مجلة الرسالة/العدد 459/برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء
→ قبل اليوم المشهود | مجلة الرسالة - العدد 459 برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء [[مؤلف:|]] |
وهم شائع ← |
بتاريخ: 20 - 04 - 1942 |
أحلام. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
كنت يوماً من الأيام راضي النفس، ساكن الجأش، هادئ العاطفة؛ ونظرت فإذا بارقة من أمل تبرق في جو الأزهر فينبثق منها نور وهَّاج تضوء به أرجاؤه، وتصفو له سماؤه، ويشرأب إليه الناس بأبصارهم وأعناقهم متطلعين
كتبت يومئذ في (الرسالة) مقالاً: أما موضوعه، فهو موضوع اليوم (برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء)؛ وأما عنوانه الذي أوحت به النفس يومئذ، فقد كان كلمة جميلة خفيفة على الأسماع، أعتقد أنها ترجمة واضحة لما كان يدور بالنفوس المستبشرة قبل أن تكون عنواناً لمقال يتحدث عن أعمال (جماعة كبار العلماء)، تلك الكلمة هي (آمال. . .)
ولكنني أعترف الآن أنني كنت مغالياً ومسرفاً في الخيال إلى حد بعيد حين اخترت هذه الكلمة عنواناً لمقالي، وأنه كان عليَّ يومئذ أن أذكر تاريخ الإصلاح في مصر بوجه عام، وتاريخ الإصلاح في الأزهر بوجه خاص، لأختار كلمة أخرى غير كلمة (الآمال). ولست أدري: أمن تقاليد (الرسالة) أن تسمح أحياناً لكتابها بتصحيح ما سلف من العناوين؟ ولكن أنَّى ذلك وقد سارت بذكرها الركبان، وانقضى عليها أزمان وأزمان؟
عفا الله عما سلف! وليكن حديث اليوم تصحيحاً لحديث ألامس، ولنجعل عليه عنواناً غير ذلك العنوان، هو (أحلام. . .)
كتب الأستاذ الكبير صاحب (الرسالة) مقالاً خطيراً بالعدد (456) عنوانه (لابد للإسلام من مؤتمر)؛ وقد استعرض فيه حالة الشرق والعرب، وذكر تودد الغرب إلى المسلمين في ظروفهم الحاضرة، ثم عرج بالحديث إلى (العلماء) فقال:
(ولئن سألتني بعد ذلك: هل بلَّغ العلماء رسالة الله؟ لأقولن لك (لا) مغلظة مكبرة مكررة! وأكبر الظن أنهم لا يؤمنون بأن لهم رسالة، وأن عليهم تبعة: رجال السياسة يعملون بحق أو بباطل، ورجال الحكم يتصرفون بعدل أو بظلم؛ أما رجال الدين في ممالك الوطن الإسلامي كله، فقد قنعوا باللقب والزي، واكتفوا بالشبع والري، ورضوا أن يكونوا متوناً لذوي الطمع، وحواشي لأولي النعمة، وهوامش على صفحة الحياة!) قال الأستاذ الزيات ذلك. ومضى في مقاله البليغ يؤيده بالحجج، ويضرب له الأمثال، ويهز به النفوس، ويثير به كوامن الشجون؛ ثم قال: (لقد عقدنا الآمال بالأزهر في كل ذلك، فهل عقدناها بلعاب الشمس؟ كانت جماعة كبار العلماء معقد الرجاء ومناط الثقة. . . ولكن برنامج الإصلاح الذي اقترحه شبابها المصلحون، وأقره أقطابها المخلصون، قد أدركته أزمة رجعية توشك أن تخنقه في درج المشيخة؛ فإن عضواً من الجماعة يوجس منه شراً: فهو ينسج حوله الشكوك، ويؤلب عليه القوى وقد نجح في ذلك. فهل يجوز في ظن امرئ أن يكون في كبار العلماء من يشتبه عليه الحق والباطل والخير والشر والصلاح والفساد؟ ذلك ما لا نصدقه، ولا نود أن تجري الأمور بما يحققه)
قرأت هذا المقال مثنى وثلاث ورباع، واشتد عليَّ وقعه، وساءني هذا النبأ الهائل الرهيب الذي تضمنه، وقلت لنفسي: هذا يوم له ما بعده! سوف يتكلم الأزهر، وسوف يدفع العلماء عن أنفسهم، وسوف تتحرك الجماعة الموقرة لتثبت للناس أنها سامعة لكل ما يدور حولها، واعية لكل ما يقال عنها، ولكني تلبثت لذلك أسبوعاً، واستظهرت من بعده بأسبوع آخر فلم أجد أحداً من الأزهريين، رسميين أو غير رسميين، يعرض لذلك بتصحيح أو تكذيب، ولم ألمح في جو الجماعة ما يدل على أنها موشكة أن تجتمع لترى في برنامج الإصلاح رأيها. وقد عنيت في أثناء ذلك أن أستمع إلى أحاديث الناس في الأزهر وغير الأزهر عن هذا الشأن الخطير، فسمعت أحاديث عجباً!
هذه رواية تقول: أن أشخاصاً معينين قد ألفوا التعويق عن الخير، والتخزيل عن الإصلاح، قد وقفوا من هذا البرنامج موقف المحارب في السر والعلن، وجعلوا يصرحون في مجالسهم بان هذه المقترحات لن تتم أبدا، لون تأخذ طريقها إلى التنفيذ!
وهذه رواية أخرى تنقل عن أحد أعضاء الجماعة عبارة يدأب على ترديدها ويرمي بها في وجوه الناس إذا سألوه فيقول: إن هؤلاء الشبان من أعضاء الجماعة يريدون أن يقلبوا الدنيا وأن يغيروا أوضاع العلم في الأزهر. وأن يفسدوا الدين!
وهذه رواية ثالثة تقول: إن مديراً من مديري إدارات الأزهر قد ساءه أن تفكر الجماعة في انتزاع إدارته من يده. فأقسم برأس جدوده من الشراكسة: لن يتم هذا البرنامج ولو كان بينه وبين التمام خطوة واحدة على أن أثراً آخر من آثار التفكير في هذه المقترحات قد حدت فعلاُ، وبرز بروزاً رسمياً. ذلك أن لجنة معروفة في إدارة المعاهد الدينية قد رأى بعض أعضائها في هذه المقترحات مساساً بهم، وتعريضاً بكفايتهم. فاتفقوا على أن يستقيلوا من هذه اللجنة ورفعوا استقالتهم فعلاً إلى فضيلة الأستاذ الأكبر، ولكنه لم يقبلها وأمرهم بالبقاء في أعمالهم!
وتقول جريدة (البلاغ) الغراء في عددها الصادر مساء التاسع من شهر أبريل الحاضر ما نصه:
(قد رددت إشاعات نرجو ألا تكون صحيحة، خلاصتها: أن بعض أعضاء جماعة كبار العلماء مع قبولهم هذا المبدأ وسائر المبادئ التي تحقق الإصلاح وتنظم جهود الجماعة والأزهر والتي انتهت إلى قبولها لجنة بحث المقترحات، لا يرون أن تنفذ تلك الآراء لأن في قبولها وتنفيذها اعترافاً ضمنياً بتقصير الجماعة عن التفكير في ذلك فيما سبق، وهذا موقف لا يرضاه أعضاء الجماعة لأنفسهم)
وهكذا تختلف الروايات تبعاً لتعدد مصادرها. ولكنها كلها تجمع على شيء واحد هو: أن عقبات تقف في طريق هذه المقترحات وتحول بينها وبين النور أن تراه، فهي لذلك حبيسة في (درج المشيخة) وستظل حبيسة في هذا الدرج حتى يأذن الله
يا ويلتا! أيموت هذا المشروع أيضاً كما ماتت من قبله مشروعات؟ وماذا يقول الأزهر بعد ذلك للأمة وقد نادى في أرجائها البشير: أن قد استيقظ العلماء، وهبوا للعمل، وشمروا عن ساعد الجد في خدمة الدين ونصرة الشريعة؟
أهكذا يا مصر تنفرج فيك إلى هذا الحد (مسافة الخلف بين القول والعمل؟). أحين تكون الأعمال فكَراً تجول في النفوس، أو مشروعات تكتب على الأوراق، يسمع الناس لها ضجيجاً عالياً، ودوياً صاخباً، ويرون من حولها هيئات تجمع، وجلسات تعقد، وأقلاماً تكتب، وصحفاً تنشر، وبشارات تتوالى، وبخيل بها على الناس أن الأمر جد، وأن الوعد حق، وأن ساعة التنفيذ آتية لا ريب فيها؛ ثم تمضي الأيام، وتتلاحق الشهور والأعوام وهذه المشروعات ساكنة لا حراك بها، يعلوها غبار، ويرهقها قُتار، وتوحشها ظلمات الإهمال أو النسيان
أجل! أجل! و (أيٌّ هكذا خلقت!) ارجع، أيها القارئ، إلى مجموعات الصحف والمجلات والسجلات الحكومية تر العجب العجاب: برامج للتعليم بعضها في أثر بعض، وبرنامج لإنقاذ الفلاح وتحسين حالة الفلاح، وبرامج للشئون الاجتماعية، يطنطن بها الدعاة، وتمتلئ بها المسامع والأفواه، وبرامج حتى للطرق، وتنظيم المدن، وتخطيط الشوارع تتداولها أوامر الإقرار تارة، والإلغاء تارة، والتعديل تارات؛ وهكذا تفيض مصر بالبرامج إلى البرامج حتى لو عنينا بجمعها وترتيبها والتبويب لها لأخرجنا من ذلك كتاباً ضخماً ذا مجلدات! ولكنها برامج لم توضع لتنفذ وتطبق، ولكن لتكون آية يستدل بها الناس على عبقرية واضعيها، ولتكتب عنها الصحف أياماً أو شهوراً فتفيض في تعديد مزاياها، وتطنب في بيان فوائدها وما يرجى من آثرها. وما بي من حاجة إلى دليل أؤيد به ما أقول، فهذا هو التعليم يتعثر في خطاه، وهذا هو الفلاح ما يزال كما كان يشرب الطين المذاب، ويذوق من فقره ودَيْنه ومرضه ألوان العذاب. وهذه هي برامج مصلحة التنظيم يحسب الناس لكثرة ما اعتورها، وشدة الإبطاء في تنفيذها، قد وضعت لتنفذ وينعم بمزاياها سكان البلاد في القرن الثلاثين، لا في هذا القرن العشرين!
فلماذا لا يكون الأزهر أيضاً كهذه المصالح الحكومية؟ إننا معاشر الأزهريين مصريون، ولا أحسب أن المصرية تتمثل بجميع خصائصها في بيئة من البيئات كما تتمثل في الأزهر، فإذا أراد امرؤ أن يطبق على هذا الخلق الذي سجله أمير الشعراء على مصر حين قال:
(كل شيء فيه ينسى بعد حين)
وجد الأمثال بين يديه حاضرة في الأزهر قبل سواه، فله أن يمثل (بمشروع ترجمة القرآن) لو إن شئت فسمه (مشروع ترجمة تفسير القرآن) وله أن يمثل (بلجان العيد الألفي للأزهر) التي ألفت على الورق، ورصدت في السجلات، ولم تعمل شيئاً، بل لم تجتمع فيما أظن حتى اليوم! وله أن يمثل (بمشروع تنظيم المكتبة الأزهرية العظيمة) الذي اجتلب له خبير فني من المتخصصين في برلين. وله أن يمثل (بمشروع إصلاح مجلة الأزهر) الذي ألفت له لجنة وقد كان الأستاذ الزيات أحد أعضائها، ثم اختنق تقريرها وليداً وما زالت المجلة كما كانت بل أسوأ مما كانت كما يعترف بذلك رجال الأزهر المسئولون. وله أن يمثل (بالبعوث الأزهرية) التي اهتممنا بها مرة في الدهر واحدة ثم لم تعد كأنها بيضة الديك التي يذكرها في بعض شعره بشار!
له أن يمثل بهذا كله مما ذكرنا، وله أن يمثل بغيره مما لم نذكر، فليس الأمر إذن أمر برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء وحده، وإنما هو أمر الأزهر جميعاً. هو أمر برامج كثيرة حاولها الأزهر، وعنى بها فضيلة الأستاذ الأكبر؛ بل إننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن هذه المشروعات جميعها إما بتفكير مباشر من فضيلته، وإما بتفكير يستمد من روحه وإلهامه، ويراد به تحقيق غايته في الإصلاح، وتنفيذ رغباته في النهوض بالأزهر، وإعلاء كلمة الله، وقد حظيت هذه المشروعات كلها بكفالته فاحتضنها وأيدها وأبدى رغبته في تنفيذها، فما هو السر إذن في أن هذه المشروعات النافعة تموت في طفولتها، بل تختنق في مهدها؟ ألا إن السر في ذلك لمعروف: إنه يرجع إلى الذين ألفوا أن يعوقوا الإصلاح، ويشككوا في الخير. يرجع إلى المخزلين المثبطين الذين يغشى النور أبصارهم فلا يحبون أن يروا إلا الظلام، ويدوخ الجو النقي الصافي رءوسهم فلا يحبون أن يعيشوا إلا في الفساد. إنه يرجع، يا سيدي الأستاذ الأكبر، إلى الذين مردوا على النفاق، ورضعوا أفاويقه، وتلونوا في كل عهد بلون، ولبسوا لكل حالة لبوسها؛ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم!
هنا فقط موضع العلة ومكان الداء، وهنا فقط مفصل الدواء، ومقطع العلاج، لمن أراد العلاج!
رباه! ماذا قلت؟ وأي سر كشفت؟ ولكن. . . لا! إن الأمر لم يعد سراً. وهل سرٌّ ما تفيض به المجالس والأندية، وتخوض فيه الصحف والمجلات؟
إنني أتخيل أبناءنا وأحفادنا القادمين وقد أرادوا أن يحصوا لنا أعمالنا ويدركوا مبلغ برنا بوعودنا: أتخيلهم وقد وجدوا في صحفنا، في جرائدنا ومجلاتنا، مشروعات أعمالنا، فجعلوا يتابعون البحث في هذه الصحف عدداً بعد عدد، ومجلداً بعد مجلد، لعلهم يعثرون فيها على خبر التنفيذ كما رأوا أخبار التفكير، لعلهم يرون آثار الأعمال كما رأوا آثار الأقوال، ولكنهم - وا خجلتاه - سيبحثون جاهدين، ثم يوالون البحث صابرين، فلا يجدون لهذه الأعمال أثراً، ولا يحسون منها شيئاً، ولا يسمعون لها ركزاً. فلعل أحدهم يومئذ يضطجع كما يفعل امرؤ أعياه البحث وأضناه التعب ثم يقول:
رحمة الله عليهم أيها الآباء! لقد كنتم تعرفون حقاً كيف تكون الـ (أحلام. . .!) محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة