مجلة الرسالة/العدد 456/خواطر وصور
→ الأدب والعلم | مجلة الرسالة - العدد 456 خواطر وصور [[مؤلف:|]] |
من أدب القرن التاسع ← |
بتاريخ: 30 - 03 - 1942 |
تثيرها مرحلة من الطريق بين القاهرة وبغداد
(إلى الأستاذ المازني نسوق السؤال)
للأستاذ فخري شهاب السعيدي
كانت مفازة رهيبة!
ولم يكن فيها من آثار الإنسان غير اثنين: هذه الأسلاك النحاسيّة المعلّقة في الهواء على ركائز من الحديد الصابر المتين: تبيّن ما طُوِى من الشّقة، وما ظل ينتظر الطيّ؛ وهذا الطريق الأسود الطويل. . . الذي لا تكاد تدرك العين والسيارة آخر ما يمس الأفق من تعاريجه ومرتفعاته، حتى تتكشّف أمام العين مناظر منه أخرى، وحتى تتبدى للسيارة منه تعاريج وأطوال. . .
وكانت السيارة صابرة على هذا الأسود الممتدّ أمامها، الهازئ بها، الذي يمتحن صبرها بأعاجيب من عنده: فتارة يلتوي لها، وأُخرى ينحدر؛ وطوراً ينحني أمامها، وحيناً يستدير. . . وهي لا تعبأ بهذا الهازئ الممتحن، بل تمضي قُدُماً، وصوت شهيقها وزفيرها، وقلبها الخافق، ودمائها الغالية ملء أسماع الركب الذين أسلموها القياد في صبر واضطرار! وكانت السآمة قد تَغشّتهم جميعاً مما يتدفق أمام عيونهم من مناظر الصحراء، وما كانت هذه لتعدو الرمال والجلاميد، والهضاب العالية والوديان الخالية، وكل ما يمثل الموت والسكون والجمود من آثار الطبيعة. وما أشد صدوف الناس عما يذكرهم بمثل ذلك من آثار!
. . . كان بعضهم يزجي فراغه بالحديث يرفعه عالياً ليغالب زئير السيارة الذي ملأ الفضاء والأسماع، ثم لا يلبث - هذا البعض - أن تتعبه المغالبة فيستنجد بالسكوت. وكان بعضهم يأكل! نعم كان يقتل السآمة بالأكل. وبعضهم كان يقرأ. وكنت أنا من بينهم وحدي الذي طاب له أن يقصر عمله على اثنين: مطالعة هذه الصفحة الصحراوية، الجميل خطّها، المذهب متنها بفعل الرمال، والمفضّضةِ حواشيها بإطار الأفق الجميل؛ والتحدث إلى نفسي والأخذ منها والرد عليها فيما كان يحضرني من أفكار. . . وبين هذين العملين، أو هذين الشاغلين - بكلمة أخرى - كان الوقت يمضي مسرعاً، والسيارة تنهب من الأرض كيل متراتها نهباً؛ وكنت وجدت في ذلك لي متعة كان يحظرها عليّ المجتمع لو أنني أضعت هذا الوقت فيه!
وعندي أن الأخذ من النفس والرد عليها، ومحاورتها بألوان الأفكار، ومناقشتها في ضروب من الآراء، مما يرتاح الإنسان إليه - أو أنا على الأقل، فما أدري ما حال الناس غيري - ولقد تمّر عليّ في حال معينة وظرف بعينه لحظات أود لو أني استطعت أن أكون من هذا المجتمع في نجوة لألقي تلك الصديقة المحببة. . . التي هي نفسي، فأجلس إليها وأداعبها وأعابثها وأحاورها، وأسمعها وتسمعني في صنوف شتى من أبواب الجد الهازل أو الهزل الجاد!
أما الصحراء هذه الصحيفة التي تنبسط أمامي جديدة من سفر الوجود، فما كان أجملها، وما كان أروع الجلال الذي كان يشع منها على النفس فيصغر من شأنها، ويقلل من تيهها، ويذلل من كبريائها، ويصهر جوهرها صهراً يصفيه ويطهر الأعراق
كم من البشر - قبلنا - مروا بك أيتها الصحراء؟ وكم ركباً قبل هذا اقتحم مفاوزك هذه، ثقةً منه بنفسه، واعتماداً منه على قدرته، واتكالاً على ما أوتي من علم؟ وكم منهم نجا، وكم كان في الهالكين؟ لم أنجيت من أسرك فريقاً؟ ولِمَ اقتنصت فريقاً، فأطبقت عليهم في غير شفقة ولا رحمة، ولا ذكر لذويهم الذين استودعوك قلوبهم وائتمنوك عليها ثقة منهم بعدلك فإذا أنت تضيعين الثقة وتخلفين الرجاء؟!
كم - أيتها الصحراء - فيك من قوافل تسمع ولا تجيب، وتحتمل وطأنا إياها ولا تئن؟ لم لا تطلقين هؤلاء من أغلالهم، وترديهم إلى أهلهم فتكسبي حبهم وشكرهم وثقتهم، وتعودون - أنت وهم - بعض لبعض أحباباً؟! ألا تعجبك أيتها الصحراء صداقة الإنسان؟!
يا الله!
مالها لا تحير جواباً! لعلها كانت تنطق فلا أسمع وترفع بالإجابة صوتها فتتلقاه أذني دوياً لا تستطيع آدميتي فهمه واستجلاء معانيه!
وعدت أنظر إلى هذه التلال ثانية فإذا هي قد نّمتْ وكبرت وتضَخَّمت حجارتها واشتدتْ صلابةً وأيْداً؛ وقد علمت - حين سألتُ عن السر - أننا شارفنا أرض فلسطين!! فالقيعة إذا تلبس لباس وقارها وحشمتها لتدخل الأرض المقدسة أرض المعاد! فما بالنا نحن - البشر - لا نلبس لهذه الأرض المقدسة لباسها كما تفعل الأرض ذاتها، ولا نحييها باطراح شرورنا ونبذ ما ران على قلوبنا، كما تصنع هذه الجلاميد؟ ولقد هممت أن أقوم احتراماً، بل لقد قمت فعلاً، فما راعني إلا أن أجلستني السيارة المنطلقة في عنف، طالبة أن أكف عن الاسترسال في هذا الخيال وأنصرف معها إلى ما هي فيه من جد وكد عنيف!
ولم نلبث بين هذه الجلاميد إلا ساعة أو نحوها حتى تبدت الأرض في حلة من وشى جديد، تختلط فيه خضرة العشب الغض بسواد الصخور الصم، فكأن الطبيعة قد أرادت بهذا الجمع بين النقيضين أن تجيء بالبرهان القاطع على أنها لا تعرف هذا الذي تواضع الناس عليه من فصل بين شتى مظاهرها في هذا الكون الذي هو معرض الاتساق!
وكان جميلاً أن يُرى ما كان يحسبه الإنسان من هذه الصخور الجرد مثالاً للقسوة وتمثالاً للجمود ينشئ الحياة الغضة إنشاءً ويخرجها أعشاباً طرية من بين الفرجات الصغيرة التي فيه، ويجمع لها في هذه الشقوق الماء الذي تحتاج إليه لترتاح له وتأنس بالمقام عنده وتطمئن - في ضمان حياتها - إليه.
وكانت الجبال على أتم صلة ببعضها، فلا يفصل بينها شيء إلا صبغته بصباغها الأحْوى، وعلمته كيف ينساق لمشيئتها في غير تردد ولا بطء: فالجداول الصغيرة، والوديان الفسيحة، وهذا القليل من رحاب الأرض المنبسطة، ومخارم الجبال ذاتها أيضاً، كل أولئك كان طائعاً لتلك الجبال يصل ما بينها ليظهرها أمام العين بمظهر واحد ينم على الألفة المتينة والوداد الجميل.
