الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 462/خسرو وشيرين

مجلة الرسالة/العدد 462/خسرو وشيرين

بتاريخ: 11 - 05 - 1942


في التصوير الإسلامي

للدكتور محمد مصطفى

- 4 -

لما رحل خسرو إلى بلاد الروم، ليطلب مساعدة الإمبراطور موريس على بهرام جوبين، ضاق في عيني شيرين ريف أرمينية على اتساع أرجائه، وكثرة ملاهيه، وتنوع ضروب التسلية فيه؛ فرجعت إلى عمتها مهين بانو، حزينة على فراق حبيبها، آسفة لقسوتها عليه، فنشطت عمتها في جلب السرور إلى قلبها، والترويح عن نفسها، وإحاطتها بما ينسيها أحزانها.

وكان خسرو قد نجح - بفضل مساعدة إمبراطور الروم - في استرداد عرش أجداده، وتوّج للمرة الثانية ملكا على إيران، وحكم بالعدل بين رعيته، فصار محبباً إليها. ولكنه لم يجد فيها يحيط بجلال الملك من مباهج الحياة، ما يخفف عنه لوعة الحزن والأسى، التي يشعر بها في قرارة نفسه لغياب شيرين.

وماتت مهين بانو، تلك العمة الطيبة القلب، فصارت شيرين ملكة أرمينية، ولكنها لم تستطع نسيان أحزانها، بل زادت كآبة لما علمت بزواج خسرو من مريم. وأرادت أن تجد العزاء والسلوى في الشعور بقرب حبيبها منها، فرحلت من أرمينية إلى (قصر شيرين) بين الهضاب المرتفعة في إيران، ومعها جمع كبير من صويحباتها وأتباعها، كان بينهم شابور الذي بقى في خدمتها بأمر من صديقه خسرو، يرعاها في وفاء وإخلاص. ولما وصلت إلى قصر شيرين أرسلت شابور إلى المدائن، بعد أن أوصته ألا يخبر خسرو عن وجودها في قصرها، مخافة أن تعكر عليه صفو حياته الزوجية. ولكن شابور لم يكترث لتحذيرها، وجاء إلى المدائن حيث وجد خسرو فرحاً مسروراً، لتلقيه أنباء مقتل القائد بهرام جوبين، فأخبره بوجود شيرين على مقربة، وزاده بذلك طرباً وحبوراً، ثم رجع إلى قصر شيرين.

وكان لقصر شيرين - بالرغم من كل ما فيه من الاستعدادات العظيمة ملكة أرمينية - نقيصة واحدة، وهي وجود المراعي والأغنام بعيداً عنه، في ناحية الجبل الأخرى، ولهذا السبب لم يكن في استطاعة شيرين أن تحصل على أي مقدار من اللبن. واشتكت من ذلك يوماً ما أثناء وجود شابور، فأخبرها عن مثّال ماهر، واسع الحيلة، كان زميلاً له في أيام الدراسة، اسمه فرهاد، يظن أن في استطاعته أن يذلل هذه العقبة وأن يعمل شيئاً في سبيل إرضاء رغبتها. وذهب شابور فأحضر فرهاد. وما كاد هذا يقف بين يدي شيرين ويتطلع إليها، حتى غمره حبها وتولاه الذهول، فلم يفقه من كلامها شيئاً، واضطر أصدقاؤه بعد ذلك أن يفسروا له رغبتها، وأخذ فرهاد في تنفيذ ذلك بجد واجتهاد، حتى أمكنه بعد شهر واحد أن ينحت في الصخر قناة تخترق الجبل، وتصل بين القصر من ناحية وبين المراعي من الناحية الأخرى. وأخذ رعاة الأغنام يحلبون اللبن ويسكبونه في القناة فيجري فيها إلى القصر، وبذلك صار في إمكان شيرين أن تحصل في صباح كل يوم على ما تحتاج إليه من اللبن الطازج. وأعجبت بهذا العمل الهائل الذي يفوق مقدرة البشر، فأطنبت في مديح فرهاد، وأرادت أن تكافئه بما يريد من الذهب والأحجار الكريمة، ولكنه أبى أن يأخذ شيئاً، وفر هارباً إلى الصحراء، حيث هام على وجهه كالمجنون.

