الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 461/ذكرى ميلاد الرسول

مجلة الرسالة/العدد 461/ذكرى ميلاد الرسول

بتاريخ: 04 - 05 - 1942


للأستاذ محمد يوسف موسى

(بقية ما نشر في العدد 458)

يقول ابن إسحاق فيما يرويه ابن هشام في سيرته: أن عبد المطلب جد الرسول قد نذر - فيما يزعمون - لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا مبلغ الرجولة لينحرن أحدهم لله عند الكعبة. فلما توافى بنوه عشرة وصاروا رجالاً، جمعهم وأخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء به، فأطاعوا وقالوا: كيف تصنع؟ فذهب بهم إلى هبل - أعظم أصنامهم وكان مقاماً داخل الكعبة - وأقرع بينهم بالقداح - فخرج القدح على عبد الله أحب بنيه إليه، فأخذ والده إلى إسافٍ ونائلة - وكانا كذلك صنمين - وأخذ الشفرة وهم بذبحه، فقامت إليه قريش وبنوه ومنعوه ما أراد من الأمر الجلل، وانتهى الأمر باستشارة عرافة لعلها تأمر بما يكون فيه من هذه الكارثة مخرج، فأشارت عليهم بأن يقرعوا بين عبد الله وعشر من الإبل - وهي مقدار الدية - فإن خرجت القرعة على الإبل نحروها ونجا عبد الله، وإلا زادوها عشراً ثم عشراً حتى يرضى الله. وأخيراً رجعوا وظلوا بقوامهم يستوحونها وفي كل مرة يخرج القدح على عبد الله، حتى بلغت الإبل مائة، فخرج القدح عليها ثلاث مرات متواليات، فنحروها فداءً عنه، وكان فرح عظيم.

هل نرى سخرية أكبر من هذه؟ كبار العقول والأحلام يحكمون ما صنعوا وأقاموا من أصنام في أنفسهم وبنيهم ودمائهم! (ولقد كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فتخذ وربَّا، وجعل الثلاث الباقيات أثافيّ لقدره، وإذا أرتحل تركه، فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك)

وإذا كان العرب - كغيرهم من الأمم - من الناحية الدينية والناحية الاجتماعية في حاجة إلى دين جديد يخرجهم من الضلال للهدى ومن الظالمات للنور، وينقذهم مما تردوا فيه من جهالة جعلتهم عبيداً لما يصنعون من أصنام وأوثان. هذا الدين الجديد كان الإسلام الذي يتفق والإنسانية التي بلغت النضج الكامل. جاء به محمد ﷺ، فاضطرب لمولده رجال اليهود والنصرانية، إذ رأوا فيه قضاء على ما كان لهم من حول وسلطان.

هذا الدين كان حرياً بنا أن نعثر به ونهتدي بهديه، وقد رأينا كيف جعل من العرب المتعادين المتقاطعين أمة متماسكة متحدة ملكت في سنوات معدودات بلاد فارس والروم، وكيف قدم للعالم مبادئ وتشريعات فيها الصلاح كل الصلاح والخير كل الخير، وكيف أسس حضارة لا تزال مضرب الأمثال.

نحن - وسائر المسلمين في العالم من أدناه إلى أقصاه - نحتفل كل عام بميلاد محمد ﷺ، ويلقي في كل ما نقيم من حفلات ما يأخذ بالأسماع والألباب من النثر والشعر، فنظن أننا بهذا قضينا واجب الذكرى بخاتم النبيين الذي كان بعثه بشير رحمة للعالمين. لا، والله، لن نقضي حق هذه الذكرى المجيدة إلا كنا أهلاً لهذا الدين الذي نشرف بالانتساب إليه، وإلا إذا أخذنا بتشاريعه وآدابه وتقاليده. وإن أمة لا تعمل إلا الكلام تنمقِّه، والمآثر تعدِّدها، والتاريخ ينقِّر عنه في حسرة وألم، لهي أمة مقضي عليها بالانحلال. لقد صرنا في زمن يعتبر فيه طلب التشريع الإسلامي ضرباً من العبث، والمناداة بتقاليد الإسلام عودة للرجعة. وهؤلاء الذين يرموننا بالعبث والرجعية يرون الخير في أن يأخذوا من تقاليد أوربا وحضارة أوربا التي نشاهد مبلغ ما صارت إليه وما فعلت بأصحابها! وهم مع هذا كله يحتفلون بميلاد الرسول وبهجرته وبكل ذكرياته وأيامه المجيدة، ظانين أنهم بما يلقون أو يسمعون من الخطب قد قضوا ما عليهم من واجب!

لمحمد ﷺ الذي نتذكر هذه الأيام من كل عام مولده هدْىٌ وسنن في كل نواحي الحياة، وللدين الذي أرسل به تشاريع تناول جميع الشئون، ونجاحنا في هذه الحياة وسعادتنا فيها في الدار الآخرة رهن بإتباع هذا الدين في الجليل من الأمر والحقير، وكرامتنا كأمة لها مقوماتها وخصائصها في أن نلجأ إلى هذا الدين وحده، نأخذ منه ما نحتاج من تشريعات وقوانين وتقاليد هي مجلبة للعز والفخر.

يبدأ الاحتفال وينتهي في القليل من الزمن، ويعود كل المحتفلين إلى داره. فليتذكر كل منا إذن إذا ما خلا بنفسه بعد أن أنفض الحفل: أنه مسلم، وأنه منذ ساعات كان الاحتفال بذكرى ميلاد نبي الإسلام ورسوله، وأن هذا الإسلام - فيما يوصي به - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن كان في ذلك غضب الرؤساء وأولي الأمر، وبالرفق بالفقير وإعطائه حقه وبالإخلاص لله في السر والعلن، وبعدم خشية أحد إلا الله مالك الأمر كله، وبعدم استخذاء الإنسان فلا يذل لغيره من المخلوقين مثله، وبالغضب لله كلما أمتهن شيء من دينه أو ديست شرائعه، وباعتبار الناس جميعاً أخوة لا فرق بين جنس وجنس ما داموا جميعاً تحت راية الإسلام. فإذا تذكر هذا كله، فليسأل نفسه: أين هو من هذا الذي يأمر به الإسلام؟ وهل هو مؤمن حقاً يفهم الدين ويعمل به؟ أم مسلم لأنه ولد في أسرة مسلمة ونشأ في بلد إسلامي؟ بعد هذا إن عرف من نفسه أنه مؤمن حقاً بقلبه وعمله، فليحمد الله وليعلم أنه يحتفل بقلبه وعمله في كل حال بالإسلام ورسوله وبمولد هذا الرسول وبعثته، ما دام يعرف الدين ويعمل به، ويحترم الرسول ويعمل بسنته وهديه. وإن عرف من نفسه غير ما تقدم، فليعلم أنه مراء يظهر الاحتفال يصاحب الإسلام ويمتهن الإسلام ورسوله بالإعراض عما جاء به من هدى وشرائع وسنن وآداب، وليندم وهو في سعة من أمره وليعزم على أن يكون في غده خيراً منه في يومه. هدانا الله سواء السبيل، ووفقنا إلى الصراط المستقيم.

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين