مجلة الرسالة/العدد 457/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 457 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 06 - 04 - 1942 |
الحزن
قصة من القصص الشعبي لسكان جزيرة بورنيو
مترجمة عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد الحميد زكي
عندما أراد الروح الأعظم بفضله وكرمه أن يجعل الإنسان على الأرض، ويخلقه على صورته التف حوله الملائكة في غبطة وسرور، وتوسل إليه كل منهم أن يجعل له نصيباً في هذا العمل الجليل. فسر الروح الأعظم لهذا الحب والإخلاص كل السرور وحقق لهم ما يرغبون
ثم حدث ذات يوم أن عم الحبور أرجاء الكون، وتجاوبت أنحاؤه بأصوات الموسيقى؛ وغنت الملائكة أغنيات الفرح وترددت النغمات العذبة في كل مكان: في الأنهار والأشجار والأزهار، وكيف لا يحدث ذلك وقد شاءت إرادة الروح الأعظم في هذا اليوم أن ينفخ نسمة وروح الخلود في قطعة الطين التي اشتركت الملائكة في صنعها على صورته
على أن ملاكاً واحداً - وهو ملاك الحزن - لم يشترك في هذا العمل المجيد ولم يكن له في السرور نصيب. ذلك لأنه قضى أيامه كلها يبكي حسرات على مياه الأمطار التي كانت تتساقط دواماً في البحار. فلما نظر الروح الأعظم إليه وجده غارقاً في دموعه، فأراد أن يخفف عنه فقال له: لا تبك! إن غارقاً في دموعه، فأراد أن يخفف عنه فقال له: لا تبك! إن كنت تود أن يكون لك نصيب فيما خلقت فسأمنحك ذلك. لقد تأخرت قليلاً وهاهو ذا الإنسان قد تم خلقه وتكوينه، ولا يمكن أن نرجع في هذا، ولكن أنظر! إنه ما زال غطاً طرياً؛ فتقدم واجلس إليه، وكن حارساً عليه، وامنع عنه كل ما يشوهه، أو ينقص من كمال صنعه
فابتسم ملاك الحزن لهذا الفضل العظيم، إذ أي فضل أعظم من رعاية هذا الصنع الجميل ووقايته من كل شر وتشويه
وجلس الملاك إلى جانب الطين اللين وقد عرض لأشعة الماتاهارى (عين النهار أي الشمس) ليمتص منها حرارة الحياة ودفئها وأخذ يرقبه في عناية وحذر خشية أن يحدث له ما يؤذيه
ومر الزمن فأحس ملاك الحزن بالوحشة وآلمته الوحدة فراح يحدث نفسه على هذا النمط: لم يعاملني الروح الأعظم على كل حال معاملة عادلة. لماذا لم ينتظر عودتي قبل تكوين الإنسان وخلقه؟ وأي فخر وأي مجد يعود على من الجلوس هنا أرقب شيئاً قد تم صنعه وكمل تكوينه؟ وهل يوازن هذا الاشتراك الفعلي فيه كما اشترك إخواني الملائكة الآخرون؟؟
واختفت حينئذ البسمة التي علت وجهه من قبل، ووضع وجهه بين كفيه، وانهمرت دموعه على خديه، ونسى بذلك ما عهد إليه من حراسة الإنسان، فتساقطت الدموع كالمطر على الجسم الذي كان قد بدأ يجف، وعندئذ علق الغبار بمواقع الدموع، واستقرت بها الحشرات فشوهت بها الصنع الكامل الجميل
وجاء الروح الأعظم بعد ذلك بأيام قلائل تحف به الملائكة من كل جانب ليشهدوا مدى التقدم الذي أصابه الخلق الجديد؛ فلما رأوا ما فعل الحزن به لازموا الصمت، إلا ملكاً واحداً هو ملاك العطف والحنان، فإنه لم يكد يرى الفساد الذي أحدثه إهمال أخيه حتى أجهشه البكاء، وأسرع إلى الجسم يزيل ما علق به من غبار، ويرفع ما استقر به من حشرات
وقضى على ذلك أياماً طوالاً يحدوه الحب وتدفعه الرحمة حتى أتم عمله، واصلح ما أفسده أخوه. فناداه الروح الأعظم وقال: ما ارفع مكانك، وما اجل شانك في الخلق! لن يستطيع إنسان قط أن يقدرك حق قدرك. لتكن مباركاً مني. اذهب لتأدية رسالتك، فأبك مع البائسين، وافرح مع السعداء المغتبطين، ومهد الطريق للمجهدين المتعبين، وخفف العبء عن الذين أثقلت كواهلهم مشقات الحياة. أما أخوك ملاك الحزن فلا مكان له في السماء ولا نفع منه في الأرض. . . انظر! ما شوه عملي العظيم إلا هو.
(الإسكندرية)
إبراهيم عبد الحميد زكي