مجلة الرسالة/العدد 458/القصص
→ البَريدُ الأدبيّ | مجلة الرسالة - العدد 458 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 13 - 04 - 1942 |
َصَصُ
النحلة وعروس النيل
قصة من القصص الشعبي لسكان جزيرة (بورنيو)
نقلها عن الإنكليزية
الأستاذ إبراهيم عبد الحميد زكي
أحست مرة نحلة صغيرة جميلة أنها قد جاوزت سن الطفولة وبلغت من القوة حدّاً يسمح لها بالطيران وحدها لتجمع رحيق الأزهار وتصنع منه الشهد. فلما حلقت بالجو حمل إليها الريح أريج زهرة حمراء من عرائس النيل كانت نامية على جوانب الغدير، فاتجهت إليها وكادت تسقط عليها لتمتص ما فيها من حلو الرحيق، ولكن (عروس النيل) أبت عليها ذلك وصاحت بها تقول: (لا! أيتها النحلة، لقد أتيت هنا تريدين أن تشقي لك طريقاً بين أوراقي في عنف وقوة كما هو شأن أبناء جلدتك، وإنك لترغبين أن تمتصي رحيقي بغير مقابل. . . ولكن، لا. . . اعلمي إن كنت لا تعلمين أن عليك قبل ذلك أن تدفعي ثمن ما تطلبين). . . فصعدت النحلة في الهواء قليلاً، وحامت حول الزهرة مرات كثيرة، وعلى أزيز جناحيها علواً كبيراً ثم قالت: وما هذا الذي تطلبين (يا عروس النيل)؟ ألا يكفيك ما أنت فيه من نعيم: فها هو الماء العذب يجري حواليك، وهاهو النسيم العاطر يهب منك واليك. . .؟)؛ فجابت الزهرة: (ما أشد غباءك، وما أضيق ذهنك، أيتها النحلة الحمقاء؟ إن هناك شيئاً ينقصني ولا جدال، فارحلي عني وابحثي عنه، فإذا اهتديت إليه وعثرت عليه، فعودي إليّ. . .)؛ فتملك النحلة الغضب، وعلا أزيز جناحيها مرة أخرى، ثم انصرفت تبحث عما تريد منها (عروس النيل)
وبينما هي تطير حائرة مشغولة الفكر لمحت حشرة واقفة إلى جذع شجرة تقرضه، فأسرعت إليها وقالت لها: (أواه أيتها الحشرة! ألا نبأتني بما تريد مني عروس النيل؟)؛ ولكن الحشرة كانت لاهية في نفسها معنية بأمرها فأجابتها: (اذهبي عني. . . ماذا يعنيني من أمرك وأمر عروس النيل؟ ليس لديَّ من الوقت متسع لكما. . . ابحثي عن غيري!)؛ فصعدت النحلة ثانية إلى الجو، وعلا أزيز جناحيها من جديد، ولكنها رأت عنكبوتاً ينسج خيوط بيته في ركن تضيئه الشمس بنورها الساطع، فوقفت النحلة إلى جانبه وألقت عليه سؤالها؛ فقال لها العنكبوت: (إنها تريد ذبابة)؛ فأدركت النحلة أنه من أولئك القوم الذين يحسبون أمنياتهم صورة من أمنيات الآخرين، فولت وجهها شطر ناحية أخرى، وراحت تبحث عما تريد منها عروس النيل. . .
ورأيت فوقها سحابة فهرعت إليها وصاحت بها: (أتوسل إليك أيتها السحابة أن تخبريني ماذا اقدم لها؟) فأجابت السحابة (قطرات المطر) فسرت النحلة سروراً عظيما وعادت إلى عروس النيل على جناح الريح وقدمت إليها قطرة من الماء تفوق في حسنها حبة اللؤلؤ، ولكن الزهرة تمايلت على غصنها وقالت: (لا، إن الماء عندي كثير وقطرات الندى تساقط عليّ كل صباح) فنشرت النحلة مرة أخرى جناحيها وعادت للبحث والتنقيب. ورأت أشعة الشمس تداعب أوراق العشب فسألتها فقالت: (إنها تريد الدفء) فالتقطت النحلة إحدى الحباحب ثم عادت إلى الزهرة وقدمتها إليها ولكنها أبت أن تأخذها وقالت: (إن لي في ضوء الشمس الدفء كله. عودي ثانية للبحث)
وشاهدت النحلة بومة فسألتها فقالت لها (إنها تريد النوم فاذهبي إليها وروحي لها بجناحيك حتى تنام). ولكن الزهرة قالت: (وماذا أفعل بالنوم. إن النوم يأتيني كل ليلة فلا حاجة لي به منك) عندئذ كاد اليأس يتملك فواد النحلة فصاحت بصوت عال: (ترى ماذا تريد مني هذه الزهرة المتقلبة الأهواء؟)
وشاء القدر أن يسمع هذه النصيحة العالية راهب عجوز يقطن كوخاً في الغاب فنادى النحلة وقال لها: (ما اشد غباءك أيتها النحلة! أتريدين أن تعلمي ماذا تريد منك عروس النيل؟ إنه هذا) ثم طبع على جناحيها قبلة من أعذب القبلات
فاغتبطت النحلة لذلك كل الاغتباط وطارت بأقصها سرعتها نحو الزهرة وقبلتها في خفة ودلال. وعندئذ أحست الزهرة بالسعادة والهناء، وتفتحت أوراقها واستسلمت للنحلة لتمتص منها ما تشاء من الرحيق
هذه هي قصة النحلة وعروس النيل. . . والقبلة
(الإسكندرية)
إبراهيم عبد الحميد زكي