مجلة الرسالة/العدد 452/يوم الزهاوي
→ صفحة من كتاب | مجلة الرسالة - العدد 452 يوم الزهاوي [[مؤلف:|]] |
لكي تعيش. . .!! ← |
بتاريخ: 02 - 03 - 1942 |
للأستاذ يحيى محمد علي
إنه ليوم وإن احتوته لجج الزمن العاتية واستقرت به في أغوار الماضي، فإن له بين شفاف القلوب الذاكرة للجميل، وفي أعماق النفوس المطوية على الوفاء، أثراً لا أحسب النسيان يقوى على طمس معالمه. إذ امتدت فيه يد القدر من بطون الغيب إلى قلب (الزهاوي) فأسكنته، وإلى لسانه فأسكتته، وبذلك غيضت من مناهل الحكمة منهلاً دفاق الفيض، وأطفأت من مشاعل العرفان مشعلاً وضاء السنا، وقطعت من قيثارة الشعر وتراً رنان الصوت، وتركت في كل فؤاد حسرات تضطرم، وفي كل عين عبرات تختنق!
فكان يوماً لا نملك حين ينساب إلينا من مطاوي كل عام إلا أن نقف فيه وقفة الذاكر المحزون لنحلق بأجنحة الذكرى إلى أجواء رفيعة من النبوغ والعبقرية، وآفاق مترامية من الإبداع والعظمة، تزيدنا إعجاباً بالزهاوي، وإجلالاً لقدره، ويقيناً بأن خسارتنا فيه كانت أعظم مما قدرناه بكثير
ثم لا تلبث الذكرى أن تفتح لنا من أسفار المجد سفراً أفعم (الزهاوي) صفحاته بمآثره ومفاخره لنستمد منه لضلالنا هدى ولمحنتنا تجربة، ولنستوحي كلمة حتى نفرغها في مسامع أولئك الذين بخسوا (الزهاوي) حقه، وأنكروا عليه نضاله المجيد وكفاحه الخالد وما كانوا إلا أنفسهم يظلمون، وستبقى آثار (الزهاوي) لنهضتنا معيناً ثراً لا ينضب سيله الطامي ولا يغور. . .
وحسبنا - ومجال البحث لا يتسع للإطالة والإسهاب - صفحات من هذا السفر نقلبها بين أيديهم، لينعموا النظر فيها، وليحكموا بعقول سالمة من الأهواء، وضمائر خالصة من الأحقاد، على أدب (الزهاوي) وجهاده.
يقول الزهاوي: (. . . غنيت لأبناء وطني أريد إيقاظهم، فلما فتحوا عيونهم شتموني، ثم غنيت، فأخذوا ينظرون إلي شزراً، ثم غنيت فابتسموا لي، ثم هتفوا لي وبقى فيهم من يشتم، وغنيت وسأغني إلى أن يسكتني الموت، وسوف تبقى بعدي كلماتي معربة عن شعوري وما كابدته في حياتي من شقاء واضطهاد، فهي دموع ذرفتها براعتي على الطرس ناطقة بآلامي وهي خليقة بأن تذرف من عيون قارئها دمعة هي كل جزائي من نظمها. .
)!
فهو الشاعر الذي عاش لأمته فاستوحاها وأوحى إليها، والذي ما خفق قلبه إلا بحبها، وما توجع واضطرب إلا لمصائبها وهوانها، والذي ما جرى لسانه إلا بذكرها، وما شدا إلا بآمالها وأمانيها
غنى لها، وغنى، ولكنها تجاهلته حينا واضطهدته أحياناً أخرى واهتزت جزعاً وحزناً حين فقدته
غنى لها حين ألفاها سادرة في الضلال تتثبط في رهج الوني والعجز، وتتعثر في دياجير الخمول والفتور، ليوقظها من سباتها العميق ويمهد لها سبل الإفلات من ربقة هذه الغفلة، فهو القائل:
تيَّقظت الأقوام من غفلة لها ... ونحن بحال لم نزل فيه نهجع
والقائل:
أيها الشعب طال نومك فأيقظ ... للمساعي فالليل صار نهارا
وليبعث فيها من الثقة والعزم ما ييسر لها تحطيم أصفاد اليأس ونضو ثياب الذل ومجاراة الأمم التي سبقتها في مضمار التقدم والرقي فقال:
يا قوم قد وعر الطريق أمامكم ... فإذا عزمتم تسهل الأوعار
إن التوقف في زمان حازم ... فيه تقدمت الشعوب، لعار
والقائل:
أمة تكسر الرتاج إذا ما ... وجدت دون ما تريد رتاجا
وغنى حين رأى الجهل يرين على العقول فيكبحها عن الرشاد والسداد ويهوي بها إلى وهدة الزيغ، ليرفع عن مداركها آصار الأفن ويدر أعوادي الطيش ويخفف عرام الأمية فقال:
العلم ثروة أمة ويسار ... والجهل حرمان لها وبوار
وقال:
لا يأمن المدلج الساري تورطه ... ما لم يوطد له من عقله سندا
وقال:
استنيروا بالعلم فالعلم نور ... إنما بالعلوم تنفي الشرور وليهيب بها للتهافت على ينابيع العلم ونشر التعليم فقال:
أليس الرضى بالعلم أكبر حطة ... أليس ذراع العلم أقدر دافع
خذ العلم إن العلم مال لمعدم ... ورِيٌّ لعطشان وقوت لجائع
وقال:
تشق حياة ما لها من مدرب ... وتشفى بلاد ليس فيها مدارس
ثم غنى لما وجد الرجعية تحدق بالحقائق فتشوهها وتمسخها، وتنأى بالعقائد عن هدفها السامي وغايتها المثلى، فقال حاثاً على التمسك بالحقائق دون الأوهام والتحرر من نير الخرافات والنزوع إلى التجدد ومماشاة روح العصر الذي لم يعد يأتلف وهذه الأوهام
يا قومنا لا نفع في أحلامكم ... فخذوا الحقائق وانبذوا الأحلاما
جهل الذين على قديم عولوا ... إن الزمان يغير الأحكاما
وقال:
أنضو القديم وبالجديد توشحوا ... حتام تختالون في الاطمار
وتملصوا من نير كل خرافة ... خرقاء تلقى الربن في الأفكار
وغنى حينما تبين المرأة ترزح تحت أعباء التقاليد البالية وينوء بها الحجاب، مدافعا عنها، زائدا عن حقوقها السلبية طالباً إنصافها فقال:
غصبوا النساء حقوقهن ... فلا تصان ولا تؤدي
وإذا النساء ردين في ... شعب فإن الشعب يردى
وقال:
طالما قد وقفت أدرأ عنهن الرزايا فيالها وقفلت ثم غنى. . . وغنى. . .
وما كان ليفت في عضد الزهاوي أو يثنيه عن عزمه طعن أو ثلب وإعانات أو إرهاق ورائدة نصرة الحق؛ وحسبه ذلك مسيغاً لغصة الجحود، ومخففا لوطأة النكران، وإن قوله:
هي الحقيقة أرضاها وإن غضبوا ... وأدعيها وإن صاحوا وإن جلبوا
أقولها غير هياب وإن حنقوا ... وإن أهانوا وإن سبوا وإن ثلبوا
لأقوى دليل وأنصع برهان على تفانيه في سبيل الحقيقة!
هذا هو الزهاوي وهذه بعض مآثره وألحانه. .
أفليس من حقه على أمته التي حمل نفسه من أجلها علي المعاطب وجوزي منها بالصدود والإغفال أن تعني بأحياء ذكراه براً منها بالأدب واعترافاً بالفضل ووفاء بالعهد؟!
أمثل الزهاوي من يمر يوم ذكراه كسائر الأيام؟!
لطفك اللهم بالأدب. . . فإن ما يلقه من عقوق الناس لعظيم
وأنتم أيها الجاحدون لفضله. . . أليس في كل ما أداه الزهاوي لأمته ما يستدر من مآقيكم دمعة حبسها الغرور ومنعها الحقد؟
حسبك يا جميل أنك القائل:
كنت للحق كل عمري وفيّاً ... وسأبقى حتى أموت وفيّا
وقد أديت رسالتك على الوجه الأكمل ففي ذمة الخلود.
(بغداد - مصرف الرافدين)
يحيى محمد علي