الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 459/المصريون المحدثون

مجلة الرسالة/العدد 459/المصريون المحدثون

مجلة الرسالة - العدد 459
المصريون المحدثون
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 04 - 1942

31 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل العاشر - (الخرافات)

لا يجوز عقلاً أن تثير هذه الأوهام التي توجد في أذهان شعب جاهل دهشتنا؛ ولكن المصريين لا يظهرون احتراماً خرافياً للكائنات الوهمية فحسب، وإنما يجاوزون ذلك إلى بعض أفراد من البشر مثلهم. وكثيراً ما يكون ذلك التقديس إلى أقل الناس استحقاقاً له. فيعتبرون الأبله أو المجنون مخلوقاً عقله في السماء وجسده يختلط بالبشر. ويعدونه لذلك ولياً. ومهما ارتكب الولي المشهور من الخطايا - وكثير منهم يحالفون الدين - فهي لا تؤثر على قداسته إذا لم تعتبر نتيجة تجرد عقله من الأشياء الدنيوية، فروحه أو قواه العقلية كلها مستغرقة في التقوى؛ ولذلك تُترك شهواته بلا رقيب. ويحبس المجانين الخطرون؛ أما هؤلاء الذين لا خطر منهم فيعتبرون أولياء. وأكثر أولياء مصر المشهورين معتوهين أو بله أو خداعون. ويسير بعضهم عراة تقريباً ويتمتعون باحترام زائد بحيث أن النساء بدلاً من تجنبهم يتكبدن أحياناً الكثير من تصرفاتهم الشاذة في الطريق العام، ولا يشعر العامة بأي عار من هذه الأعمال التي يندر مع ذلك حدوثها. ويُرى آخرون لابسين مرقَّعة مختلفة الألوان تسمى (دلق) وهو مزين بالخراف، ومعممين بعمة بالية وحاملين عصا شبك في أعلاها سبائب نسج مختلفة الألوان، ويأكل بعضهم التبن أو خليطاً من التبن والزجاج المكسر ويلفتون النظر بأعمال غريبة مختلفة.

وكثيراُ ما قابلت أثناء زيارتي الأولى في شوارع القاهرة رجلاً زَري الشكل عاري الجسم تقريباً مضفر الشعر طويله، راكباً حماراً يقوده رجل آخر. فيقف دائماً حماره أمامي مباشرة بحيث يقطع عليّ الطريق ويقرأ الفاتحة، ثم يمد يده للسؤال. وقد حاولت أن أتجنبه في أ مرة؛ إلا أن أحد المارين حذرني ملاحظاً أن الرجل وليّ، وأن عليّ أن أحترمه وأن أمنحه ما يريد حتى لا تصيبني مصيبة. ويتعيش رجال هذه الطبقة على الصدقات التي كثيراً ما يتناولونها دون سؤال. ويسمى القديس المشهور (شيخ) أو (مرابط) أو (ولي)، ويسمى أيضاً على الأصح إذا كان به بله أو جنون أو خَبل (مجذوب) أو (مسلوب). وتطلق عبارة (ولي) بدقة على القديس التقي السامي فقط ومعناها المختار. إلا أنها تطلق عامة على البُله أو المتبالهين، حتى أن بعض الأذكياء جعلوا لفظ الولي معادلاً للفظ (بليد)، ملاحظين أن تينك العبارتين متساويتا المعنى والقيمة العددية للحروف المكونة لكل منها. إذ أن (ولي) مكونة من الواو واللام والياء، وقيمة كل على التوالي 6، 30، 10 أي 46 و (بليد) مكونة من الباء واللام والياء والدال وهي على التوالي 2، 30، 10، 4، وجموعها 46، وكثيراً ما يسمى الغبي ولياً للدعابة.

