مجلة الرسالة/العدد 455/ين أدم وحواء
→ صلوات فكر | مجلة الرسالة - العدد 455 ين أدم وحواء [[مؤلف:|]] |
حاجتنا إلى معهد أثنولوجي ← |
بتاريخ: 23 - 03 - 1942 |
شروق العقل
للدكتور زكي مبارك
أفاق أدم من غفوته عند قدوم حواء، وكان المنتظر أن يتلقاها بالضم والتقبيل، ولكنها عاجلته بضربة قاصمة هي تذكيره بشجرة التين، فغام قلبه بعد صفاء، وعاد فانطوى على نفسه كما يصنع الأرقم في ليالي الشتاء.
- آدم، مالي أراك شارد اللب؟
- من الفرح بقدومك بعد طول الغياب!
- أنظر، أنظر، ألا ترى أني صرت أنضر من أزهار التفاح؟
- وأحلي من أثمار التفاح!
- إذا ما هذا الخمود الذي يغالب قواك؟
- ما أنا بغافل عن واجب الترحيب بهذا الجسم الفينان، الجسم البديع الذي أضلني وهداني، ولكني تذكرت (صلاة الشكر) وهي صلاة لا تتم بلا اعتكاف، فإن رأيت أن تتركيني وحدي لحظة أو لحظتين. . .
- انتهاب الجمال هو في ذاته شكران لواهب الجمال
- أبغض ما تكون المرأة حين تتفلسف، فاتركيني لصلاتي، وإلا مزجت الكوثر بدمك النجيع. انصرفي ولا ترجعي إلا إن سمعت ندائي
(وخافت حواء عواقب هذه الغضبة فولت هاربة لا تلوى على شيء وتركت آدم للصلاة، وهي ترجو أن تكون صلاته أقصر من الأمل في سيادة العدل)
فماذا وقع بعد انصراف حواء؟
هل صلى آدم؟ وكيف تصح له صلاة وقبله يفور، وعقله يثور؟
أخذ آدم يفكر فيما انتهى إليه أمره وأمر حواء، فقد كانا غايةً في الطاعة والخضوع، فما الذي جد حتى أصبحنا غايةً في التمرد والعصيان؟
أيرجع السبب إلى وسوسة إبليس؟
ولكن إبليس كان يوسوس منذ أزمان ولم يصل إلى شيء، فكيف وصل بعد اليأس؟ هنا أدرك آدم أن السر يرجع إلى النمو الملحوظ في جسده وجسد حواء، وأيقن أن اضطرام الأجسام يصنع ما تعجز عنه ألوف الأباليس. . . وهل تنجح الغزوات الخارجية إن لم تصادف قبولاً من الأهواء الداخلية؟
وزاد في اقتناع آدم بهذه النظرية ما كان يلاحظ على فصائل الطير والحيوان؛ فقد كان يشاهد أنها لينة رفيقة في أول عهدها بالوجود، ثم تغلب عليها القسوة والشراسة حين تصير إلى النضج والاستحصاد!
وإذن؟ وإذن يكون تطور الفاعلية الجسدية مصدر التطور في الفاعلية العقلية!
ثم؟
ثم يكون في كل تطور جديد إبليس جديد
وعلى هذا يكون لحواء في طغيانها عذر مقبول
وما ذنب حواء؟ ما ذنبها وقد استحالت إلى دوافع ونوازع وأهواء؟
نظرت مرة إلى نهر الكوثر في لحظة سكون فرأت خيال وجهها الجميل وقد استدار في هالة من السحر والفتون، فقدرت أن سيكون لها تاريخ، وعجبت من أن يتعامى آدم عن حسنها الفتان، كأنها تجهل أن آدم صار ألعوبة في زمامها المخبول
وخلاصة ما قرأت في كتاب شيت أن آدم لا يقيم وزناً لنزعات إبليس، وإنما يرى أن الجسد هو الأصل، وأن ألفافه مكونة من أباليس، وأن ثمر الشجرة المحرمة قد يزيده فورةً إلى فورة، وجموحاً إلى جموح
وهل غاب عن آدم أن ثمرات التين سريعة العطب والفساد؟
لقد تأملها مرة ومرتين ومرات، فعرف أنها معرضة لأخطر الجراثيم، وأدرك أن سمها قد يؤرت ما في الأجسام من السم المكنون فتستشري وتهتاج
وإذا كان آدم عجز عن رياضة حواء وهي صحيحة، فكيف يروضها وهي مريضة؟
خطرت لآدم هذه الخواطر وهو يبحث عن السر في تمرد حواء. . . لقد كانت طفلةً وديعة، فكيف صارت امرأةً خبيثة؟ تطور الجسد صنع بها ما صنع، فأمست وهي أخطر من الحية النضناض، ولن يكون إبليس بأمكر من حواء، بعد أن تبلغ مبلغ النساء
وكان آدم يعرف أنه يحمل الجانب الأخطر من المسئولية؛ فهو السبب الأصيل في تمرد حواء، وبفضل شبابه وصياله ذاقت أفاويق الضلال
والذي ينتظر أن تهدأ المرأة وأمام عينيها رجل، شبيه بالذي ينتظر أن تهدأ النار وقد ألقمت أكداس الحلفاء. . . لقد كان آدم يطرد حواء ثم تعود إليه لتأنس بضربه الوجيع، كما ترجع الفراشة إلى أقباس اللهيب
المرأة تدرك ما في الرجل من المعاني، ولو كان من الخاملين، فكيف تصد عنه وهو من الأنبياء؟
كانت حواء سمعت أن الله لم يخلق آدم إلا بعد أن دار بينه وبين الملائكة حوار طريف، فكيف يفوتها أن تنتفع بشهرته، وهي تعرف أن الهرة مغنم عظيم، وإن اعتمدت على أضاليل وأباطيل؟
وهل تقوم الشهرة بلا أصل؟
إن آدم رجل، والرجولة من أعظم الأرزاق، فما زهدها فيه وهو من أمثلة العزة والجبروت؟ وهل تنسى أنه صرعها فوق شط الكوثر ألوف المرات؟
القوة هي سحر آدم، والضعف هو سر حواء، والوجود يقوم على أسس كثيرة ولكنها ترجع إلى أساسين هما القوة والضعف؛ والعشق العارم لا يقع إلا بين عاشقين مختلفين في العرض والطول، والدمامة والجمال، والقسوة واللين
ومع هذا كان آدم هو البادئ بإعلان شوقه إلى حواء، وكانت حواء تنكر شوقها إليه. وتفسير ذلك سهل: فأسرع الناس إلى الاعتراف بالحق هم الأقوياء
ويزعم شيت بن عربانوس أن آدم قال وهو يحاور تلك اللعوب:
أما والله لو تجدين وجدي ... لطِرت إليَّ خالعة العذار
وقد فات آدم ان حواء ضعيفة، والضعف يتسلح بالرياء
والقول الفصل أن آدم قد انتهى إلى حقيقة لا تحتاج إلى برهان، وهي صدور الأهواء عن الأجساد قبل صدورها عن الأرواح، لأن الجسد أداة الروح، ولأنه يحفظ قواها كما تحفظ الكأس سر الرحيق
ثم ماذا؟ ثم التفت آدم إلى وحي النبوة فقال:
