مجلة الرسالة/العدد 464/في الفلسفة الإسلامية
→ خسرو وشرين | مجلة الرسالة - العدد 464 في الفلسفة الإسلامية [[مؤلف:|]] |
مرسلات. . . ← |
بتاريخ: 25 - 05 - 1942 |
ابن باجه
للأستاذ عمر الدسوقي
لمحة تاريخية
فتح العرب الأندلس في أواخر القرن الأول الهجري على يد طارق بن زياد وموسى بن نصير، وظلت ولاية تابعة للبيت الأموي في دمشق، ولما سقطت دولة بني أمية وأسس بنو العباس ملكهم في بغداد، وأخذوا يضطهدون الأمويين، فر الأمير عبد الرحمن بن معاوية الملقب بالداخل إلى الأندلس في سنة 133هـ، 750م. وقد أفلح في تجديد ملك بني أمية بالأندلس، ولكنه لم يتسم هو أو خلفه بلقب أمير المؤمنين أو خليفة المسلمين، وإنما كان ذلك في عهد عبد الرحمن الثالث الأموي 300 - 350هـ و912 - 960م، وظلت الخلافة قائمة حتى سنة 403 هـ، 1013م حين غُلب الأمويون على أمرهم وانتشرت الفتن في البلاد، وضرب البريرقرطبة، ومن ثمَّ استقل كثير من الأمراء بمقاطعات صغيرة ودعوا بملوك الطوائف: كبني عباد بإشبيلية، وبني الأفطس ببطليوس، وبني ذى النون بطليطلة، وبني هود بسرقسطة، وبني عامر ببلنسية، ومجاهد العامري بجزر البليار
وفي ذلك الوقت قامت في المغرب ثورة تدعو إلى استقلاله عن الأندلس، وانفرد بالحكم فيه المرابطون. وقد حدث أن دعا ملوك إشبيلية المرابطين لنجدتهم في بعض حروبهم ضد الفرنجة، فأعانوهم ثم تغلبوا على بقية الأندلس وظلوا يحكمونها أكثر من نصف قرن حيث ذهب ملكهم في بلاد المغرب على يد الموحدين الذين ورثوا عنهم الأندلس وحكموها مدة قرن من الزمان 1149م - 1232م، وبعد سقوط هذه الدولة عادت الأندلس إلى التفرقة والانقسام، ثم أخذ ملك حكامها يتقلص تدريجياً إلى أن أجلى العرب عن غرناطة آخر حصونهم سنة 1492 م
أما الحالة الفكرية فكان المغرب في أثناء حكمهم الأمويين يعتمد على المشرق في كل شئ تقريباً من الناحية العلمية، وكان يستعد للنضوج الفكري، وقد اجتهد الأمويون ولاسيما في خلافة الحكم بن عبد الرحمن 350 - 366هـ في جلب كثير من الكتب الثمينة التي ألفت في الشرق، كما كان علماء المشرق الذين ضاقت بهم الحال في بلادهم يجدون في الأندلس سوقاً رائجة لأفكارهم ومعلوماتهم، وكذلك كان كثيرون من محبي العلم في الأندلس يقصدون الشرق واردين العلم من منابعة الأصلية، فيمرون بمصر والشام وبغداد والحجاز وقد يذهبون إلى فارس. على أن الحياة الفكرية لم تبلغ أشدها في المغرب إلا في عهد المرابطين، ثم بلغت أوجها الذهبي في زمن الموحدين حيث ظهر ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وغيرهم. ويجدر بنا قبل الكلام عن ابن باجة أن نبدي الملحوظات الآتية:
1 - كان المغرب بعيداً عن المنازعات الدينية العنيفة التي ظهرت في الشرق، فلم يسد فيه إلا مذهب مالك، ولم يكن فيه لا مجوس ولا زنادقة، ولم يظفر فيه كثير من علماء الكلام والجدل. وكان أهم ما يعتني به أهله ولا سيما عصر الأمويين الطب والرياضيات والتنجيم. وكان الناس مشغوفين بالشعر والتاريخ والجغرافيا، ولم تكن موجه التفلسف قد غمرتهم وأفسدت عقولهم كما هو الحال في المشرق. هذه كانت حال الأندلس أول الأمر
2 - ولكن نجد أن المذهب الظاهري الذي يمثله ابن حزم - وهو من أشد المذاهب ضيقاً - يسيطر على الأندلس، حتى نرى كل من يفكر في الفلسفة يضطهد. فلما قدم عبد الله بن مرة القرطبي إلى بلاد الأندلس يحمل الفلسفة الطبيعية (التي يمثلها الكندي) في عهد عبد الرحمن الثالث أُحرقت كتبه أمام ناظريه ولهذا لم يجد الفلاسفة جواً من الحرية حتى ينشروا آراءهم. ولقد اضطهد ابن باجة وابن رشد من العامة والخاصة على السواء؛ ولهذا أيضاً اتخذ فلاسفة الأندلس النظرية القائلة بأن الفلسفة لا تصلح للعامة وإنما هي وقف على الموهوبين من الخاصة، وسنجد كذلك محاولتهم في التوفيق بين الفلسفة والدين
3 - لم يوجد في الأندلس جماعة يقومون بالنقل والترجمة ويتقدمون بعرض الآراء الفلسفية كاليعاقبة والنساطرة في الشام والعراق؛ أما اليهود الذين ادعى كثير من المستشرقين بأنهم كانوا الواسطة في نشر الفلسفة بين مسلمي الأندلس فأثرهم ضئيل، وهؤلاء كانوا تلامذة للمشارقة فتأثر باخيا بن باقودا بإخوان الصفاء وتأثر ابن جبرول وغيره بفلاسفة المشرق الإسلاميين
وعلى العموم فقد كانت الحياة بالأندلس غير ملائمة لجو الفلسفة، وكان الفيلسوف يشعر بوحشة نوعاً ما لشدة التعصب وضيق العقل من هو ابن باجة
هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المعروف بابن باجَّه ولد في مدينة سرقسطة في أواخر القرن الخامس الهجري في ذلك الوقت الذي عصفت فيه ريح الانحلال بدولة بني أُمية بالأندلس، وشب أبو بكر والمرابطون يحكمون في البلاد، فاتخذه حاكم سرقسطة أبو بكر بن إبراهيم صهر أمير المرابطين جليساً له ووزيراً مما أوغر صدر العساكر والفقهاء ولكن الأحوال في سرقسطة اضطربت وهاجمها الفونس الأول ملك أرجونة فسقطة في يده عام 512هـ و 1118. فرحل عنها ابن باجه، وذهب إلى أشبيلية، واستقر بها وألف فيها بعض رسائله في المنطق كما يقول مونك وقد فرغ من إحداها في شوال سنة 512هـ، وتوجد في مكتبة الأوسكوريال تحت رقم 609. ثم قصد ابن باجَّه مدينة غرناطة وأقام بها مدة، ومن ثم ذهب إلى بلاد المغرب. ولما مر بشاطبة اعتقله الأمير أبو اسحق بن يوسف بن تاشفين كما روى الفتح ابن خاقان بسبب لم يذكر ولعله الزندقة، ولكن ما لبث أن أطلق سراحه بشفاعة والد الفيلسوف - ابن رشد
وروى أن أبا بكر بن يحيى بن تاشفين استوزر ابن باجَّه عشرين سنة، ولكن (مونك) يشك في ذلك لأن الحوادث التاريخية لا توافق هذه الوزارة؛ إذ أن أبا بكر بن تاشفين كان قد فر من فاس سنة 501هـ - 1107م؛ وذلك قبل نزوح ابنه إلى بلاد المغرب فيظهر أن مسألة الوزارة هذه غير صحيحة
مات ابن باجه ولم يعدُ طور الشباب، وقيل إنه مات مسموماً إذ كاد أطباء بلده حسداً منهم وحقداً. وكان ابن باجه قد منى بأعداء كثيرين، وكانت وفاته في رمضان سنة 523هـ - 1138م بمدينة فاس، وكان قبره بجوار قبر القاضي ابن العربي
ومن أشهر أعدائه الذين حاربوه ورموه بالزندقة والكفر والخروج عن جادة الدين الفتحُ بن خاقان الفرناطي صاحب (قلائد العقيان)؛ ومما قاله قادحاً فيه: (إن ابن باجه رمد جفن الدين. وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة ولا استنجي من حدث، ولا أقر بباريه ومصوره. . . نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم، واقتصر على الهيئة: (الفلك)، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترأ عند سماع النهي والإيعاد، واستهزأ بقوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادُّكَ إلى معاد)؛ فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نَوْر، جمامه تمامه، واختطافه قطافه. وانتمت نفسه إلى الضلال وانتسبت، ونفت يوم تجزى كل نفس بما كسبت، فقصر عمره على طرب ولهو، وأقام سوق الموسيقى، فهو يعكف على سماع التلحين، ويعلن بذلك الاعتقاد ولا يؤمن بشيء قادنا إلى الله في أسلس قياد، مع منشأ وخيم ولؤم أصل وصورة شوهها الله وقبحها)
ولاشك عندي وعند كل ذي لب أن هذا كلام متحامل فيه كثير من لغو القول وسخف العقل وتحريض للعامة ضد الفلاسفة
