الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 460/معارج الأحداث

مجلة الرسالة/العدد 460/معارج الأحداث

مجلة الرسالة - العدد 460
معارج الأحداث
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 04 - 1942


للأستاذ سعيد الأفغاني

ولست أعني بالأحداث من صغرت أسنانهم فقط، وإنما عنيت مع ذلك، أشباههم: ممن صغرت أقدارهم، وضؤلت معارفهم، ورقث عقولهم، وانحطت هممهم وتخلفت أعمالهم. . . ولو جللهم الله المشيب وعلت رؤوسهم النسائج البيض.

ولعمر الله ما أدري لِمَ يُعْرض الكتاب عن طبقة هي إحدى عوائق النهضة الصحيحة لعصرنا، فلا يصفون منها ما يصف الطبيب من الجراثيم وأعراضها وفتكها، ثم ما يكون من سبل الوقاية، وطرق العلاج. وهي طبقة تراها منبثة في الشوارع والأندية والمجامع والمعاهد والدواوين. . . لم يرزقها الله من المواهب ما تستطيع أن تنفع به، وحز في نفسها شعورها بالضعة وسقوط المنزلة، فاندفعت في صفاقة وقحة تدّعي ما ليس فيها، ثم ترامت في الطعن على الناس ذوي الأقدار ليعتقد لهم الجاهل بذلك فضلاً.

فإن كنت تنسب أمر الأطفال الذين يبغون أن يكونوا زبيباً قبل (التخصرم) إلى غرة الحداثة، فماذا أنت ناسب إلي ما أعرض عليك:

هذا أديب حباه الله كل المواهب اللازمة للأدب، وأخذ نفسه بدرسٍ طويل وصبر أطول حتى أخرج للناس أدباً نافعاً وأصبح مشاراً إليه؛ فيطمح فريق من أحداثنا، هؤلاء إلى مثل مكانته، فلا يكلف الأمر أكثر من محاولته جلب الأنظار إليه بالصراخ والغثاثة والدعوى العريضة، فإذا شكا إليك إعراض الناس، ونبهته إلى ما ينقصه من وسائل ومواهب، وأنه يحسن به أن يأخذ للأمر أهبته، رماك - في غيبتك - بالتثبيط، وحمل عنه هذه الفرية من كنت تظن بعقله البعد عن الانخداع.

وهذا يريد أن يكون كاتباً ولما يُحسنْ سبك جملة صحيحة بعد، ولما يستوعب فهم صفحة يقرؤها فيها صحيحاً، يعرض عليك مقاله فتنصحه بالتعليم، فيزورّ عنك محتجاً بتحقير شهاداته العالية ويطوف إدارات الصحف أو المجلات هو ووسطاؤه، فيروعك أن ترى سخطه منشورا، ويروعك أكثر أن تراه أحياناً قصد من لا تشك في إطلاعه وبصره، فيغشه في فترة سأم وإعياء.

وذاك لم يدّع أدباً ولا كتابة، ولكن حلاله أن ينتسب في الباحثين، فسطا على بحث نشر في بلد بعيد، وفقرات من مواضيع في كتابين قديمين، فقطّع ذلك خمسين قطعة، ثم عاد فوصل بين ما قطّع بجمل من عنده، وقدم فيها وأخر، ثم رقَّم هذه الجمل وجعل لكل رقم حاشية تدل على صفحة مصدره - تشبهاً بما فهم من الأسلوب الحديث - فاستوى له بإذن الله ما سماه بحثاً علمياً، فإذا بك تجد كلاماً لا انسجام بين أجزائه ولا تساوق بين أفكاره يلعن بعضه بعضاً، فإذا قلت له: إنه غير مفهوم، أجابك: هذا هو الأسلوب العلمي

وذلك - عافاك الله - لا أديب ولا كاتب ولا باحث، لكنه لغوي يا سيدي، يعني إنه يسود صفحات بالركاكة والابتذال والمط والتطويل والسخف، حتى إذا واتاك صبرك وانتهيت منها قراءة، وقذفت بالمجلة أرضاً، وأغمضت عينيك تستعيد ما مرّ بك. . . إذا كل ذلك: كلام في أن (وابور الزلط) من عامية مصر، أو أن (الجسر) في عامية الشام هو (الكبري) في عامية مصر

