الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 454/النبي المقنع

مجلة الرسالة/العدد 454/النبي المقنع

بتاريخ: 16 - 03 - 1942


بقلم الإمبراطور نابليون بونابرت

نقلها إلى العربية عن الترجمة الإنكليزية

الأستاذ إبراهيم عبد الحميد زكي

مقدمة

لا تنحصر أهمية هذه القصة في كونها أثراً من آثار رجل عظيم فحسب، بل تتعدى ذلك إلى ما تكشف للناس عنه من اتجاه نابليون وطموحه قبل أن تتيح له الثورة الفرنسية فرصة إظهار عبقريته ونبوغه في الحرب والقيادة. فقد كان نابليون حتى عام 1789 ضابطاً صغيراً في الجيش الفرنسي، ولم يكن قد ظهر له من المواهب شئ يسترعي الأنظار، وكانت أسرته الكورسيكية قد أخنى عليها الدهر وقضت الأيام بأن تعاني شدائد العسر والضيق المالي، فرأى الشاب أن يحزم أمره ويعقد عزمه على إصلاح شؤونها وتفريج كربتها بالالتجاء إلى الأدب عسى أن يظهر فيه ويذيع اسمه فينال من الشهرة ما يكفل له رواج كتبه وسعة رزقه، فاتجه بجميع قواه نحو تحقيق هذه الغاية، وبذل من الجهد في هذا الميدان مثلما قدر له أن يبذل في ميدان الحرب والقتال، فوضع كتابا في تاريخ جزيرة كورسيكا وهذبه على الأقل ثلاث مرات؛ وألف رواية كورسيكية أيضاً وعدة قصص صغيرة وبضع قصائد شعرية ومقالات كثيرة. فعل هذا كله ولم يبلغ سن العشرين، ولكن ذلك لم يجد عليه نفعا ولم يحقق ما كان يطمح إليه، فلم ينشر كتاب التاريخ، وظلت روايته مخطوطة، ولم تر مقالاته ولا قصصه الضوء إلا بعد سنوات كثيرة من تأليفها

ولقد قيل عن قصة (النبي المقنع) أنها محض خيال، وإنها لا تستند إلى شئ من الواقع، ولكن هذا غير صحيح. حقاً أن نابليون لم يتبع الدقة التامة في ذكر التفاصيل، ولكن هذا لا يعني أن القصة لا تقوم على أساس تاريخي صحيح، بل أن المرء يلاحظ أنه عرض حوادثها عرضاً تمثيلياً (دراماتيكياً) قوياً. وقد كتبها نابليون عام 1787، وجرى في تأليفها على أسلوب فولتير ونشرت عام 1821 - أي عام وفاته

القصة في سنة 776 ميلادية، أي بعد مائة وستين عاماً من هجرة النبي محمد، كان ميكادي خليفة في بغداد؛ وكان أميراً نبيلاً ذا بأس وقوة، فخشيه جيرانه وقدروه وبجلوه. وفي ظل حكمه العادل تمتعت بلاد العرب بالسلم والرخاء. وكان الخليفة راعياً للعلوم والفنون فتقدمت الحضارة في عهده تقدماً سريعاً، إلى أن كدر صفو هذا الهدوء، والتقدم قيام متنبئ جديد. ظهر هذا الرجل واسمه حكيم في مدينة خراسان فتبعه خلق كثير في وقت قصير. وكان طويل القامة فصيح اللسان فادعى أنه صوت الله على الأرض وقال: أن الواجب أن يكون الناس جميعاً من حيث المراتب والثروة سواء. واستهوى هذا القانون أفئدة الدهماء فهرع إليه ألوف من الناس وكان له بذلك جيش عظيم

ولما رأى الخليفة والنبلاء خطر هذه الثورة عقدوا العزم على خنقها في المهد؛ ولكن جيوشهم كانت تلاقي الهزيمة تلو الهزيمة فازداد بذلك أنصار حكيم يوماً بعد يوم

وبينما كان هذا النبي في أوج مجده إذا به يصاب بمرض شديد، وكان هذا المرض نتيجة الجهد المضني الذي بذله في المعارك التي خاض غمارها. فلما خفت وطأة المرض ونال الشفاء أيقن أن حسنه قد ذهب، وأنه لم يعد بعد خير رجال العرب وأوسمهم إذ كان قد عمى وخبا إلى الأبد ضوء عينيه الرائع