منزلته
يقول ابن أبي أصيبعة عن ابن باجه: (كان في العلوم الحكمية علامة وقته وأوحد زمانه. وكان متميزاً في صناعة الطب، وكان متقناً لصناعة الموسيقى، جيد اللعب بالعود)؛ وعده ابن خلدون من أكابر فلاسفة الإسلام بالأندلس، وشهد له ابن طفيل في حي بن يقظان بالتقدم والفضل، كما أن ابن رشد أعجب به كثيراً وحاول شرح بعض كتبه؛ وعندنا أن لابن باجه ميزتين:
1 - إنه أول المشتغلين بالفلسفة في الأندلس بعد أن ظلت كتب الفلسفة زمناً طويلاً مطمورة في مكاتب المغرب، ولهذا كانت خطوته جريئة؛ إذ الغلبة الفكرية كانت لرجال الدين، وهذا يعلل لنا ما لاقاه من اضطهاد وعداوة ظاهرة، ويفسر لنا ما قاله الفتح بن خاقان آنفاً
2 - إنه أول فلاسفة الإسلام الذين حاولوا أن يبحثوا الفلسفة مستقلة عن الدين، وأن في إمكان العقل الإنساني أن يصل إلى المعرفة الحقيقية وكشف أسرار الوجود دون ما حاجة إلى التصوف والإجهاد بالعبادة
ومع ذلك لم يستطيع ابن باجه أن يتم مؤلفاته لانشغاله بأمور الدنيا، ولأن المنية اخترمته وهو في ريعان الشباب. واستمع لابن طفيل يقول فيه: (ثم خلف من بعدهم خلف آخر أحذق منهم نظراً وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثقب ذهناً ولا أصح نظراً ولا أصدق روية من أبي بكر بن الصائغ، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته. وأكثر ما يوجد له من التأليف إنما هي كاملة ومجزومة)؛ وقد تأثر به ابن طفيل في حي بن يقظان تأثراً عظيماً، وما حياة حي بن يقظان نفسه ووصوله إلى المعرفة الحقيقية في جزيرته الخالية من السكان إلا محاولة من ابن طفيل للبرهنة على رأي ابن باجه في تمكن العقل الإنساني من كشف أسرار الوجود وحده
مؤلفاته
ذكر ابن أبي أصيبعة عدداً كبيراً من كتب ابن باجه وأهمها: شرح كتاب السماعى الطبيعي، قول على بعض كتاب الآثار العلوية لأرسطو، قول على بعض كتاب الكون والفساد لأرسطو، ثم كتابيَ الحيوان والنبات لأرسطو، وله تعاليق على بعض المسائل الهندسية؛ أما مؤلفاته فكثيرة منها: كتاب في الاسطقسات: (النار والماء والهواء والتراب) وكلام في البرهان، وكتاب النفس، وكتاب اتصال العقل بالإنسان، ورسالة الوداع وكلام في الغاية الإنسانية، وفصول قليلة في السياسة المدنية، ورسالة تدبير المتوحد. . . إلى غير ذلك من الكتب
وليس لدينا وللأسف من كتب ابن باجه، ولقد أشار (مونك) إشارة موجزة إلى ما تحتويه رسالة الوداع سنذكرها فيما بعد؛ ولخص أيضاً رسالة تدبير المتوحد، أو نقلها عن العبرية رواية عن موسى الأربوني أحد فلاسفة اليهود في القرن الرابع عشر الميلادي، وشارح رسالة حي بن يقظان. وقد ذكر بروكلمن رسالة مخطوطة في مكتبة برلين حاول نشرها الدكتور فروخ، ولم ينشر منها إلا صفحتين هما عبارة عن جمل مقتضبة غير متماسكة. ويظهر إن موضوع هذه الرسالة هو الغاية الإنسانية، كما أن هناك رسالة في المنطق لابن باجة في مكتبة الأسكوريال سبقت الإشارة إليها في أول المقال، وقد كشف أبو ريدة مترجم دي بور جزءاً من رسالة تدبير المتوحد في المكتبة التيمورية بمصر (رقم 290)
1 - رسالة الوداع
كتب ابن باجه هذه الرسالة لأحد تلاميذه وأصدقائه قبيل اعتزامه رحلة طويلة حتى يكون على بينة من آرائه إذا قدر لهما ألا يلتقيا. وأول ما يظهر لقارئ رسالة الوداع رغبة المؤلف في إحياء معالم الفلسفة والعلم. لأنهما في رأيه جديران بإرشاد الإنسان إلى الإحاطة بالطبيعة، وبهدايته بعون الله إلى معرفة ذاته، وبالاتصال بالعقل الفعال الذي يفيض من الله.
ويتكلم فيها عن خلود النفس البشرية، وعن العوامل التي تؤثر في الإنسان وتدفع العقل في سبيل الفكر، وشرح غاية الوجود الإنساني وغاية العلم وهما التقرب من الله عز وجل، وكلامه في خلود النفس مبهم، ويقول باتحاد النفوس، وقد أخذ بهذا الرأي ابن رشد وكان لرأيه أثر كبير عند الفرق المسيحية حتى اضطر القديس توماس وألبرت الكبير للرد عليه في مؤلفات خاصة. هذا وقد عاب ابن باجة الغزالي وقال: إنه خدع نفسه وخدع الناس حين قال في المنقذ من الضلال: إنه يستطيع أن يكشف العالم الحقيقي والعقلي ويرى الأمور الإلهية بالخلوة ويلتذ التذاذاً كبيراً
ومن هذا نرى أن ابن باجه يهاجم الغزالي بعد أن كان تأثيره عظيماً في بلاد المغرب، وبعد أن أسكت صوت الفلسفة في المشرق، ونراه لا يؤمن إلا بطريق العقل سبيلاً للوصول إلى المعرفة الإلهية
2 - رسالة تدبير المتوحد
ذكر هذه الرسالة ابن رشد في آخر كتابه على العقل الهيولاني حيث قال: (أراد أبو بكر بن الصائغ أن يختط خطة للمتوحد في هذه الأمة، ولكنه لم ينجزها وكثير منها غامض، وسنحاول في غير هذا المكان شرح غاية المؤلف من هذه الرسالة لأنه أول من سار في هذا المضمار ولم يسبقه فيه أحد). بيد أن ابن رشد لم ينجز وعده ولم يبق لنا إلا ما نقله مونك عن موسى الأربوني، وهذا المخطوط الموجود بالمكتبة التيمورية وهو غير كامل
وقد قسم الأربوني هذه الرسالة ثمانية فصول، ويظهر أن غاية ابن باجة فيها هي إثبات قدرة الإنسان المتوحد المنتفع بحسنات الحياة البعيد عن مفاسدها، على الاتصال بالعقل الفعال بقواه الفكرية وحدها. ولا يوصي ابن باجة بالخلوة - كما يفهم من لفظ المتوحد - إنما يرشد الإنسان المشتغل بشئون الحياة إلى سبل الوصول إلى الكمال، وهو يشير إلى إمكان ذلك سواء كان هناك رجل واحد أو عدة رجال في درجة واحدة من الفكر، وقد يستطيع هذا أهل بلد بأسره إذا كان تام النظام. ولم تخف على ابن باجة صعوبة هذا الأمر فأوصى المتوحد بالعيش في أغزر المدن علماً، أي في أقربها إلى الكمال، وأجمعها لأهل الفضل والحكمة. وسنعرض فيما يلي أهم ما جاء بهذه الرسالة نقلاً عن (مونك) مختصرين ما أمكن الفصل الأول
تكلم ابن باجة أولاً عن لفظ (تدبير) وأنه يدل في أوسع معانيه على مجموعة من الأعمال ترمي إلى غرض معلوم، فلا يمكن أن يستدل به على عمل واحد، بل على جملة أعمال تنجز تبعاً لخطة معينة كالتدبير السياسي والحربي. وينبغي أن يكون تدبير المتوحد على مثال تدبير الحكومة الكاملة، ومن علامات الحكومة الكاملة ألا يكون بها أطباء أو قضاة؛ لأن أهل هذه المدينة لا يتناولون من الغذاء إلا ما يوافقهم، وبذا تختفي الأمراض الناجمة من الغذاء، وأما الأمراض التي تصيبهم بسبب عوارض خارجية فتزول بنفسها. ولما كانت العلاقة بين أهل المدينة بعضهم مع بعض أساسها المحبة امتنع الخلاف فاستغنى عن القضاة. والحكومة الكاملة تكفل للفرد أن يبلغ فيها أرقى منزلة من الكمال؛ لأن الكل يفكرون بأعدل تفكير، وينظرون أدق نظر، ويطيع كل فرد ما تأمر به القوانين، لأنه يكون عالماً بها، وبذلك تخلص أعمال الإنسان من الخطأ والهذر والختل فلا يكون الناس بحاجة إلى الطب الأخلاقي وهو ما لا غنى للجمهوريات الناقصة عنه
(البقية في العدد القادم)
(بيروت)
عمر الدسوقي