ويعتقد مسلمو مصر وغيرها من البلدان اعتقادات باطلة عجيبة بالأولياء. وقد حاولت أن أستفهم عن أكثر هذه الاعتقادات غموضاً فكان الرد علي: (إنك تتدخل في أمور (الطريقة)) أي منهج الدراويش الديني. إلا أنني وقفت على كثير من الآراء العامة في هذه الموضوعات. وأظن أن ذلك هو كل ما يطلب تقريره في كتاب مثل هذا. وسأسرد مع ذلك أقوال بعض المتعلمين والدراويش فيما يتعلق ببيان إيمان العامة

وكل من يرتاب في وجود الأولياء يُرمى بالمروق ويتلى للحكم عليه نص القرآن: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ويعتبر هذا النص كافياً للدلالة على أن هناك طبقة من الأفراد متميزة على البشر العاديين. وقد نتساءل من هم هؤلاء الأشخاص أو ما حالهم؟ والرد على ذلك أنهم أشخاص قصروا أنفسهم على عبادة الله واحتفظوا بإيمان صادق، ومن الله عليهم بالقدرة على فعل الكرمات تبعاً لقوة إيمانهم

يسمى أقدس الأولياء (قطباً)، ويحمل هذا اللقب - على رأى بعضهم - رجلان، ويقول البعض الآخر أربعة. وتعني عبارة (قطب) محوراً، ومن ثم أطلقت هذه الكلمة على الولي الذي يثق به الناس ويتبعونه، ويطلق هذا اللفظ للسبب نفسه على الحكام الزمنيين أو السادة الإجلاء. وقد أخبرت أن الرأي القائل بأربعة أقطاب خطأ شائع، أصله توالي ذكر عبارة (الأقطاب الأربعة) التي تشير إلى أشهر مؤسسي الطرق الصوفية الرفاعية والقادرية والأحمدية والإبراهيمية؛ ويُعتقد أن كلاًَّ من هؤلاء كان قطب زمانه؛ وقيل لي أيضاً أن الرأي القائل بقطبين خطأ عام أساسه اسمان: (قطب الحقيقة) و (قطب الغوث)، لا يختص بهما على الأصوب غير شخص واحد فقط. ويطلق الذين يعتقدون بوجود قطب واحد عليه عبارة (القطب المتولي) وهو الحاكم الآن، والذين يعتقدون بوجود قطبين على القطب العامل. ويحكم القطب الذي يراقب الأولياء جميعهم، سواء أكان هناك قطب آخر أم لم يكن لأنه إذا وجد يكون دون الأول، أولياء متفاوتي الرتب يقومون بأعمال مختلفة مثل النقباء والإنجاب والإبدال الخ؛ وهم يعرفون وظائف بعضهم بعضاً، وقد يعرف ذلك الأولياء الآخرون

ويقال أن القطب كثيراً ما يظهر ولكنه لا يعرف. وكذلك أتباعه ذوو السلطة.

ومع أن القطب يختفي دائماً فإن أماكن وجوده معروفة، ولكنه قليلاً ما يظهر فيها. والمعتقد أن القطب يكون فوق الكعبة. وهو يصيح مرتين في جوف الليل قائلا: (يا أرحم الراحمين)، فيردد المؤذنون حينئذ ذلك الدعاء من مآذن الكعبة. وقد سألت حاجاً فاضلاً في هذا الموضوع فأقر لي أنه رأى بعينيه إماماً مرتباً ليصيح هذه الصيحة. ولا يعرف ذلك غير القليل من الحجاج. ويعتقد مع ذلك أن سطح الكعبة مركز القطب الرئيسي. ويفضل هذا المجهول الموقع مركزاً آخر بباب القاهرة المسمى باب زويلة، وهو في الطرف الجنوبي من ذلك القسم الذي يكوّن المدينة القديمة وإن كان في قلب البلد الآن؛ فقد امتدت العاصمة كثيراً نحو الجنوب والغرب. ويسمي العامة باب زويلة (باب المتولي) لاعتقادهم أنه مركز هذا الكائن المجهول. ومن وراء أحد مصراعي الباب العظيم الذي لا يقفل أبدا فضاء صغير يقال إنه مكان القطب. ويقرأ الكثير من المارين الفاتحة، ويتصدق البعض على سائل يجلس هناك، ويعتبره الرعاع أحد خدام القطب. ويدق المصابون مسماراً في الباب لفك السحر، كما أن المصابين بوجع الأسنان يخلعون سناً ويولجونها في أحد شقوق الباب أو يلصقونها به بأي حال آخر حتى يضمنوا عدم إصابتهم بالمرض نفسه. وكثيراً ما يحاول بعض الفضوليين الاختباء وراء الباب آملين عبثاً اختلاس النظر إلى القطب لعله يظهر هناك. وللقطب في مصر مراكز أخرى أقل شهرة. أحدها في قبر السيد أحمد البدوي بطنطا، والآخر في مدينة المحلة وغيرها. ويعتقد أن القطب ينتقل من مكة إلى القاهرة أو من مكان إلى آخر في لحظة. ولا يقتصر القطب على سكنى أماكنه العديدة المفضلة وإنما يتنقل في أنحاء العالم بين جميع البشر من مختلفي الأديان متخذا شكلهم وملبسهم ولغتهم ويوزع عليهم بواسطة أتباعه الأولياء أحكام القدر نعما ونقما. وحينما يموت قطب يتولى غيره مكانه في الحال

ويروي الكثير من المسلمين أن إلياس، ويخلطه العامة بالخضر، كان قطب زمانه، وأنه يوليّ الأقطاب المتعاقبين إذ يقررون أنه لم يمت ويزعمون أنه شرب من عين الحياة. ويبدو أن اعتقادهم في القطب مأخوذ مما قص علينا في التوراة عن إلياس ورفعه إلى السماء، وانطلاقه من مكان إلى لآخر تحمله روح الله، ومنحه أليسع سلطته الخارقة للعادة وتقليده إياه وظائفه، وخضوع الرسل الآخرين له ولوليه المباشر. وينبذ بعض الأولياء لذات الدنيا وصحبة الإنسان ويعكفون على التأمل في السماء وينقطعون للصلاة متوكلين على العناية الإلهية لسد حاجاتهم، إلا أن خلوتهم تعرف فيحضر العرب لهم الطعام يومياً. وهذا يذكرنا مرة أخرى بقصة إلياس إذا وضعنا كما يرى بعض الناقدين، كلمة (عرب) بدلاً من لفظ (غربان) في الآيتين الرابعة والسادسة من الإصحاح السابع عشر من سفر الملوك الثاني: (وقد أمرت (العرب) أن تعولك)، (وكانت (العرب) تأتي إليه بخبز)

ويقال إن القطب يكلف بعض الأولياء القيام ببعض الأعمال الشاقة حسب قول محدثي، ويقال لهؤلاء الأولياء (أصحاب الدرك)، وقد فسرت لي هذه العبارة، ولا أعلم على أي أساس، بمعنى المراقبين. وقد حكى لي الحكاية التالية لبيان وظائف هؤلاء قال: اشتدت رغبة أحد تجار هذه المدينة الأتقياء في أن يصير ولياً، فتوجه إلى آخر ينتمي لهذه الطبقة المقدسة فتوسل إليه أن يساعده على التشرف بمقابلة القطب. وبعد أن احتمل الطالب امتحاناً صارماً لمعرفة بواعثه طلب منه أن يتوضأ مبكراً في الصباح التالي ثم يقصد مسجد المؤيد حيث يوجد بإحدى زواياه باب زويلة أو المتولي السابق ذكره، فيقبض على أول من يراه خارجاً من الباب الكبير لهذا المسجد. وفعل الرجل ما قيل له، وكان أول من خرج رجل شيخ مهيب المنظر ولكنه رث الثياب يلبس زعبوطاً من الصوف أسمر اللون، وقد دل ذلك على أنه القطب. فقبل الطالب يده وتضرع إليه أن يقبله بين أصحاب الدرك. فقبل القطب التماسه بعد تردد طويل ثم قال: (التزم القسم الذي يشمل الدرب الأحمر وما يجاوره). وفي الحال وجد الطالب نفسه ولياً، ولاحظ أنه يعرف أشياء تخفى على البشر العاديين، إذ يقال إن الله يعلم الولي جميع الأسرار اللازم معرفتها. ويقال عادة إن الولي يعلم الغيب ويبدو هذا مناقضاً لما نقرأه في عدة مواضيع من القرآن إنه لا يعلم الغيب غير الله. إلا أن المسلمين وهم قلما يرتبكون في مناقشة ما، يبينون أن عبارات القرآن يقصد بها معرفة الأسرار بمعناها المطلق وأن الله يطلع الأولياء على مثل هذه الأسرار كلما شاء ذلك

استدراك:

وردت المقالة السابقة تابعة للفصل التاسع، والصواب أنها ابتداء الفصل العاشر: (الخرافات)

(يتبع)

عدلي طاهر نور