الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 465/بمناسبة مرور أربعين عاما على وفاة

مجلة الرسالة/العدد 465/بمناسبة مرور أربعين عاما على وفاة

مجلة الرسالة - العدد 465
بمناسبة مرور أربعين عاما على وفاة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 06 - 1942


السيدة عائشة عصمت تيمور

للأستاذ اسحق شموش

في مثل هذا الشهر (مايو) من عام 1902، فجع الأدب العربي بوفاة الأديبة الكبيرة عائشة عصمت تيمور، التي جدّدت في العصر الحديث عهد ربات الخدور بالأدب، وساهمت في النهضة النسائية العصرية بنصيب وافر وقسط عظيم

وهي تم إلى الدوحة التيمورية الكريمة التي منحت العربية ما لم تمنحه أية أسرة مصرية أخرى، لغويين وشعراء، وكتاب، وقصصيين، نهضوا بلغة الضاد وآدابها نهضة جبارة، وسعوا لرفعهما إلى مصاف سائر اللغات والآداب الراقية سعياً يبعث على التقدير والإعجاب

فالسيدة عائشة هي كريمة رب السيف والقلم إسماعيل باشا تيمور، وشقيقه اللغوي القدير أحمد باشا تيمور، وعمه القصصي الأستاذ محمود تيمور الذي يعد بحق خير خلف لخير سلف

وقد ولدت في مدينة القاهرة سنة 1256 هجرية الموافقة لسنة 1840 ميلادية، وأبدت منذ نعومة أظفارها ميلاً قوياً للدراسة، وشغفاً عظيما بالمطالعة، فتعلمت العربية، والتركية، والفارسية، وأجادت الكتابة والنظم في كل منها إجادة غير يسيرة؛ إلا أن والدتها حاولت صرفها عن الأدب إلى التطريز والنسج، ولكن بدون جدوى، فنشأ عن ذلك نزاع بينهما، وصفته عائشة في مواضع مختلفة من مؤلفاتها:

(لما تهيأ العقل للترقي، وبلغ الفهم درجة التلقي، تقدمت إليَّ ربة الحنان والعفاف، وذخيرة المعرفة والإتحاف، والدتي تغمدها الله بالرحمة والغفران، بأدوات التّطريز والنسيج، وصارت تجد في تعليمي، وتجتهد في تفطيني وتفهيمي، وأنا لا أستطيع التلقي، ولا أقبل في حرفة النساء الترقي، وكنت أفر منها فرار الصيد من الشباك، وأتهافت على حضور محافل الكتاب بدون ارتباك، فأجد صرير القلم في القرطاس أشهى نفحة، وأتحقق أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة، وكنت ألتمس من شوقي قطع القراطيس، وصغار الأقلام، وأعتكف منفردة عن الأنام، وأقلد الكتاب في التحرير، لأبتهج بسماع هذا الصرير، فتأتي والدت وتعنفني بالتكدير والتهديد؛ فلم أزد إلا نفوراً، وعن صنعة التطريز قصوراً)

وعلى نقيض ذلك كان والدها يشجعها على دراسة الأدب وممارسته: (فبادر والدي تغمَّد الله بالغفران ثراه وقال لها: دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم)

وقد كررت الإشارة إلى تشجيع والدها بصورة أوضح في مقدمة ديوانها التركي الفارسي، فوضعت على لسانه وهو يخاطب والدتها العبارات التالية:

(ما دامت ابنتنا ميّالة بطبعها إلى المحابر والأوراق، فلا تقفي في سبيل ميلها ورغبتها، وتعالي نتقاسم بنتينا: فخذي (عفت) وأعطني (عصمت)؛ وإذا كان لي من (عصمت) كاتبة وشاعرة، فسيكون ذلك مجلبة الرحمة لي بعد مماتي).

وقد تحقق رجاء إسماعيل باشا تيمور، فكانت (عصمت) مجلبة رحمة له، بل ومجلبة شهرة وفخر كذلك

وتزوجت (عائشة) باكراً جداً في الرابعة عشرة (1854 - 1271) من محمد بك توفيق الاسلامبولي، ورزقت منه بـ (محمود) و (توحيدة)، غير أنها رزئت بفقد هذه الأخيرة قبل أن تتجاوز الربيع الثامن عشر، فبكتها أحر بكاء، إلى أن كلَّ بصرها، وأصيبت برمد شديد لبث يختلف عليها إلى آخر حياتها

وقد رثت (توحيدة) بقصيدة رائعة، مطلعها:

إن سال من غرب العيون بحور ... فالدهر باغ والزمان غدور

وربما كان أجود ما فيها البيت التالي:

