مجلة الرسالة/العدد 462/المدنية والإنسان
→ في سبيل إصلاح الأزهر | مجلة الرسالة - العدد 462 المدنية والإنسان [[مؤلف:|]] |
من مذكرات قاضي شرعي ← |
بتاريخ: 11 - 05 - 1942 |
(أن المدينة التي لا تصون نفسها من الدمار، لا يمكن أن
تصون الإنسان)
للأستاذ حسين الظريفي
كثر الكلام عن عناصر المدنية ومظاهرها، وما لها من فعل وانفعال في كل أبناء الحياة، وكان من البداهة أن يزيد تأمل الإنسان فيما دخل عليه في وسائل معاشه وطرق تفكيره، وفيما وراء ذلك من مظاهر النفس والشعور؛ فالمدنية الحديثة لم تدع شيئاً لم تأخذه بنصيب، من بعيد أو من قريب، فلم تقف عند حد الوسط الذي نشأت فيه، وإنما فاضت عنه إلى خارج الحدود، وإلى ما وراء البحار والجبال وكل حاجز أقامته الطبيعة في قرونها الطوال، ولم تتناول مظهراً واحداً من مظاهر الحياة، وإنما جمعت كل هذه المظاهر ووضعتها في موضع المحو والإثبات، فأخرجت للناس مظاهر جديدة عليها طابع من التفكير الحديث وما يلي التفكير من إرادة ومن عمل، ومن نتائج خطيرة تبطل دونها كل محاولة مقابلة.
على أن صراعاً قام ولم يزل قائماً بين ما وصل إليه العلم الحديث من فهم للحقائق وقيام بالعمل، وبين ما يجر هذا العصر وراءه من تراث عقول خلت منذ أن رأت الأرض أول هلال في الأفق. وما زال الصراع قائماً في حرب تستحرّ هنا وتخف هناك، فتتغير الحقائق وتتبلور ثم تنصب في شكل جديد تؤثر على الناس فيما لديهم من وسائل الحياة، وفيما عندهم من أساليب الفكر والبيان.
لقد كانت تبشرنا المدنية الحديثة بإحلال الرخاء في كافة الأرجاء، وكانت أبلغ كلمة تخرج من أفواهها تلك التي تصور الشعوب في وحدة كاملة شاملة غير متنافرة الأجزاء، تفاهمها دائم، وسعيها وراء الصالح العام.
تلك أمنية تملأ خيال كل مفكر، وتسيل على لسان كل ذي بيان؛ إلا أن مدنيتنا الحديثة كانت تحاول إلهامنا اليقين في قرب حلول الساعة التي يكون فيها الناس أمة واحدة، فشحذت العزائم وانطلقت الجوارح تعمل في هذا الحفل، والجميع يأملون ويعملون.
كان في الإمكان أن يتعارف الناس على غير ما تعارفوا عليه طيلة القرون التي خلت.
فتخرج الشعوب عما رزحت تحت أعبائه من ضيق في ناحية الحقائق وسعة في ناحية الخيال، وتسخر الطبيعة بما فيها من قوى كامنة وساكنة لانتفاع الناس بها بعد أن كانت مصادر الهيلم في وادي الظنون والأوهام.
غير أن المدنية وقد نفذت من المادة إلى داخل النواة فأخرجتها بمظاهر مختلفة فيها منافع للناس، قد وقفت دون المشاعر فلم تأخذهما إلا بطرف يسير، لا تفتأ فيه أن تنقلب إلى ما كانت عليه متى أثيرت في النفوس تلك الغرائز التي تحيا في قاعها، وتعمل على إحياء السيرة التي كان عليها الإنسان في أول عهده بالحياة، فكانت هناك بقية مما يتصل بالروح بعيدة عما هي لصيقة بالمادة، وفي هذه الشقة يضيع التوازن ويحل الاضطراب.
واليوم، وبعد أن قامت الحرب على قدم وساق ولما تزل قائمة تتردد في أسماعنا أصوات الذين أشعلوها وما زالوا يمدونها بالوقود؛ وهي تحمل نغمات الوعد بإحلال السلام بعد إنهاء الحرب وإحراز النصر؛ ولكن فاتهم أن السلام شيء غير مجرد الكلام وأن نزع السلاح لا يضع خيراً ولا يرفع شراً، وأن أصل الداء فيما نحن عليه من عقائد وأفكار وأخلاق تحدث خروقاً كثيرة في مدنيتنا الحديثة.
لقد أردنا من المدنية أن تقينا شرور الطبيعة وأن نجد على راحتها الشفاء من كل داء، ولكن فاتنا أن المدنية التي لا تقدر على حماية نفسها من الدمار لا يمكن أن تصون غيرها مما يخشى الوقوع فيه. وما دامت المدنية لم تكن في تقوى فيه على رد كل يد، تخرج عليها مما حولها ومما عندها، فإن الإنسان ولا ريب غير بالغ ما يريد الوصول إليه من إملاء الحياة بالحياة وطبع الأيام على حد السلام.
إن للمدنية يداً دخلت المواد كلها، ولكنها صنعت فيما صنعت تلك القلاع الطائرة التي تحمل الموت الزؤام، وتلك البروج المتحركة التي ترمي بشرر كالقصر، ومن وراءها ضروب من الوسائل التي تنشر الموت والخراب، ونحن بعد ذلك أولو مدنية وفي تطور إلى الأمام!
أنا لا أنكر أن للمدنية فضلا سابغاً على بعض المرافق وفي بعض الجهات، ولكنه فضل غير جامع وغير مانع لما يظهر من نقص وافتقار. لقد أعطتنا المدنية الحديثة متعة بما ابتكرته من وسائل الترفيه وفنون المسرات، ولكنها لم تنقص من أطراف ما يدخل الناس من هموم وأحزان، وإنما زادتها أضعافاً مضاعفة، وكانت الحياة سلوة أبنائها، لا يشترون لذائذها إلا بأزهد الأثمان، فعادت وقطوفها مرفوعة وممنوعة إلا أعطى المال غير صاغر وكان من أهل الثراء.
يمكن أن يقال: أن المدنية لم تبلغ بعد شأوها، وإنها ما زالت دون المدى الذي تسعى إليه، ولكنها ولا ريب قد بلغت في مختلف مراحلها حداً لم يعد جديراً بها ألا تحسب لأرواح الملايين من الناس أي حساب، وأن تقيم قوة الحديد والنار في موضع التفاهم وتبادل الآراء، دون أن يمنع التقاتل ما أعدته الطبيعة من حواجز أقامتها بفعل الأجيال، ثم انطلقت قوى الخراب واليباب تفعل فعلها في البر والبحر وعلى متون الهواء، واستحر القتل فاخترقت خطوط الدفاع وتناول الدمار كل مرفق من المرافق. تلك ظاهرة ولا كالظواهر: تبعث في نفسي فكرة الانتقاض على هذه المدنية التي لم تستخدم في شيء بأكثر مما استخدمت في إهلاك النسل والحرث. ولست أشك في أن المدنية الحديثة ذات جروح دامية، وأن داءها في نفسها، وأنها الآن يعز عليها الأساة.
(بغداد)
حسين الظريفي المحامي