وكانت هذه المشاهد التي تطغي على القلب والعقل، فتملأ ذاك غبطة وتزيد هذا إيماناً بالعجز أو سدوراً في الضلال، جديدة أمام عيني؛ وكان كل واحد منها جديراً بأن أطيل النظر فيه لنتعارف، ولكن السيارة كانت تأبى، وحسبتْ أن ذلك قد يطول منا فنعتاقها عما هي وراءه من تقريب الشقة أمام هذا الركب الضجر الملول. وجدة المشاهد أمام العين تذكّر بعهد الطفولة حين يخرج الواحد منا من ظلماته الأزلية إلى هذا النور الدنيوي - أو الذي نسميه نوراً وما ندري من أمره حقيقة ولا ندرك كنهاً - فكل ما تقع العين عليه جديد لذيذ، يبعث الفضول ويرهف الحس ويصب على الفكر وابلاً من الأسئلة الخالدة التي تطوف في فكر كل ذي فكر؛ ثم لا يلبث المرء أن تعييه الإجابة فينزل عند حكم المشيئة التي أرادت له مثل هذه الحواس المحدود إدراكها، ومثل هذه القوة العاقلة التي يسرع التعب إليها قبل بدئها في البحث عما هي وراءه من استكشاف المجاهيل!
ونبّهتني هذه الخواطر إلى ما للجهل من فائدة وفضل على الناس، واذكرني هذا بالنظرية التي تقول: إن كل شيءٍ خيّر في الطبيعة إذا وُضِع في موضعه وأُحِلّ في المكان المناسب له. فالجهل مثلاً - وهو موضوعنا - يثير فضول القوى العاقلة لدى الناس، ويعقّد أمامهم مشاكل عويصة يعالجون حلها، فكثيراً ما يضلون وقليلاً ما يهتدون. ولكنهم - وعلى أية حالة كانوا - تفيض السعادة والراحة على قلوبهم حين القصور، وحين البلوغ على حد سواء!!
وأذكر أني كنت ذات مرة في زيارة لخرائب بابل، وكنت وقتئذاك صبياً يحسب العلم وقفاً على المسّنين. فسألت أحد الأدلاء - وكان شيخاً - وكان جاهلاً أميّاً - عما صيّر هؤلاء الآدميين الذين كانوا مثلنا من لحم ودم - حجارة! فأجاب أو أجابت بديهته - فما كان عنده عقل يجيب -: غضب الله! وقد ضللت أعتقد بصحة هذه الجملة التي انطلق بها لسان دليلي العامي حتى دخلت المدرسة فعُلَمْت غير هذا، ووعيت في حافظتي كلاماً غير كلام الدليل، علمياً منطقياً، تقوم على تأييده والبرهنة على صحته حجج قواطع. فاستسخفت ذلك الساذج، واستسخفتْ نفس ذلك الطفل الذي لم يحاكم القول الذي سمع؛ ولكني أشهد الله (تعالى)، على أن نفسي اليوم لا تستطيب معنى أحلى، ولا جملة أبلغ، ولا فلسفة أعلى مما انطلقت به بديهية الرجل الجهول!! هل ترى العالم المنقّبَ الفاضل حين يدخل خرائب البابليين يَعْمُرُ صدره بالإيمان، وترتفع روحه إلى أجواء من السعادة العلوية، وتتملكه الروعة والجلال كهذا الدليل الجاهل الأمي
الجواب عندي (لا)!!
لأني من المؤمنين بأن للجهل نفعاً، وأن شأنه في هذا شأن كل ما أبدعته الكف الصَّناعُ الخالقة الجليلة في هذا الكون الجميل. . . وهنا بانت لنا عن بعد دائرة جوازات السفر على الحدود الفلسطينية فأبدلتنا بأفكارنا غيرها، وتبددت هذه الأخيلة وكان ما كان. . .
فإلى الأستاذ المازني الجليل نسوق سؤالاً عن نفع الجهل؛ فقد كان حدثنا بحديث من ذلك قبل سنين. فإن رأى - أطال الله بقاءَه، وجعلنا من كل سوءٍ فداءَه - ألاّ يبخل بهذه الآراء على قراء (الرسالة) فعل وله منا ومنهم ألف شكر!
فخري شهاب السعيدي