لو بث حزني في الورى لم يلتفت ... لمصاب قيس، والمصاب كثير

وقد جمع شعرها العربي في ديوان (حلية الطراز) كما جمع شعرها التركي والفارسي في ديوان (شكوفه). ومن آثارها النثرية مجموعة قصص على نمط (ألف ليلة وليلة) دعتها (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال)، وأبحاث اجتماعية معروفة ب (مرآة التأمل في الأمور)

ويتسم شعرها بالنزوع إلى القديم نزوعاً قوياً، ولا سيما في تشبيهاته واستعاراته وكناياته، فاللحاظ سيوف، والخدود ورود، والقدود غصون، والأسنان درر، وباب الممدوح كعبة أولى السجود، وليس الممدوح سوى كوكب يتألق في سماء العز والمجد، أو بدر يلمع في ليالي الشقاء والبؤس. . . الخ

والميزة البارزة في شعرها التي تجعل له قيمة أدبية، هي الصدق في التعبير عن عواطفها، وهذا الصدق أكثر ما يتجلى في مراثيها التي تبكي فيها أعز الناس لديها، وأحبهم إليها

وقد قصرت شعرها، أو كادت تقصره على أغراض ثلاثة:

1 - (المدح): ويشكل قسماً كبيراً من شعرها، ويكاد ينحصر في خديو مصر الذي يمثل لديها الزعيم السياسي والديني معاً، الجدير بالطاعة العمياء والإعظام الذي لا يقف عند حد

ومما لا ريب فيه أنها كانت صادقة الولاء في مدحها، ولم تتخذه أداة للكسب كما كان يفعل كثير من شعراء عهدها

غير أنها أسرفت كثيراً في مدح الخديو حتى أنها لم تتورع عن رفعه إلى مصاف الملائكة، ونسب أكبر مقدار من أكرم الصفات والمزايا إليه:

لو قيل للشرف اختر قال خدمته ... أو قيل للدهر سابق عزمه افتضحا

فالنصر عونك، والزمان مطاوع ... والسعد عبد، والكمال صديق

ولا فرق عندها بين خديو وآخر، إذ أن مدحها للخديوية نفسها لا لشخص الخديو، وهذا هو السر في كونها مدحت الخديو سعيد والخديو إسماعيل، كما مدحت الخديو توفيق والخديو عباس؛ كأنما كل من يتسنم أريكة الخديوية يصبح أهلاً للمدح، وأي مدح!

2 - الرثاء: وقد توفرت على الرثاء بقدر ما توفرت على المدح، وكما قصرت مدحها أو كادت تقصره على الخديو، قصرت رثاءها أو كادت تقصره على أفراد أسرتها والمقرّبين إليها، فرثت ابنتها، ورثت شقيقتها ورثت والدها ووالدتها وأستاذها الشيخ إبراهيم السقا الخ. . .

وفي رثائها أيضاً لم تتحرّج من الغلو والإسراف

عزّ العزاء على بني الغبراء ... لما توارى البدر في الظلماء

أو:

إني ألفت الحزن حتى إنني ... لو غاب عني ساَءني التأخير

وقد برعت في هذا الضرب من الشعر براعة فائقة، ووفقت إلى تصوير لوعتها وحزنها عندما كانت تحد بها المصائب توفيقاً عظيماً مما يدل على أنها كانت ترثي عن حرقة حقيقية لا أثر للتكلف والتصنع فيها.

3 - الغزل: وأكثره من الغزل الصوفي الذي يكاد يكون مقصوراً على النبي العربي محمد بن عبد الله، وقد مهدت له ب (قالت مستغيثة) أو (قالت توسلاً) وما أشبه

ومن أروع قصائدها في هذا الغزل الديني ميميتها التي مطلعها:

أعن وميض سرى في حندس الظلم ... أم نسمة هاجت الأشواق من أضم

حيث تقول:

روحي الفداء ومن لي أن أكون له ... هذا الفداء وموجودي كمنعدم

وما هي الروح حتى أفتديه بها ... وهي البغاث بغاء الظلم والظلم

وتتخلل بعض قصائدها أبيات قليلة، فيها عن نفسها حديث لا يخلو من فخر وتحدٍ:

ولقد نظمت الشعر شيمة معشر ... قبلي ذوات الخدر والأحساب

وخصصت بالدر الثمين وحامت ال ... خنساء في صخر وجوب صعاب

كما لا يخلو من إشارة مزهوة إلى فضلها على سائر النساء اللواتي إن نظرن في المرآة فللتجمل والتزين، وأما هي:

فجعلت مرآتي جبين دفاتري ... وجعلت من نقش المداد خضابي

كم زخرفت وجنات طرسى أنملي ... بعذار خط أو إهاب شباب

ومع أنها شاعرة لا ناثرة فقد لجأت إلى النثر أحياناً لمعالجة بعض القضايا النسائية كقضية السفور والحجاب مثلاً التي أثارها في عهدها المصلح الاجتماعي الكبير قاسم بك أمين، إلا أنها لم تبد في هذه القضية رأياً صريحاً كما أنها لم تثبت على رأي واحد بصددها، فقد يفهم أنها حجابية من الأبيات التالية:

بيد العفاف أصون عز حجابي ... وبعصمتي أسمو على أترابي

ما ساءني خدري وعق عصابتي ... وطراز ثوبي واعتزاز رحابي

ما عاقني خجلي عن العليا ولا ... سدل الخمار بلمتي ونقابي

عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت ... صعب السباق مطامح الركاب

كما يفهم أنها سفورية من الجملة التالية:

(وأنا بين جدران الخدر كقطاط سجنها المطر، وعاقها عن الانسياب برق يخطف البصر) وأما موقفها من قضية المرأة المسلمة، فهو موقف المحافظات المسرفات في المحافظة، ولا أدل على ذلك من بحثها (مرآة التأمل في الوجود) حيث تصطنع لسان فقهاء الإسلام لمعالجة مواضيع على جانب كبير من الخطورة:

(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم. فالرجل يقوم بأمر الزوجة مجتهداً في حفظها وصيانتها وأداء كل ما تحتاج إليه؛ ثم إن الحق لم يكتف بالحكم حتى بين السبب بقوله بما فضل الله يعني بأمور لها وفرة في العقل والدين، ولذا جعل لهم الولاية والإمامة، وجعل فيهم الخلفاء والأئمة، وميزهم في الشهادة بين الأمة، فقال في آية أخرى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)

إن الرجال أسود عزت رفعة ... تسطو على روض العلا وتصول

لهم النضير بكل غصن مثمر ... وسواعد للساميات تطول

حازوا المكارم تحت عزة فضلهم ... وشهودهم بين الأنام عقول

وهي تخلص من ذلك إلى استنكار بحث الشبان حين الزواج (عن الحلي والحلل والضياع والعقار، لا عن النسب والتدين والعفة والوقار وتصب جام غضبها على الرجال الذين يتركون سلطتهم تنتقل إلى زوجاتهم، وتضرب لهم المثل التالي:

وهو أن أسداً تكاسل عن الصيد، وغله الجبن بالقيد، فأمر لبوته أن تنوب عنه، وتأتي بالفريسة بدلاً منه، فانقادت لأمره، وسارت على ما عهدته من سيره، واستمرت مدة على هذا الحال. فلما طال الشرح عليها صارت تصطاد وتأكل ما اشتهت من أطايب اللحوم ولذائد الأكباد، وتلقي إليه من فضلات ما بقي. فاستشاط الأسد غيظاً ورأى أن ذلك إهانة لوقاره، ومجلبة لعاره، فقال لها خزيت يا لكاع، كيف تأتيني بسقط المتاع، وتجسرين على أكل المطايب قبلي، وتخفضين رفعتي وتنسين فضلي؟ إن كان غلب الشره عليك، واستحيت أن تأكلي بحضرتي، فأعدي لي أطايب الطعام، وقدميها إليّ أولاً كما جرت به العادة في سالف الأيام. فضحكت اللبوة منه، وقالت قد أخطأ وهمك، وغلظ فهمك، إني لم أنس فضلك، ولم أجهل قدرك، ولكن كان ذلك مذ كنت أنت أنت وأنا أنا؛ وأما الآن فقد انعكس الحال وصرت أنا أنت، وأنت أنا، فلك علي ما كان لي عليك. فأفحم الأسد، ورجع على نفسه باللوم رجوعاً، وآل على نفسه ألا يستعين بها على الصيد ولو مات جوعاً

وهذا المثل كالأمثلة النثرية التي تقدمته - يدل دلالة واضحة على أن صلة نثرها بالقديم وثيقة، كصلة شعرها، إن لم تكن أقوى وأشد، إذ جرت فيه على نسق المقامات وكليلة ودمنة، فأغرقته في فيض من المحسنات البديعية، اللفظية منها والمعنوية، وأفعمته بالأمثلة على ألسنة الطيور والحيوانات

وعلى كل فمما لا ريب فيه أن تأثيرها فيمن تتلمذ عليها من ذوات الحجال كان عظيما، ولا سيما في الأدبيتين النابهتين أمينة نجيب وباحثة البادية (ملك حفني ناصف) اللتين برّزتا على أقرانهما، ونعمتا بشهرة أدبية واسعة

ونحن إذ نذكر اليوم السيدة عائشة تيمور، فإننا نذكر أول من رفعت لواء الأدب من ربات الخدور في النهضة الحديثة، وأول من لجأت في العصر الأخير لبيان بنات أفكارها إلى روائع النظيم والنثير.

ايزاك شموش

أستاذ الأدب العربي الحديث بالجامعة العبرية