ولما أحس بأن هذا التشويه الطارئ قد يفقده السيطرة على اتباعه والتأثير فيهم، رأى أن يحجبه عن أعينهم بقناع من فضة وضعه على وجهه. فلما فعل ذلك عاد إلى الاتصال بهم والتجول بينهم يخطبهم ويؤثر فيهم بفصاحته المعهودة، فظل الناس مأخوذين بعذوبة لسانه وسحر بيانه كما كانوا من قبل؛ وكان يعلل لهم إخفاء وجهه عنهم بأنه يخشى عليهم أن يبهر أعينهم ذلك الضوء الفياض الخارق للطبيعة الذي ينبعث منه. إذ تبين له أن الظرف الحالي يقضي عليه بأن يعتمد أكثر من ذي قبل على الحماس الديني الذي أوقد شعلته وأثار كوامنه في نفوسهم

ولكن هذه الحال لم تدم كثيراً إذ أصيب اتباعه فجأة بهزيمة منكرة على أيدي جيوش الخليفة؛ فكانت هذه الهزيمة صدمة عنيفة وجهت إلى صميم هذا الدين الجديد؛ فهجر حكيما كثير من أنصاره، وتراجع هو ومن بقي معه من اتباع قلائل إلى مدينة محصنة محوطة بأسوار عالية؛ ولكنه لم يلبث قليلاً حتى أحدق به جند الخليفة وحاصروه وتبين الآن أن أمام حكيم أحد طريقين: فإما أن يموت، وأما أن يحدث له ما هو أسوأ من الموت وهو الوقوع أسيراً في أيدي اعداه، فجمع أتباعه وخطب فيهم قال:

أيها المؤمنون! لقد اختارنا الله ورسوله لإعادة بناء هذه الأمة واسترجاع مجد الإنسان؟ فلماذا إذن يثبط من عزمنا ويلقى اليأس في قلوبنا كثرة أعدائنا؟ أصغوا إلي! في الليلة البارحة والناس نيام سجدت لله طويلاً ودعوته في حرارة قلت: أبتاه! لقد رعيتني وحميتني هذه السنين الطوال فهل أثمت أو أثم أحد من اتباعي حتى تخليت عنا؟ فسمعت صوتاً يجيب: يا حكيم أن اتباعك الذين حافظوا على عهودهم وظلوا معك يناصرونك ولم يتخلوا عنك في ساعة الحرج، أولئك هم الذين سأنجيهم وأنصرهم، وأولئك هم الذين سيقاسمونك غنائم أعدائهم الطغاة وأموالهم. انتظر حتى يبزغ القمر الجدي، فإذا بزغ فأمرهم أن يحفروا خنادق في الأرض كثيرة فيسقط أعداؤهم فيها ويهلكون

ففعلوا ما أمروا به، وحفرت الخنادق وألقى فيها مقادير هائلة من الجير، ووضع على حافاتها أوان من النحاس كبيرة ملئت زيوتاً قابلة للاشتعال

وعندئذ أقام حكيم حفلاً كبيراً دعا إليه أنصاره فأكلوا وشربوا من الخمر الذي قدم إليهم

ولكنهم لم يلبثوا أن وقعوا على الأرض صرعى يألمون اشد الألم من السم الزعاف الذي مزجت به الخمر، ثم فارقوا الحياة. وكان حكيم وحده لم يذق هذه الخمر فاخذ جثثهم وألقاها في الخنادق ليتلفها الجير ثم سكب عليها الزيوت وأشعل فيها النيران؛ فلما تصاعدت أعمدة اللهب والدخان قفز فوق اتباعه فاحترق وكان من الهالكين

وفي اليوم التالي تقدم الخليفة وجيوشه صوب المدينة وأرادوا اقتحامها ولكنهم عندما اقتربوا من أبوابها وجدوها مفتوحة على مصراعيها بغير حراسة، فوقفوا قليلاً وترددوا خشية أن يقعوا في كمين أعد لهم؛ ثم دخلوها بعد قليل فإذ بها خالية من الناس، وإذا بالنبي وأتباعه جميعاً قد هلكوا إلا امرأة واحدة ن حظايا حكيم

قصة يكاد العقل يأبى تصديقها لغرابتها، وهي تبين المدى البعيد الذي يذهب إليه الناس أحيانا طمعا في الشهرة وبعد الصيت