سمع خسرو بهذا الحب فأرسل من أحضر فرهاد من الصحراء، ولما مثل بين يديه، حاول أن يثنيه عن حبه لشيرين، ولكنه لم يفلح بالوعد ولا بالوعيد أن يزحزحه قيد أنملة بعيداً عن ذلك. وأخيراً عمد خسرو إلى الحيلة، فوعده أن يزوجه شيرين، إذا استطاع أن يشق طريقاً في صخر جبل بيسُتون ظناً منه أن ذلك سيصعب عليه. ولكن فرهاد وافق في الحال، وقبل هذا الشرط، ورحل إلى جبل بيستون، حيث بدأ بنحت لوحة عليها صورة شيرين وخسرو وشبديز، وجعل من صورة شيرين رمزاً لحبيبته، لكي يراها في كل لحظة تطل عليه لترى بنفسها مقدار كده وتعبه وما يبذله من العناء في سبيل الزواج بها، ولكي يلجأ غليها في ساعات فراغه ليبثها غرامه وشقاء قلبه في حبها. وبلغ شيرين ذلك، فجاءت إلى جبل بيسُتون لتسري عن فرهاد، ولكنه عندما فوجئ برؤيتها، كاد أن يفقد صوابه، لفرط ما طغي عليه من سرور، فأشفقت عليه شيرين وأعطته جرعة من شراب، تمكن بها من استعادة صوابه الفاقد، فحدثها عن مبلغ هيامه بها وعن حالته التعيسة.

وفي (شكل1) جاءت شيرين لزيارة فرهاد، وهي راكبة على جواد أصيل، عند ما علمت بما يكنِّه لها من الحب المبرح، ونراه هنا - ومعه أدوات النحت - حيث يعمل في الطريق الذي يشقه بجبل بيسُتون وهو راكع أمامها يرتشف من قَعْب خزفي جرعة من شراب أعطته إياه شيرين لتهدئة ما طغى عليه من الوجدان بتأثير هذه الزيارة المفاجئة. وإلى جوار فرهاد لوحة نحتها في الصخر لتخليد ذكرى فتح هذا الطريق العظيم، وقد نحت في أعلى هذا اللوحة صورة خسرو وهو واقف بين حبيبته شيرين وبين موبذ الموبذان، وفي اسفلها صورته وهو راكب على فرس شبديز. وقد أراد المصور أن يمثل هنا الصورة الشهيرة التي نحتها المثَّال فرهاد في صخور (طَاق بُستان) والتي خلدت لهذا المثال شهرة واسعة.

(أنظر الشكل2 القادم). ونلاحظ في هذه الصورة الغبار الذي يتطاير خلف جواد خسرو على هيئة السحب الصينية (تشي)، وهذا يدل على مقدار ما بلغه تأثير التصوير الصيني في أسلوب مدرسة شيراز التيمورية في إيران. ومن ميزات أسلوب هذه مدرسة ما نراه في هذه الصورة من الحركة والحياة في رسم المنظر في الهواء الطلق، بخلاف ما كان متبعاً في المدارس السابقة لهذه، من رسم المناظر في داخل المباني وما يقتضيه ضيق المكان من الجمود الذي يظهر في رسم الصور. كما أن رسم الأشجار المورقة المحيطة بالمنظر صار منذ هذا العصر من التقاليد المتبعة في تصوير المناظر الخارجية وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي يمكن تأريخه بين سنتي 813 و823 هجرية (1410 - 1420م)، وهو محفوظ في مجموعة كارتيير بباريس.

وفي (شكل2) النقوش الخالدة التي يقال إن المثّال فرهاد نحتها بداخل كهف الملك خسرو برويز في طاق بستان. ويقع طاق بستان في ناحية الشمال الشرقي من كرمانشاه، في سفح جبل بيستون في مكان ملئ بالخضرة الناضرة والمياه الجارية. ويتألف من عدة كهوف أمر بنحتها بعض ملوك الأكاسرة في صخر الجبل. وينسب أكبر هذه الكهوف للملك خسرو برويز، وفي الحائط لهذا الكهف نحت فرهاد هذه النقوش، فنرى في أعلى الصورة خسرو بين شيرين وموبذ الموبذان، أو كما يقول رأى آخر بين الإلهين هرمز وأناهيب هما يبايعانه بالملك. وفي أَسفل الصورة خسرو على جوادهِ شبديز ويذكر أبو عمران الكسروي طاق بستان في الأبيات الآتية

وهم نقروا شبديز في الصخر عبرةً ... وراكبه برويزُ كالبدر طالع عليه بهاءُ الملك والوافدُ عكّفٌ ... يخال به فجر من الأفق ساطع

تلاحظه شيرينُ واللحظ فاتنٌ ... وتعطو بكف حسَّنتها الأشاجع

يدوم على كر الجديدْين شخصه ... ويلقى قويم الجسم واللون ناصع

ويروي ابن الفقيه أن بعض الملوك اجتاز هناك ونزل وشرب؛ وأعجبه الموضع فاستدعى خلوقا وزعفرانا فخلق وجه شبديز وشيرين والملك فقال بعض الشعراء:

كاد شبديز أن يحمحم لما ... خُلّق الوجه منه بالزعفران

وكان الهمام كسرى وشيري ... ن مع الشيخ موبَذ الموبذان

من خَلُوق قد ضمخوهم جميعاً ... أصبحوا في مطارف الأرجوان

(له صلة)

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربية