مجلة الرسالة/العدد 468/على هامش النقد
→ من وثبات العبقرية | مجلة الرسالة - العدد 468 على هامش النقد [[مؤلف:|]] |
دجلة يطغى ← |
بتاريخ: 22 - 06 - 1942 |
كتب وشخصيات
للأستاذ سيد قطب
1 - عبقرية محمد. . . . . . . . . . . . للعقاد
2 - بيجماليون. . . . . . . . . . . . لتوفيق الحكيم
3 - دعاء الكروان والحب الضائع. . . لطه حسين
تمهيد:
أردت أن أجمع بين هذه الكتب وهؤلاء الكتاب؛ لا لأنها تتفق في فكرة أو اتجاه، ولا لأن بينهم - في هذه الأيام - مصافاة أو مجافاة!. . . ولكن لأن كلاً منهم يجري في كتابه هذا على منهجه ويستخدم أفضل قواه
خطر لي مرة أن أكتب مقالاً أو مقالات تحت عنوان: (لا يعرفون أنفسهم!) وفي مقدمة من كنت أعنيهم بهذا العنوان ثلاثة من الكتاب: طه حسين، وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين!
من المبادئ الاقتصادية الأولية أن يستخدم الفرد أحسن مواهبه؛ وهؤلاء الكتَاب لا يستخدمون أحسن مواهبهم في كثير من الأحيان، فلو كنت أملك الحجر على الناس في بعض التصرفات، لحجرت على هؤلاء الثلاثة في بعض الاتجاهات! تحقيقاً لهذه القاعدة الاقتصادية، وتحقيقاً لمصلحتهم ومصلحة الأدب على السواء
فأما الدكتور طه حسين، فهو لا يعرف نفسه حقاً حين يحاول أن ينشئ أدباً غير ذلك الاستعراض الحلو لخطرات النفس وخلجات الضمير، وغير ذلك اللمس الخفيف الرفيق للانفعالات والوجدانات. الاستعراض هو فن طه حسين الأصيل الذي يجيده في (الأيام) و (على هامش السيرة) و (مع أبي العلاء في سجنه)، ثم في (دعاء الكروان) وفي (الحب الضائع) في هذه الأيام
فأما حين يسرف في استخدام مواهبه، حين يستخدم مواهب الصف الثاني لديه - إذا استعرنا الاصطلاحات الحربية - في مثل (الأدب الجاهلي) و (مع المتنبي) وفي نقد الكتب أو كتابة المقدمات. . . فإنما يسرف على نفسه أولاً وعلى مواهبه، ويسرف على الأدب ثانياً وعلى قرائه، أولئك الذين يريدونه في خير حالاته؛ وإن لم يكن في حالاته الأخرى من المتخلفين
وأما توفيق الحكيم فإنه لا يعرف نفسه أصلاً، حين يحاول أن ينشئ أدباً غير القصة، وغير الحوار بشكل خاص. الحوار هو فن توفيق الحكيم الأصيل، فما هي إلا كلمة خاطفة من هنا وجملة عابرة من هناك حتى تستوي الفكرة التي يعالجها حية شاخصة، أشبه شيء بالخطوط السريعة في تحديد ملامح الوجوه
وقد اهتدى إلى أحسن مواهبه في أهل الكهف وشهرزاد وبيجماليون في ناحية. . . وفي نهر الجنون) و (سر المنتحرة) و (الخروج من الجنة) في ناحية أخرى، عل تفاوت في الطاقة والاتجاه. . .
فأما حين تسوّل له نفسه أو يسوّل له بعض الصحفيين أن يكتب أشياء مما يكتب في شتى الصحف والمجلات؛ وحتى حين يكتب قصصاً غير الحوار وغير معالجة مشكلة فكرية في هذا الحوار، فإنه يجني على مواهبه ويجني على قرائه على تفاوت الجناية في هذين الاتجاهين، ويستحق الحجر الذي يضرب على المسرفين في الجهد أو في المال!
وأما أحمد أمين فقد ظهر أول ما ظهر بكتابه (فجر الإسلام) ثم تابع السلسلة في (ضحى الإسلام) بأجزائه الثلاثة، فقلنا: رجل متزن يهتدي إلى خير مواهبه فيستخدمها أحسن استخدام.
ثم صدرت (الثقافة) فاستهوته المقالة، وهنا خانه الاهتداء إلى أفضل ما فيه، واستمرأ هذا الجهد الوقتي المتقطع فكثرت مقالاته، وكثرت إذاعاته، وجمع هذه المقالات فيما أسماه (فيض الخاطر) على ثلاثة أجزاء.
هذا (الفيض الخاطر) هو اللفتة الخاطئة في حياة أحمد أمين الأدبية، وهو الانحراف عن الطريق السوي الذي خلق له، وهو التعطيل للوظيفة الأساسية التي انتدبته لها المكتبة العربية.
ولو أنه سار في الطريق، فوضع لنا - بدل الأجزاء الثلاثة من (فيض الخاطر) - ثلاث حلقات جديدة في سلسلة تاريخ الأدب العربي، ولو أنه تابع هذه السلسلة إلى عصر النهضة الحالية، لأدى للمكتبة العربية أجل الخدمات.
ولكنه استهواء الصحافة، وتوزيع الجهد، والإسراف على النفس وعلى القراء!
في الكتب الثلاثة أو الأربعة التي اخترت أن أجمع بينها في هذا الحديث يهتدي مؤلفوها إلى أفضل مواهبهم ويستخدمونها على أفضل الوجوه. فكل منهم يجري في ميدانه الأصيل، ويجري على أصول الجري في هذا الميدان؛ وهي - من هنا - تمثل أصحابها خير تمثيل، وترسم مناهجهم في الأداء وفي التفكير.
فأما العقاد فهو أبداً مهتد إلى مواهبه لم يضل في تقديره واحدة منها، وهي مواهب متنوعة ولكنها جميعاً أصيلة وتكاد أن تكون متكافئة، فإذا شئنا الاختيار والمفاضلة، فأفضلها فيما يبدو (دراسة الشخصيات)
وقد انساق العقاد منذ نشأته الأدبية تقريباً في هذا السياق عامداً أو غير عامد، فهو أكثر كتابنا المحدثين دراسة للشخصيات: الأدبية والفكرية والسياسية والإنسانية. كتب عن: المتنبي وابن الرومي وأبي العلاء وجيتي وتوماس هاردي وطاغور، وكثيرين من أمثالهم قدامى ومحدثين. كما كتب عن: كانت ونيتشه وماكس نوردو وشوبنهور، وكثيرين من أمثالهم. وكتب كذلك عن: هتلر ومصطفى كمال وسعد زغلول. وعن: محمد عبده وغاندي.
ثم هاهو ذا يكتب عن (محمد) كتابه الأخير
وليست كثرة الشخصيات التي كتب عنها (العقاد) هي التي تجعله دارس شخصيات، فكثيراً ما يكتب الكاتبون عن عشرات الشخصيات ومئات الأعلام أوصافاً لهم وحوادث في حياتهم، ثم يخرج القارئ من هذا كله بأوصاف ومعلومات لا يتبين منها ملامح شخصية واحدة من هذه الشخصيات
إنما ميزة (العقاد) الفذة أنه مصور ملامح، ومشخص هيئات، وراسم صور حية من اللحم والدم والصفات والسمات والهواجس والأفكار. . . لديه لكل شخصية يدرسها مفتاح يدير به اللولب، فإذا أنت أمام هذه الشخصية، وإذا أنت تملك هذا المفتاح، وإذا أنت تستطيع تفسير الحوادث التي ألمت بحياة هذا الإنسان، كما تملك تفسير استجاباته لهذه الحوادث
كل إنسان كتب عنه (العقاد) تستطيع أن تعرف (من هو)، وإن لم تعرف كل ما وقع له من أحداث تلك هي الموهبة المتفردة التي تجعل (العقاد) دارس شخصيات، لأنه هو نفسه شخصية واضحة المعالم والسمات
وفي هذا الكتاب الأخير (عبقرية محمد) تتجلى هذه الموهبة على أتمها وأكملها، وينضج نضجها واستواؤها على فصول الكتاب وجمله وفقراته. فهو من هذه الناحية أدل ما يكون على اكمل موهبة من مواهب (العقاد). فأما تفصيل ذلك، فعند الكلام عن الكتاب
وأما (بيجماليون) فيستوي فيه كذلك توفيق الحكيم على نهجه في (أهل الكهف) و (شهر زاد) بعدما بعد بنفسه طويلاً عن هذا النهج: حوار، حول مشكلة من مشاكل الفكر الإنساني. . . كم بلغ في هذا الحوار من الإجادة، كم خطا فيه إلى الأمام أو إلى الوراء؟ هذا ما يتبين في الحديث الخاص عن هذا الكتاب
وأما (دعاء الكروان. وعلى هامش الحب) فجدولان جديدان في إنتاج الدكتور طه حسين، ولكنهما ينبعان من نفس المعين الذي نبعث منه (الأيام). إلا أنهما مقدرة جديدة في هذا الاتجاه. فقد كنت أعجَبُ - ولكن لا أرى عجباً - في أن يكتب الدكتور (الأيام) فيصور خلجات نفسه وهواجس ضميره، ويتلمس وقائع حياته ويلم بحوادث أيامه. أما أن يصور خلجات نفس أخرى وهواجس ضمير آخر، وأما أن تكون تلك النفس نفس امرأة، وهذا الضمير ضمير امرأة - بل امرأتين بل امرءات! - وأما أن يطرد هذا التصوير بنفس القوة والعذوبة والوضاحة التي في (الأيام) فهذه هي المقدرة الجديدة التي سيبين عنها المقال
وأترك القارئ الآن وقد علم لماذا اخترت أن أجمع بين هذه الكتب وبين هؤلاء الأشخاص. وفي الأسبوع القادم سآخذ في الحديث الموضوعي إن شاء الله
سيد قطب