تعليق

هذه هي القصة كما كتبها نابليون وهي تتفق في جملتها مع الرواية العربية التي سنأتي بخلاصتها في الأسطر التالية:

ظهر المقنع كما يقول ابن الأثير في حوادث سنة تسع وخمسين ومائة بمدينة خراسان، وكان رجلاً اعور قصيراً من أهل مرو يسمى حكيما. وكان قد اتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه لئلا يرى، فسمي المقنع وادعى الألوهية، ولم يظهر ذلك إلى جميع أصحابه. وكان يقول بالتناسخ فيزعم أن الله خلق آدم فتحول في صورته ثم في صورة نوح وهلم جرا إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إلى هاشم؛ وهاشم في دعواه هو المقنع. وتبعه خلق كثير من ضلال الناس؛ وكانوا يسجدون له من أي النواحي كانوا؛ واجتمع إليه خلق كثير وظهرت المبيضه ببخاري والصفد معاونين له

وكان يعتقد أن أبا مسلم أفضل من النبي ﷺ فأرسل المهدي إليه أبا النعمان والجنيد وليث بن نصر فحاربوه مرة بعد مرة، ثم انفذ إليه جبرائيل بن يحيى وأخاه يزيد فاشتغلوا بالمبيضة الذين كانوا بنحارى فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكت فقتل منهم سبعمائة منهزموهم بالمقنع؛ ثم سير المهدي أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ في قتاله واستعمل معاذ بن مسلم

وفي سنة إحدى وستين ومائة سار معاذ بن مسلم وجماعة من القواد والعساكر إلى المقنع وأوقعوا بأصحابه وهزموهم، وقصد المنهزمون إلى المقنع بسبام فعمل خندقها وحصنها. ووقع بعد ذلك نفرة بين معاذ واحد القواد وهو سعيد الحرشي فكتب الحرشي إلى المهدي يقع في معاذ ويضمن له الكفاية أن أفراده بحرب المقنع؛ فأجابه المهدي إلى ذلك، فحاصر المقنع وأطال الحصار، فطلب أصحاب حكيم الأمان سراً فأجابهم الحرشي إلى ذلك فخرج نحو ثلاثين ألفاً، وبقي مع المقنع زهاء ألفين من أرباب البصائر. وتحول رجاء بن معاذ وغيره فنزلوا خندق المقنع في أصل القلعة وضايقوه. فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وأهله وسقاهم السم فأتى عليهم، وأمر أن يحرق هو بالنار لئلا يقدر على جثته. وقيل بل احرق كل ما في قلعته من دابة وثوب وغير ذلك؛ ثم قال من احب أن يرتفع معي إلى السماء فليلق نفسه في هذه النار. وألقى بنفسه مع أهله ونسائه وخواصه فاحترقوا. ودخل العسكر القلعة فوجدها خاوية، وكان ذلك مما زاد في افتتان من بقي من أصحابه والذين يسمون المبيضة فيما وراء النهر، إلا انهم يسرون اعتقادهم. وقيل بل شرب هو أيضاً من السم فمات. فأنفذ الحرشي رأسه إلى المهدي فوصل إليه وهو بحلب سنة ثلاث وستين ومائة في غزواته

وقد كانت هذه الرواية وغيرها معروفة على الأرجح في القرن الثامن عشر عند أكثر الأدباء الغربيين فاستهوت أفئدتهم وأثارت أخيلتهم لغرابتها وطرافتها، ولانتحار المقنع هذا الانتحار المروع، فاتخذها بعض الأدباء والشعراء موضوعا لقصصهم وأشعارهم. ولعل أشهر من تناولها بشيء من الاحتفال والعناية في القرن التاسع عشر هو الشاعر الإنكليزي المشهور توماس مور (1779 - 1852) وهو صديق الشاعر الكبير لورد بيرون وكاتب ترجمة حياته ورسائله. وقد افرد لقصة المقنع الجزء الأول من قصيدته الكبرى فأثنى النقاد على هذه القصيدة ثناء عظيما لدقة وصف الشاعر للبلاد الشرقية وروحها؛ ولكن هازلت الناقد المعروف أنكر شاعريتها ورأى فيها من آثار الصنعة أشياء كثيرة تفوق ما انطوت عليه القصيدة من روح شعرية صافية

إبراهيم عبد الحميد زكي