الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 464/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 464/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة - العدد 464
الحديث ذو شجون
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 25 - 05 - 1942


للدكتور زكي مبارك

ينبوع حلوان، وما أدراك ما ينبوع حلوان؟! - عناد بعض المؤلفين - النواب الجامعيون - مع الدكتور طه حسين - امتحان جديد - يقال ويقال وما أكثر ما يقال؟

ينبوع حلوان

منذ أكثر من عامين فوجئ سكان حلوان بينبوع يتفجر بقوة وعنف، وتسامع بذلك أهل العلم بخصائص الينابيع، فأسرعوا إلى تحليل ماء الينبوع الجديد، ثم عظمت دهشتهم وعظم فرحهم حين وجدوه يغني المصريين عن استيراد المياه المعدنية من الأمطار الأوربية. فأهلا وسهلاً بالنعمة التي يصغر بجانبها صادق الحمد وعاطر الثناء

ولكن هذا الينبوع السعيد هدد بقدومه جماعات المتجرين بالمياه المعدنية، فماذا يصنعون؟ وهل يجوز السكوت عن ثروة تعتز بها مصر على الزمان؟

هداهم الحس التجاري إلى طمر الينبوع قبل أن تلتفت الحكومة المصرية إلى منافعه الحقيقية، فتحرسه من مكايد أهل البغي والعدوان

وكيف يطمر الينبوع؟ وفي أي وقت؟ يطمر بأكياس الأسمنت، وفي غفوة الليل!!

وهنا ترسم صورة قليلة الأمثال، بين صور الخيال

كان الينبوع يغني نشيد الحرية، فقد طال سجنه في غيابات الصخور ألوفاً من السنين. وهل يعلم إلا لله مقدار الآماد التي قضاها ذلك الينبوع وهو سجين؟

لقد تلقته رمال حلوان بترحيب رنان، وكان في أشد الشوق إلى ذلك الترحيب. ألم يكف ما عاناه من الحبس الطويل في ظلمات الصخور الصماء؟

هو يغني، والمال تغني، وما أجمل الغناء حين يلتقي الحبيب والمحبوب!

كان الليل ليل حلوان، وليل حلوان موحش حين يغيب بدر السماء. . وكان الينبوع حديث العهد بالميلاد، ولا علم له بمتاعب الأحياء، فكان يغني ويغني بلا حذر ولا احتراس

وفي حومة تلك الفرحة الشعرية نظر فرأى جماعات لهم وجوه بشرية، ولهم قلوب حجرية، فأنزعج وارتاع

ماذا يريد هؤلاء؟ ماذا يريدون؟

كان الينبوع يعرف أنه فكرة نقية طاهرة، وأنه لن يسيل فوق الرمال إلا كما يسيل القلم النبيل فوق الأوراق، فما بلاؤه بهذه الوجوه السود في ليلة سوداء؟

أيكون هؤلاء مصريين؟

أيكونون أجانب؟

وما خوف أولئك وهؤلاء من ينبوع سيمحو عللهم الدفينة بلا تفريق بين هذه الديانة أو تلك، وبلا تميز بين هذا الجنس أو ذاك؟

طب. طب، طب!

ما هذا؟ ما هذا؟

تلك أكياس الأسمنت تلقى بغلظة وبوحشية في ثغر الينبوع لتصده عن الابتسام لجمال الوجود

وينظر الينبوع فيرى الرمال أضعف من أن تحميه، ويرى الأمة في غفلة عن قيمته الذاتية، ويرى الحكومة تنتظر آراء الخبراء، لتقرر حراسته من بغي الأعداء، وذلك لا يتم إلا بعد أسابيع طوال!

فماذا يصنع؟

أيخضع ويستكين إلى أن يظفر بتقرير المصير؟

وكيف وفيه قوة عارمة تذيب الألوف من أكياس الأسمنت؟ الرأي أن يدفع الينبوع تلك الأكياس، وأن يهدد بالغرق من ينزلون لتثبيت تلك الأكياس، فكان الينبوع ما أراد

فإذا سمعتم أن خلائق ماتت بلا علة فاعرفوا أنها تعرضت لطمر ذلك الينبوع النفيس في تلك الليلة الظلماء

وإن سمعتم أن ذلك الينبوع لم ينقطع عن الغناء، فاعلموا أنه موصول الأواصر بوحي السماء

ولكن ما الموجب للحديث عن ينبوع حلوان في هذا الوقت؟

ليتني أعرف!

