة المصرية على الجملة تبذ الرجل في هذه الخلال متى سلمت فطرة الله فيها من بطر النعمة وزيف التربية وسوء المحاكاة
زرت ندَّيها في يومها المختار فوجدته حافلاً بمن يندون إليه في العادة من الأقارب الأدنين والأصدقاء الخلَّص؛ وكانت هي حين أخذت مجلسي تناقل المحامي حديث السياسة، وزوجها يساجل الواعظ حديث الدين، وكان الضابط البطين والفلاح البدين يلقيان السمع إلى هذين مرة، وإلى ذينك أخرى تبعاً لارتفاع الصوت واشتداد الجدل. وكان محضر السيدة في الصالون، ورشاقتها في الإشارة، ولباقتها في الحديث، وتجلي ذوقها وروحها في طراز الأثاث، وطرافة ألوانه، وانسجام قطعه، وحسن توزيعه، كان كل أولئك قد غمر الجالسين بشعور من السمو لم يألفوه، فرقت الأصوات، واتَّأدت الحركات، واتزنت الكلمات، وسما كل شيء في كل نفس. وللزي الذي ترتديه، وللمكان الذي تجلس فيه، وللرجل الذي تتحدث إليه، أثر في نفسك يصدر عنه الفعل مطابقاً للحال التي أحدثته
قالت لي السيدة وقد ترامى بنا الحديث إلى أثر المرأة في الإصلاح ومكانها في الأدب:
- ما بال فلان وفلان يحبان أن يُذكر بمعاداة المرأة وما أظنها وقعت في حياتهما موقع العائق عن إنتاج أو إصلاح أو سعادة؟
فقلت لها: ذلك في رأيي ضرب من الحب ونمط من الغزل! أما دعوة أحدهما إلى استعبادها فلأنه شقي في الحصول عليها، فهو ينتقم منها انتقام الصائد الأرعن من الطائر المسحور. وأما دعوة الآخر إلى استعبادها فلأنه يئس من الوصول إليها، فهو يزهد فيها زهد الفأر الأبتر في قدرة السن. والمثّلان معروفان!
فقالت: إذن لو كان نصيبهما من المرأة خيراً مما كان، لأصبحت حواء خيراً من آدم، ولكانت المرأة المصرية خيراً من المرأة الأوربية! وهنا ابتدرني الواعظ إلى الكلام فقال:
- لا يجوز في الدين ولا من العقل أن تكون حواء خيراً من آدم. ذلك أنها خلقت من ضلع أعوج، فمن طبيعتها ألا تستقيم. وما لا يستقيم لا يصدر عنه استقامة ولا عدل. ولو أن الله أراد لها غير ذلك لخلقها من رأس آدم فهيمنت عليه، أو من إحدى جوارحه فسعت معه
فقالت السيدة: ولم لا يكون لخلقها من ضلع آدم حكمة أخرى يا أستاذ؟ أليس في خلقها من أحناء صدره تعيين لوظيفتها وتوجيه لرسالتها؟ إن حنوها على الزوج والولد، كحنو الضلوع على القلب والكبد. والأسرة التي تشبل عليها المرأة هي العضو الرئيسي في جسم الأمة، كما أن الأجزاء التي تشبل عليها الضلوع هي الأعضاء الرئيسية في جسم الإنسان
قال الطبيب: معنى ذلك أن عمل المرأة لا يتعدى المنزل
فقالت السيدة: وهل ذلك يسير؟ إن المنزل عالم أصغر ينطوي فيه العالم الأكبر. وإذا كانت الأمة هي الأسرة مكرَّرة، والوطن هو الدار مكبَّرة، فإن المرأة القائمة على شؤونهما لتحتاج من الثقافة والحصافة ما يحتاجه رجل الدولة. إن في البيت حجرة طعام، وغرفة نوم، وبهو استقبال، وقاعة مكتبة، وحديقة زهر، ولكل مكان من هذه الأمكنة ثقافة خاصة لابد للمرأة الصالحة أن تحذقها جميعاً
ومضت السيدة في حديثها العذب تفصِّل هذا الأجمال، والطبيب والمحامي يصغيان إصغاء الإعجاب، والضابط والفلاح ينظران نظر العجّب؛ أما الشيخ فقد كان همه كله من هذا الحديث، أن يرقب اتفاقه أو اختلافه مع القرآن والحديث
(للحديث بقية)
أحمد حسن الزيات