(لم أكن أدرك تكاليف النبوة حين أراد الله أن أكون من الأنبياء، فقد فهمت أول الأمر أن النبوة لا تصح إلا لمن يقف موقف الراعي من الرعية، وليس في الجنة جنود وأتباع يحتاجون إلى من ينظر في شؤونهم بعين المدبر الحصيف. . . ثم عرفت أن الله جعلني نبياً لحكمة سامية: فحواء شخص فرد، ولكنها مؤلفة من شخوص يعدون بالألوف، بفضل ما يصطرع في جسدها وروحها، وقلبها وعقلها، من أشتات النوازع والأحاسيس. . . هي شخص فرد، ولكن أوقاتي تضيق عن الطب لأهواء ذلك الشخص الفرد، فكيف أصنع لو أضيف إليها أفراد يحملون ما تحمل من أوقار النزق والطيش والجموح؟ إنها تتعبني في الحوار، وأكاد أوقن بأن كل كلمة من كلماتها ترمز إلى شيء، فهذه الكلمة عتاب، وتلك الكلمة اتهام، وهذا اللفظ وعد، وذاك اللفظ إغراء، وذلك اللفظ تجريح. . . ومن عجيب الأمر في سياسة هذه الشقية أن خطبها لا يهون إلا حين تنطق، مع أن المفهوم أن نطقها في أغلب أحواله وعيد مخيف. . . أخطر ما تكون حواء حين تصمت، فعند ذلك أدرك أنها تضمر أشياء، وأنا أخاف أشد الخوف من النذير الصموت. . . لو أن الله جعلني نبياً في أمة كثيرة العدد لخف الخطب وهان، فقد كنت أستطيع الاعتذار بالعجز عن رعاية الألوف من الرجال والنساء، ولكن الله جعلني نبياً على مخلوق تحار في رياضته العقول. . . من أي طريق أصل إلى اكتناه قلب حواء؟ وكيف أؤدي الواجب في تهذيب تلك الشقية؟ وهل نجحت في التخلق بأخلاق النبوة وأنا أروض تلك الفرس الشموس؟ الله يعلم أني لم أقصر ولم أفرط، ولكن ما هذا البلاء الذي أعانيه؟ واجب النبي أن يهدي الجميع في حدود ما يطيق؛ وقد يتلطف الله به حين يعجز عن هداية من يحب، لأنه يعلم أن الأحباب هم في الحقيقة أعداء؛ وهل يعرف مقاتل المحب غير الحبيب؟ كان يكفي أن أعجز عن هداية حواء فأسلمها إلى الشياطين، ولكن البلاء كل البلاء أن هذه المرأة لا تكتفي بنجاتها من يدي، وإنما تريد أن تضلني فآكل معها الثمر الممنوع، وبهذا يصبح الهادي وهو من الضالين! إن نجحت حواء في اختتالي واختلابي فسأكون عبرة لمن يأتي بعدي من الأنبياء. . . وهل أضمن حفظ مكانتي في التاريخ؟ إن تطاول الزمان فسيقول قوم إن آدم شخصية خرافية أريد بها تصوير انهزام الرجال أمام النساء. وهل يؤذيني أن يقال ذلك؟ أنا أول ضحية بشرية إن هزمتني حواء، ومن حق من يجيئون بعدي أن يرتابوا في حقيقتي التاريخية. فالرجل الذي يعجز عن كبح المرأة لا يستحق شرف الوجود. . . وأنا أعيذ من تصل إليهم هذه الأخبار أن يسيئوا الظن بجدهم المظلوم، فليس عندي أوامر صريحة أتولى بها زجر حواء، ولست أعرف المصير إن عاقبتها بالقتل، فما لي صديق غير هذا المخلوق، والصديق الواحد جدير بالاستبقاء وإن تردى بالعيوب. من أخصب تخير، وأنا في الصداقة مجدب لا مخصب. فهل ألام إذا استجزت المعصية طاعةً لمحبوب لا أجد غيره حين يضيع؟ سأقرب الشجرة رعاية لحواء، وليصنع الله بنا ما يشاء. . . وماذا يريد الله! أيريد أن نشاركه في السمو المطلق؟ أيريد أن نتنزه كما تنزه عن جميع الشبهات؟ أين نحن من الله وهو قوة أزلية لا يعتريها نقص ولا خمود؟ بأمر الله سأعصي الله فأقرب الشجرة مع حواء. سأعصيه بأمره وإن كان نهاني، فهو يعلم أن المخلوق المؤلف من أحلام وأهواء لا يعظم عليه العصيان)
وانخرط آدم في البكاء، فلم يوقظه غير حواء
- آدم، آدم، ماذا بك؟
- حواء؟
- نعم، حواء، هل فرغت من صلاتك؟
- أي صلاة؟
- صلاة الشكر، ألم تحدثني أنك من أجلها أردت الاعتكاف
- لقد صليت صلاة لا تخطر لك في بال
- هل صليت كما تصلي الملائكة؟
- أعظم مما يصلون
- وكيف؟
- ناقشت الله!
- من ناقش الله هلك
- قولي هذا لنفسك، يا حواء!
- أحب أن أعرف كيف تكون المجادلات من ضروب الصلوات؟
- حين تكون شاهداً على شروق العقل
- لا أفهم ما تريد أن تقول - أريد أن أقول: إن الله يكره لعباده أن يلوذوا بالصمت والجمود
- ومعنى هذا أنه يجب أن نتكلم ونتحرك في كل وقت؟
- إذا أشار العقل
- وما العقل؟
- أن تسكتي إلى الأبد الأبيد!
- أتريد أن تتمتع بنعمة الكلام وحدك؟
- لأنني أشقى بنعمة العقل وحدي، ولأن الله لن يسأل غير (آدم) عن نزق (حواء)
- وما رأيك في شجرة التين؟
- المرأة حين تولع بشيء لا تنفك تدور حوله ولو نهاها عنه الأنبياء
- وأنت نبي يا (آدم)؟ لم يبق إلا هذا الزعم الطريف!
- إن صوت الله قرع أذنيك ولم تنتهي، فهل تسمعين صوت النبي المسكين؟!
- ومتى نهاني الله عن الشجرة؟
- كيف نسيت يا حواء أننا سمعنا ألف مرة هاتفاً يصيح: (لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)
- هو نداء موجه إليك
- إلي وحدي؟ وكيف؟
- لأنك رجل!
- وإذن يكون من حقي أن أقرب الشجرة وحدي
- لن تذوق ثمرها إلا من يدي
- وهل أذوق من يديك غير العلقم والصاب؟
- اسمع يا آدم، اسمع: ينظر أنك أغلف القلب، وأنك في احتياج إلى من يزيل الغشاوة عن عينيك. ما هذا التمرد على الله؟ وما هذا العصيان؟ مزيتك أنك رجل، ورجلة آدم رهينة بشهادة حواء، ولن أعترف لك بشيء إلا إن عصيت وغويت
- ويقول الله: وعصي آدم ربه فغوى؟
- ومن أنت حتى تصل إلى أن ينالك الله بالغمز والتجريح؟ - اسكتي، يا حواء!
- لن أسكت قبل أن أزلزل قلبك جزاءً بما احتكرت من دعوى الفضيلة والشرف والنبل؛ كأن سلوكي معك رذيلةٌ وضعةٌ وإسفاف. أنت تصور نفسك دائماً بصورة المظلوم وتنسى أنك في أغلب أحوالك من الظالمين
- ومتى ظلمتك، يا حواء؟
- حين تناسيت فضلي عليك، فأنا أضرم أهواءك لتشعر بعنفوان الرجولة الحق، وستموت حسياً ومعنوياً يوم أعجز عن إغوائك. فيوم ذاك تعرف يا جاهل أن طيش حواء ليس بالمغنم القليل
- كفى. كفى!
- لا، لا، لن أتركك أو تعترف بفضلي عليك
- أمن الفضل أن تزيني المعصية؟
- ما زينت لك شيئاً غير جميل
- وشجرة التين؟
- ما تهمني شجرة التين بالذات فسأحاول هدايتك إن امتنعت عن شجرة الجميز، لأملك نقل قلبك من مكان إلى مكان، ولأطمئن إلى أنك بعافية تجعلك في طليعة الفحول، فما ينجو من كيد المرأة إلا العنين أو المجبوب
- أنت يا حواء شقية!
- وأنت يا آدم جهول!
ومرت لحظات صمت فيها آدم صمت الأموات، ثم ثاب إلى صحوه فأيقن أن نجاته من كيد حواء أمل عزيز المنال. . . ولكنه جمع قواه ليصدها عن الغواية بأسلوب لم يفكر فيه من قبل. فهل يصل إلى ما يريد؟
(للحديث شجون)
زكي مبارك