عناد بعض المؤلفين قرأت كلمة الأستاذ محمود عزت عرفة في التعقيب على الكلمة التي نشرتها (الرسالة) لسعادة الأستاذ طه الراوي، الكلمة التي بين فيها أن موشحة (أيها الساقي) ليست لابن المعتز، وإنما هي لابن زهر أحد شعراء الأندلس

وأقول إن هذه الموشحة لها عندي تاريخ، فقد نسبتها إلى ابن المعتز في الطبعة الأولى من كتاب (مدامع العشاق)، ثم ارتبت بعد ذلك في نسبها فأضفتها في الطبعة الثانية إلى (أحد الشعراء) وقد صح عندي أن نسبها إلى ابن المعتز نسب مدخول

وفي سنة 1927 كتبت عن ناظمها الأصيل كلمة في الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ تحت عنوان (عرفناه! عرفناه!)

وكان الظن أن تستفيد اللجنة التي ألفت كتاب الأدب للسنة التوجيهية من ذلك التحقيق الأدبي، لكنها خشيت أن يقال إنها استفادت من جهود أحد (أصدقائها) في هذه البلاد!

والآن وقد وصل التحقيق من أحد فضلاء العراق لم يبق ما يمنع من تصحيح تلك الغلطة في مطبوعات وزارة المعارف المصرية!

النواب الجامعيون

كثرت الحفلات في هذه الأيام لتكريم الشبان الذين نجحوا في انتخابات مجلس النواب من أبناء الجامعة المصرية، وهم الأساتذة محمد فريد زعلوك وأحمد قاسم جودة وجلال الدين الحمامصي وحسين شعير وعلي كريم ومحمد مصطفى خليفة ومحمد زكي علام.

فما معنى ذلك؟

أيكون معناه أن الفكرة الجامعية ستسيطر على الحياة النيابية؟

أيكون معناه أن التفكير الحر ستكون له أسندة من أولئك الفتيان؟

ليت ثم ليت؟!

أيكون معناه أن الحرية الفكرية ستظفر برعاية جديدة تصد عنها عوادي الجهل؟

ليت ثم ليت!

كنت أنظر إلى ما يصنعه النواب والشيوخ الوفديون في عهد الوزارة الماضية فأعجب وأطرب، فقد كانوا يقهرون تلك الوزارة على السماح بنشر ما يمنعه الرقيب، وكان سبيلهم إلى ذلك أن يثيروا المشكلة في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، فيصبح من حق الجرائد أن تنشر ما تعرض لمنعه الرقيب

فهل ننتظر من النواب الجامعيين مواقف تشبه تلك المواقف في الانتصار لحرية الرأي والفكر والبيان؟

وهل نرجو أن يكون لجهادهم النيابي لون يتسم بالغيرة على الحرية الفكرية؟

كل ما أخشاه أن ينساقوا مع التيارات السياسية لتقام لهم حفلات جديدة باسم الوزراء الجامعيين!

عذركم مقبول، أيها الفتيان، فالأدب الصرف لا يسوق لأصحابه غير المتاعب، ولا يؤهلهم لغير التمرس بمعضلات الوجود

مع الدكتور طه حسين

المعروف أن بيني وبين الدكتور طه (ما صنع الحداد) وإن كنت أجهل المراد من هذه العبارة المصرية، ولكن ما صنع الحداد لا يمنع من لقاء الدكتور طه حسين، لأنه جاري بوزارة المعارف، والجيران يتلاقون كارهين أو طائعين، وفي ذلك التلاقي يجري الحديث حول محصول الحركة الأدبية في هذه الأيام، وهو يقرأ جميع ما تنشر المجلات ليعرف إلى أي مدى ينتهي جموح بعض الكاتبين!