وإن كان محاضراً لبث أسبوعين (يبشر) بمحاضرته ويدعو لها ويلقاك في الطريق، أو حافلة الترام، أو عند الوراق، أو حاملاً حاجة، أو منطلقاً عجلان، أو منقلباً إلى دارك. . . فاستوقفك ساعة وحدثك بمحاضرته وما حوت من نكات، وأكثر عليك من حركاته و (تهريجه)، حتى يقتلك قتلاً، فلا يتركك إلا وقد أخذ عليك عهداً: لتحضرنها أنت واهلك وأصحابك وجميع معارفك، فإذا وفيت بعهدك، فويل لك من نفسك، وويل لأصحابك: لقد شبعتم خجلاً من أنفسكم وتهكماً، وأوسعكم المحاضر الكريم غثاثة وثقلاً

وهذا نمط آخر خير مما تقدم: لا أديب ولا كاتب ولا باحث ولا لغوي ولا محاضر ولا شيء من الأشياء مما يبرر أثره إلى الوجود، ولعله يحسن أن يسلخ أهاجي الأموات يهجو بها الأحياء، ولعله يتمدح إلى الموسيقى باطلاعه على التاريخ، والى الكيميائي بباعة في الدين، والى الرياضي بحذقه النحو، والى التاجر بأنه شاعر. . . تطمح نفسه إلى أن يسند دعاواه بالانتساب إلي أي جماعة ذات شأن - ولو رسمًّيا - في العلم أو الأدب أو الصحافة، فلا ترى الجماعات فيه شيئاً يسيغ أن يسلكه في زمرها، فيشتد على أفرادها بالشتم والهجاء حتى تتحقق رغبته، وما كانت لتتحقق لولا خراب الضمير الأدبي في بعض الأفراد

وآخرون من غير هذه الأنماط: منهم في الشام، ومنهم في العراق، ومنهم في مصر، أهمل الكتابة في شأنهم الأدباء غفلةً أو تهاوناً، على أن أمرهم سيئ العواقب على المستقبل: تراهم مبثوثين في كل طبقة كما انبثت الطفيليات في المواد الحيوية، تبقث هي الجراثيم، وعلى ضحاياها تحمل النتائج:

هنا نادٍ ذو غاية نبيلة يعمل بعيداً عن الدسائس، فيندس فيه من لا يظهرون إلا على خراب غيرهم، فلا يزالون به حتى تسودّ بين الناس صحيفته. وهناك صحيفة كانت راقية أخذت تشجع هذه الطفيليات بدل أن تنصحها أو تبعدها، حتى انحط مستواها وكسدت سوقها بين العارفين

فإن رحت تبحث عن بواعث الداء وجدته في فقدان الكرامة وضعف الضمير المسلكي عند القيمين على بعض دور الصحف والمجلات وأندية العلم، ولو أنهم أقاموا لموازين الحق بعض الاعتبار، لحفظوا أقدارهم من السقوط

أفليس من واجب الأدباء أن نرى مثل هذه الألوان في أدبهم، وأن نجد فيه صفة هذه الطبقة والتحذير منها ومن ضررها على الناشئين وعلى سمعة البلاد الأدبية. ومعالجة هذا الداء واجبة، إذ لا يخلو من مرضاه مصر من الأمصار. فهل لي أن أقرأ في هذه المجلة الكريمة لكتابنا الاجتماعيين كلمات شافيات؟

وبعد، فلست متشائماً، ولا أمنع أن يكون فيمن ينتسبون إلى العلم والأدب أناس علماء حقَّا أدباء حقَّا، لهم كرامة وبهم شجاعة؛ لكنني موقن أنهم مشتتون، جهودهم ضائعة غير متضافرة، مع إيثار منهم للراحة والسلامة، فلهؤلاء أقول:

إنكم حقاً في سبيل صون ميادين العلم والأدب عن الأدعياء الأدنياء ستلقون أذىً كثيراُ ولكن العاقبة لكم، والغثاء أبدا إلى الاضمحلال. وما بلينا به بلي به من كان قبلنا، ولم يخل عصر من مثل هذه الطبقة التي لا تحسن شيئاً وتستطيل على المحسنين، وما جمع الله لذي كرامة: الصدع بالحق، والسلامة من الناس.

(دمشق)

سعيد الأفغاني