مجلة الرسالة/العدد 454/بين ناخب ونائب
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 454 بين ناخب ونائب [[مؤلف:|]] |
بين آدم وحواء: ← |
بتاريخ: 16 - 03 - 1942 |
بين غداة وعشية أمسى غنينا الطافح عضواً بالتزكية في مجلس النواب. والفوز بالتزكية هنا معناه امتناع المنافس لا انقطاع النظير، وخلو الميدان لا بطولة الفارس؛ ومع ذلك نصب البك السرادق، وقدم الحلوى، وتقبل التهنئات، وسمع بأذنيه الطويلتين القصائد العور والخطب البتر في الإشادة بالكفاية العالية فيه، والثقة الغالية به، والخير المرجو منه. وللريف شعراء وخطباء كعصافير الحصاد: تقع في الجرن ولا تقع في الروض، وتزقزق للحبة ولا تزقزق للزهرة، وتكرر أغرودتها الواحدة ولا تقصد بها معنى غير فرحها هي بسمة البيدر وضخامة العرمة!
ولكن البك وحده هو الذي صدق هذه التفاعيل العروضية فانتفش انتفاش الديك، وراح يعد ويمني، ويعدد ويمن، ويفخر ويفيش، ويزعم أنه باجتهاده وجهاده سيجعل المجلس يبسط الأرزاق، ويطيل الأعمار، ويضمن لكل ناخب في دائرته قصراً في الدنيا وقصراً في الجنة. كان الرجل يتنفخ والناس يجاملون بالاصغاء، ويتجملون بالصبر، إلا صديقنا الشيخ منصوراً فقد قال له في شيء من حدة الصراحة وشدة الحجاج:
- ذلك يا بك كلام من لغة التحيات والمجاملات تردده الألسن بحكم العادة ولا تريد به شيئاً. هو أشبه بقولي: (أهنئك بالفوز) وما كنت أريد انتخابك، أو قول اللص: (السلام عليك) وهو يريد انتهابك. ولو كانت الوعود البرلمانية في آخر الانتخاب، والبرامج الوزارية في أول الدورة، من الكلام الذي يقصد به معناه، لما بقى في صحارى مصر شبر يشكو الظمأ، ولا في مساكين مصر فرد يشكو الجوع! لقد قلتم كثيراً ولم تفعلوا، فحاولوا هذه المرة أن تفعلوا ولا تقولوا!
- أنت يا شيخ منصور كالضرس المخالف في دولاب الساقية! لا يجري كلامك مع الكلام، ولا يقف رأيك مع الآراء! ماذا تريد أن يفعل النائب أكثر من أن يمثل الأمة، ويشرع القوانين، ويبحث الميزانية، ويراقب الحكومة؟
- ذلك هو المفروض يا بك! أما الواقع فهو أن بعضكم متى دخل البرلمان لا يمثل إلا نفسه، ولا يقضي إلا حاجه، ولا يراقب إلا عدوه. ويصوت على القانون في قاعة المجلس بالإقرار، ثم يكون هو أول من يطلب خرقه في ديوان الحكومة بالوساطة!
أن ما يطلب من الحكومة والبرلمان في شؤوننا العامة، لا يزيد كثيراً على ما يطلب م صاحب العزبة في شؤونه الخاصة: استصلاح الأرض والانتفاع بكل ما فيها؛ ثم تدبير القوت والصحة والمعرفة لكل من يقوم عليها. ليس لنا مستعمرات تقتضي إدارتها النشاط والحكمة، ولا أسواق تجارية تطلب مراقبتها الذكاء والخبرة، ولا سياسة خارجية تحتاج معالجتها الدهاء والقوة. هاهي ذي عشرون سنة مرت على مصر ولها استقلال وفيها برلمان، فهل تستطيع أن تقول أن المصري الآن، اصبح خيراً مما كان؟ أن هذه العشرين سنة غيرت نظماً وخلقت أمما وقلبت الدنيا كلها رأساً على عقب؛ ولكنها مرت على النائمين في الكهف مرور الحلم المزعج، حرك الأجسام بعض الحركة، وترك المشاعر ساكنة كل السكون
- ما هذه الفلسفة يا شيخ منصور؟ هل تستطيع أن تقول لي أنت متى تركوا الحكومة تستقر، وخلوا البرلمان يعمل؟ أن الدستور في الأمة كالمصباح في الصحراء، لا ينشر ضوءه إلا إذا تركته الرياح آمناً
- لو تفلسفت يا بك كما أتفلسف لتبينت أن استقرار الحكومة واستمرار البرلمان لا يكونان مع سياسة الكلام، فإن سياسة الكلام هي سياسة الفراغ، وإذا شغلها شال فهو المراء والمكابرة والمهاترة والخصومة. وكلما علا صوت عل صوت، وظهرت دعاية على دعاية، انقلبت الأوضاع، وتغيرت المكاتب، وتبدلت المناصب، وتعطلت المواهب، وتقوض المبنى، وانتكث المفتول، وتوقف السائر. أما سياسة العمل فتهيئ لكل ذهن ما يشغله، ولك يد ما تعمله. وذا اشتغلت الأذهان وعملت الأيدي، عيت الألسنة فلا تجادل، وائتلفت القلوب فلا تختلف، وانقطع دابر القوالين فلا تعود الحزبية تجارة ولا السياسة حرفة
- أن الدلائل يا شيخ منصور تبشر بصلاح الحال. وما دام الأمر في يد أهله فانظر إلى المستقبل نظر المتفائل الآمل
- لا تكلني إلى المستقبل يا بك. أن من يضيع يومه لا يجد غده. ومن يفرط في عاجل الشهادة طمعاً في آجل الغيب كان حقيقاً إلا يدرك شيئاً
- وماذا تريد أن اصنع لك الآن؟
- أريد أن تنزل عن مكافأتك النيابية لدائرتك الانتخابية. أنك والحمد لله ضخم الثراء رفيع العيش، فلا أقول أنك طلبت النيابة كما يطلب الناس الوظيفة. وإن أربعين جنيهاً في كل شهر تقسم على ثماني قرى لا تدع فيها أمياً واحداً قبل انقضاء الدورة. ولا اعتقد أنك تؤدي إلى أمتك في طول نيابتك عملاً ارفع ولا انفع من هذا العمل. أنك تعلم أن في مركزين من مراكز الغربية ثلاث عيلات تملك سبعة وعشرين ألف فدان، وتشغل سبعة كراسي في البرلمان، تكافأ على شغلها بأربعين ألف جنيه في العام؛ فقدر في نفسك يا بك ماذا يجدي على دوائرهم الفقيرة هذا المبلغ وهو لا يقدم في ثرواتهم العريضة ولا يؤخر
- ولكنك تطلب ما لا يطلبه أحد في أمة من الأمم
- وهل تجد في أمة من الأمم فقراء في مثل فقرنا يعطون، وأغنياء في مثل غناكم يأخذون؟ أن النيابة عندهم بذل وتكليف، ولكنها عندنا ربح وتشريف. وإن أكثركم ليسخو بالآلاف في سبيل الدعاية لها والظفر بها؛ فهل يضيركم أن تنزلوا لنا عن هذه العشرات فتحفظوا مهجا من التلف وعقولاً من الجهالة؟
- كلامك يا شيخ منصور سديد ورأيك أسد. وإني أعدك إلا أعارض إذا قبل الآخرون
- أي آخرين تريد يا بك؟ ولم لا تسن أنت هذه السنة الحسنة فيكون لك اجرها واجر من عمل بها إلى يوم يحل المجلس؟
- يحل المجلس؟ قل إلى يوم تنتهي الدورة يا شيخ؟ فأل الله ولا فألك! لقد شغلتنا بثرثرتك عن تحية الناس. ثم أشاح البك عن الشيخ وأقبل على المهنئين يوزع عليهم تحياته الشريفة! فلما أعدناها على ترتيبه خرجت لحسن حظ الأدب منظومة في هذا البيت:
أهلاً وسهلاً، طيبونَ، وحشِتنا ... سَلماتِ، إزَّيّك، وكيف الحال؟
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات