مجلة الرسالة/العدد 467/الحديث ذو شجون
→ مساجلات | مجلة الرسالة - العدد 467 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
مثال. . . ← |
بتاريخ: 15 - 06 - 1942 |
للدكتور زكي مبارك
عبد القادر حمزة باشا - موسم الامتحانات في المدارس
المصرية - أحزان (توفيق الحكيم) ونفوذ (طه حسين). . .
عبد القادر حمزة باشا
فاتني في العام الماضي أن أشهد مأتم الأستاذ عبد القادر حمزة - طابتْ تُربتُه، وكَرُمتْ ذكراه - ولم يفتني أن أشهد المأتم الذي أُقيم في هذا المساء بجوار دار (البلاغ)، تحيةً لروح ذلك الشهيد، شهيد القلم الحرّ، والرأي الصريح
وأقول: إني ما شعرت بحزن أو لوعة حين تجددت الصورة لموت ذلك الصديق، فهل خمد أسفي عليه وما قدُم العهد؟
أشهد أني لم أجد في نفسي استعداداً للتحسر والتفجع، كما ينبغي أن يقع في مثل هذا الظرف، وإنما توجهتْ نفسي إلى معنىً آخر هو نقد الأُسلوب المتبع في إقامة الذكريات لهذا الطراز من الرجال
وأشرح هذا المعنى فأقول: إن عبد القادر لم يمت إلا بعد أن أقام ألوف البراهين على أن للقلم دولة في هذه البلاد، وبعد أن أقام أُلوف الشواهد على أن الذاتية السليمة تصل بصاحبها إلى أشرف الغايات، وترقم أسمه في صحيفة الخلود
فما الذي يمنع من أن تكون الحفلة التي تقام لذاكره حفلة فرح وابتهاج؟
كنت أحب أن يتنادى من اشتركوا في تحرير (البلاغ) - وهم يعدُّون بالعشرات - إلى إقامة سهرة طريفة على متن النِّيل في ليلة قمراء، تحيةً للكاتب العظيم الذي أرَّخ مجد النيل أعظم تأريخ
كنت أحب أن نتنادى لإقامة حفلة بهيجة في (معبد الكرنك)، وهو المكان الذي أوحى إلى عبد القادر أن يكون إماماً في تاريخ مصر القديم، ولعله أول مؤرّخ جعل الإيمان بعظمة مصر عقيدة عقلية، وعقيدةُ العقل أَعظم من عقيدة الروح
لو سمحت شواغل الحياة بأن يتنادى أصدقاء (البلاغ) لتكريم صاحب (البلاغ) لكان لهم ف تكريمه أسلوب لا يخطر لأهل هذا العصر في بال
لن نبكي على شيخ الصحافة المصرية، وهل مات حتى نبكي عليه؟
وما البكاء على كاتب لم يفارق دنياه إلا بعد أن ملأ صريرُ قلمه مسامع الزمان؟
الواجب أن نفرح لأن مصر أنجبت كاتباً سياسياً يندُر وجود مثله في الأقطار الأوربية والأمريكية. وأعيذ القارئ أن يتهمني بالمبالغة والتهويل، فالمصاعب التي قهرها عبد القادر لو صادفت أكبر كاتب في أعظم بلد لأضافته إلى المدحورين
الواجب أن نفرح لأن جو مصر سمح بأن يكون أحد أقطاب الصحافة من أكابر المؤلفين، وتلك إحدى الأعاجيب.
الواجب أن نفرح، لأن جو مصر سمح بأن يكتُم كاتبٌ بلاءه بأعدائه نحو ثلاث سنين، ليلقاهم بعد ذلك في ميدان لا يخرجون منه سالمين
كان عبد القادر كما وصفت، وفوق ما وصفت، فكيف تحيي ذاكره بالحزن والانقباض؟
ومتى نفرح إذا تناسينا اعتزاز الأقلام بتاريخ ذلك الشهيد؟
كان عبد القادر يحب جريدته أكثر مما يحب نفسه، ولهذا كان يستكتب رجالاً بينه وبينهم ضغائن وحقود، ليبرئ ذمته من حق جريدته عليه
وكانت البراعة القلمية هي الخصيصة الأساسية فيمن يعرف من الكتّاب، ولو كانوا من خصومه الألدَّاء
وكان لا يسمح بنشر كلمة تؤذي أحد محرري (البلاغ) من قرب أو من بعد، وقد اتفق لي أن أرجوه نشر مقال أرسله المرحوم مصطفى صادق الرافعي في إيذائي، لأقيم الدليل على تشجيع الحرية الفكرية، ولكنه رفض، وكانت حجته أن سماحي بنشر مقال الرافعي لا يعفيه من حقي عليه
عبد القادر!
هل تعرف أن قوماً زعموا أنك مت؟
كذَبوا، فما يموت من تحيا ذكراه على سنان قلمي!
موسم الامتحانات
وزارة المعارف في نظر المنصف أعظم الوزارات حيوية، بدليل ما نشاهد من كثرة التغيرات والتقلبات، وهل يتغير أو يتقلب غير الأحياء؟
ولكن هذه الوزارة التي تفكر في كل شيء، وتشغل بأخبارها جميع الناس، تنسى شيئاً في غاية من الأهمية، وهو تعديل مواعيد الامتحانات
ما الذي يوجب أن تكون تلك المواعيد في وهج لصيف؟ أيكون ذلك نقلاً عن الأمم الأوربية؟ هو ذلك، ولكن أين جو مصر بالقياس إلى الأجواء الأوربية؟
أعصاب التلاميذ في شهر يونيه لا تحتمل أي جهاد، ولو شئت لقلت إن التلاميذ يعانون التعب قبل يونيه بشهرين، فكيف تجود قواهم بالمحصول الذي يعيِّن منازلهم من الفوز أو الإخفاق! وهل سمعتم حديث المصحِّحين؟
التصحيح نوع من القضاء، ولا يجوز للقاضي أن يحكم إلا وهو سليم الأعصاب، فكيف تكون مصاير التلاميذ بأيدي مصححين لم تبق منهم متاعب العام الدراسي غير أشباح؟
يجب أن تكون الامتحانات في شهر مارس، أو يجب أن تكون أهم مواد الامتحان في شهر مارس، لنجد تلاميذ ومصححين، ولنطمئن إلى العدل في سلامة الحكم على أبناء الجيل الجديد
فإن عزَّ على وزارة المعارف أن تترك خطةً سارت عليها عشرات السنين فلتجعل التصحيح في أيدي رجال خُفِّف عنهم عناء العام الدراسي بعض التخفيف، ليراجعوا الأوراق بعناية والتفات، أو ليكونوا في حال غير الحال التي نعرف، فأكثر من يُدعَون إلى التصحيح يعتذرون، لأنهم لا يلقون الصيف إلا بعد طول العناء بالتدريس والتصحيح
أما بعد فقد أعلنت هذا الرأي مرات في الأعوام الماضية، ولم أجد من يسمع، فهل يكون من حظ هذا الرأي أن يضاف إلى الآراء التي يدرسها وزيرنا الحصيف؟
أحزان توفيق الحكيم
لم أكن أنتظر أن يكون عتْبي على الأستاذ توفيق الحكيم فرصة لمجادلات ومساجلات يجري بها قلمه مع الكاتبين العظيمين عباس العقاد وطه حسين
وعلى قلة ما يجشّم أخونا الزيات نفسَه في مراسلة أصدقاء الرسالة من مهجَره الجميل، فقد كتب إليّ يخبرني أنه خفّف كلمتي في عتب الأستاذ توفيق الحكيم، لأنه لا يقبل أن يفسُد ما بيني وبين توفيق لشبهة نفاها توفيق.
وأحسنَ أخونا الزيات فيما صنع، فما أدري كيف كنت أثبُت أمام ضميري لو نُشرت كلمتي كاملة ثم ظهر أن أخانا الحكيم يطوي صدره على تلك الأحزان السّود.
لطف الله بي فنجاني من هول هذا الموقف بفضل حكمة (المهاجر الرفيق)، فله الحمد، وعلى المهاجر الثناء.
ولكن يظهر أن أحزان توفيق الحكيم لن تنجيه من (الوقوع في قبضة الأديب الفلاح) فسأسمعه اليوم كلاماً يسرّه في حين ويحزنه في أحايين، وفقاً لحالته النفسية وهو يقرأ ما أقصّه عليه بلا تخويف ولا ترهيب.
دار الأستاذ الحكيم في رده على الأستاذ العقاد حول (نفوذ) الدكتور طه حسين، فماذا يريد أن يقول؟
هل يتوهم أن (نفوذ) الدكتور طه تميمةٌ تعيذه شر أقلامنا إذا رأيناه أنحرف عن المقبول من شريعة الأدب الرفيع؟
وما احتياجُنا إلى (نفوذ) الدكتور طه حسين، ونحن نعرف أن ذلك النفوذ بلاء عليه، لأنه يبعده منا ويقرّبه إلى سوانا، وفردوس الأدب هو النعيم الباقي على الزمان.
يستطيع الدكتور طه بكفايته العلمية أن يكون أكبر موظف في الحكومة المصرية، ولكنه لا يستطيع الزعم بأن سلطان القلم يفوقه أيّ سلطان.
لقد أبيت أن أهنئ الدكتور طه بمنصبه الجديد في وزارة المعارف، لأني كرهت أن يقاس الفوز بمقياس الوظائف، ثم سارعتُ فهنأته بكتاب (الحب الضائع) لأغريه بالمضي في هذه الطريقة من طرائق التأليف، ولأُفهمه أني لا أقيم وزناً لغير محصول الأقلام الجياد.
الدكتور طه رجلٌ ضرَّار نفَّاع، ولكن من العيب على حامل القلم أن يرجوه أو يخشاه، فما هذا الذي تقول يا عمّ توفيق؟!
أترك هذا وأنتقل إلى مشكلة أساسية، وهي مشكلة قد تخرج الأستاذ الحكيم من فردوس الأدب الرفيع
صديقنا توفيق يتألم ويتوجع، لأن شهرته الأدبية أبعدته من الانخراط في سلك رجال القضاء. فما معنى ذلك؟
معناه أن هذا الرجل يعيش بين رجال الأدب عيش الغرباء، وإلا فهل يجوز لكاتب له عقيدة أدبية أن يتوهم أن في الدنيا حظاً أعظم من حظوظ أرباب الأقلام؟
وصديقنا توفيق يقول بعبارة صريحة إنه لا يجد أسرة تعطف عليه، فتزوِّجه بُنية يسكن إليها وتسكن إليه، لأن الشهرة الأدبية أضافته إلى المشبوهين!
غضبة الأدب عليك، يا توفيق! فما أوذيَ الأدب بأقبح ولا أبشع ولا أفظع مما جرى به قلمك الأهوج
وبمن تثق الأسر الكريمة إذا لم تثق برجال الأدب الرفيع؟
ولأي فارس تخضع المرأة النبيلة إذا فاتها الخضوع لأحد فرسان البيان؟
أتقول هذا الكلام يا توفيق في مجلة مثل الرسالة وهي عنوان الفحولة الأدبية، ثم تنتظر أن نراعي أحزانك فلا ترد عليك؟
وأرجع إلى الموازنة بين حال القاضي وحال الكاتب فأسألك: أتعتقد مؤمناً بأن القاضي يخدم العدالة بأكثر مما يخدمها الكاتب؟
قضاة مصر جديرون بالاحترام والتبجيل، فالشكوى من الفوضى مست أكثر الهيئات ثم استحيت فلم تمس رجال القضاء
ومع هذا فلا يسيغ ذهني أن يكون القاضي العادل أشرف من الكاتب الصادق، إلا أن يتبذل الكاتب فيقترح زواج هتلر من أم كلثوم لتنتهي الحرب!
أيهون الأدب على أهله إلى هذا الحد من الهوان البغيض؟
أيكون اليأس من الاقتران بامرأة لها سيارة وعمارة باعثاً على الضجر من صحبة الكتاب والخطباء والشعراء؟
أيكون (نفوذ) طه حسين شيئاً يُخاف فتُحبر فيه المقالات الطوال العراض؟
آه ثم آه!!
لو كان بيدي شيء من الأمر لقضيت بنفي توفيق الحكيم إلى جزيرة واق الواق، ليغرق أبناؤنا وتلاميذنا أن للأدب سيطرة سماوية تبغض التأدب مع غير صاحب السماء
أنت في جماعتنا دخيل، يا توفيق، لأنك تقدِّم علينا رجال القضاء، ولأنك تتهيّب أصحاب النفوذ، وبين النفوذ والنفوس جناس معلول، إن كنت تذكر المبادئ من علم البديع
مقالك الحزين كاد يبكبني، يا توفيق، ولكني تجلدتُ وتماسكت، فراراً من الرثاء لك والبكاء عليك.
أبعدَ عشرين سنة خدمت فيها القلم، على حد ما زعمت لنفسك، تعود فتمنّ على الأدب بأنك أضعت من أجله أشياء وأشياء؟!
نفيناك، نفيناك، ولن نلتفت إليك بعد اليوم، إلا أن تُستتاب فتتوب.
الخلوة إلى القلم نعمةٌ لا يدركها من يرى السعادة في الخلوة إلى امرأة.
وسواد المداد في بياض القرطاس أجمل من الخيلان السود في الخدود البيض، وهذا كلامٌ لا يفهمه الأدباء الدخلاء.
لا تؤاخذني، يا توفيق، في القسوة عليكَ فأنا أحاول رجعك إلى فردوس الأدب الرفيع، فهل ترجع؟ وهل تعود؟
عندنا (نفوذ) لا يقاس إليه النفوذ الذي تعرف
عندنا أرواح وقلوب. عندنا نار تصهر روحك حين تريد
فهل ترجع إلى عشك، أيها العصفور من الشرق؟
زكي مبارك