- أنت يا دكتور زكي تتجاهل أن الدنيا في حرب

- وماذا يصنع الكاتب في أيام الحرب، يا سيدي الدكتور؟

- يكتب ثم يطوي ما يكتب إلى أن تجئ أيام السلام

- وإذا نشر ما كتب؟

- يعاقب بالصمت

- ولكن الكتابات الأدبية كالود الصحيح وهو يطلب في جميع الأوقات

- هنالك أوقات تكون منها الصحة ضرباً من الاعتدال، ويكون الفوز لأهل الأمراض

- وهل وصلنا إلى هذه الغاية يا سيدي الدكتور؟

- لم نصل إلى هذه الغاية، ولكني أخشى عواقب هذه الحال

- وما هذه الحال؟ - هي ضعف الأعصاب عند جميع الناس، بحيث يجوز الضجر من أجمل الأشياء وأشرف المعاني

- ولكن المفكر مسؤول أمام قرائه في كل وقت، وفيهم من يجهل أن الدنيا في حرب

- من واجب المفكر أن يعلم قراءة ما يجهلون

- وهذا ما أصنع يا سيدي الدكتور

- هل علمتهم أن الدنيا في حرب؟

- قصصت عليهم قصة الطائر الغريب

- وما قصة الطائر الغريب؟

- هو طائر يساير الأنوار المبثوثة فوق الشواطئ

- لأي غرض؟

- ليعرف مسابح الأسماك فيهديها سواء السبيل

- الناس يقولون غير ذلك!

- وماذا يقولون؟

- يقولون: إن الطائر يضع المصابيح ليجتذب الأسماك إليه

- وماذا أصنع إذا كانت الطبيعة ترى النور سر الجاذبية؟

- ومن أجل هذا تطالب بحرية الفكر والرأي؟

- هو ذلك!

- اكتم هذا الحديث يا دكتور زكي، ولا تخبر أحداً بأنك حاورتني في الأنوار والظلمات

- سمعاً وطاعة، يا سيدي الدكتور، فلن أنشر هذا الحديث إلا بعد انتهاء الحرب

امتحان جديد

تقوم الشواهد في كل يوم على أن الحكم للسيف والمدفع، وأن المعاني الروحية في سبيل الزوال، فكيف نلقي القراء في حدود ما عودناهم لعهد السلام؟ وكيف نناضل لحفظ سلطان الرأي في زمن تضعضعت سلطنة الرغيف؟

هل نترك معالجة المشكلات اليومية وننصرف إلى معالجة المشكلات التاريخية؟

هل نتحدث عن جبل واق الواق في أساطير الأولين؟ لا هذا ولا ذاك، فسترون كيف نخرج من امتحان هذا الزمان بأمان

يقال ويقال

يقال: إن المؤلفات الأدبية ظفرت في هذه الأيام برواج لم تعرفه من قبل؛ ويقال: إن السبب في هذا الرواج هو نفرة العقول من سخف الدعايات الأجنبية

ويقال: إن الحرب علمت المصريين أشياء وأشياء، ولكنها غفلت عن تعليمهم معنى التضامن الوطني، فجهلوا التعاون في توفير الأقوات

ويقال: إن وزارة الشؤون الاجتماعية قضت أعواماً في تعريف الصناع والزراع بأنهم تعساء، ولم تعلمهم كيف يدفعون التعاسة بشرف النضال في المطالب الحيوية

ويقال: إن في النية فرض ضريبة على النساء اللائى يتباهين بنشر صورهن في بعض المجلات

ويقال أيضاً: إن أزواجاً سيعاقبون على السماح لزوجاتهم بالاشتراك في (المراقص الخيرية)!!

وسمعت ثم سمعت أن الدولة ستحرم الرّياء الاجتماعي تحريماً قاطعاً، وأنها لن تبيح شرف النيابة عن الأمة لمن يسمح لزوجته بإقامة حفلات الاستقبال

وحدثني من أثق بصدق روايته أن الميسر سيكون من المحرمات، وأن السهر في المنازل سيمنع بعد صلاة العشاء

صلاة العشاء؟. . . صلاة العشاء؟

يظهر أنني انتقلت إلى الحديث عن أهواء التاريخ!

زكي مبارك