الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 451/من دقائق إعجاز القرآن

مجلة الرسالة/العدد 451/من دقائق إعجاز القرآن

بتاريخ: 23 - 02 - 1942


للأستاذ محمد احمد الغمراوي

قمت أجمع ما تفرق في مكتبتي من أعداد (الرسالة)، فإذا بعدد منها غلافه لم يفض هو العدد (441). فضضته وجعلت أقرأ ما استرعاني من فهرسه، فبدأت بما كتبه الأستاذ احمد صفوان بعنوان (غلطة مفسر كبير)، وإذا المفسر الكبير هو الإمام أبو بكر بن العربي، وإذا به يورد من سورة التوبة آية على غير نصها، فأبدل كلمة مكان كلمة - غير عامد طبعاً - وجعل يفسر الكلمة التي أبدل كأنما هي الكلمة التي أنزل الله. والآية القرآنية هي: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمع كلام الله ثم أبلغْه مأمَنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون). فجعل الإمام أبو بكر كلمة (لا يعقلون) مكان (لا يعلمون) وطفق يفسر وعلل لماذا نفى الله عنهم العقل. . . إلى آخر ما روى له الكاتب الفاضل الذي نبه إلى هذه الغلطة الفذة

والغلطة في ذاتها مألوف مثلها في التلاوة حين يتلوا الحافظ غير المتمكن عن ظهر غيب تلاوة من لا يتتبع المعنى ولا يتفقه وهو يقرأ. لكنها غلطة نادرة من مفسر إمام مفروض أنه يستوثق من النص قبل أن يبدأ التفسير. لكن الإمام أبا بكر ابن العربي غفر الله له اعتمد على ذاكرته فيما يظهر فخانته هذه اللفظة، وكان حسن الظن بحفظه فيما يبدو فلم يسترعه أي تفاوت في المعنى يحمله على الرجوع إلى المصحف للتأكد من النص

والواقع أن أمثال هذه الغلطة من إمام مفسر، وبعد ما بين المعنى على أصله والمعنى بعد تحريفه، من أقوى الدلائل عندي على أن القرآن ليس من عند بشر وأنه من عند خالق البشر، فشتان بين المعنى لو كان النص كما أورده ابن العربي وبينه كما ورد في القرآن الكريم. شتان بين تعليل أمر الله نبيه أن يجير المشرك حتى يسمع كلام الله ثم يبلغه مأمنه بأن المشرك لا يعقل، وبين تعليل ذلك بأن المشرك لا يعلم. فمن المعقول من الحكمة أن يجار المشرك الذي لم تبلغه الرسالة حتى تبلغه على وجهها بسماع كلام الله، ثم من المعقول ومن الحكمة بعد إذ سمع كلام الله أن يبلغ مأمنه ويترك لنفسه ليتدبر ما سمع بعقله غير مروع ولا خائف، ثم هو بعد ذلك وما يختار لنفسه، فإذا دخل في الدين دخل غير مكره، وإذا لم يدخل عن اختيار، ولكل جزاؤه، إن دخل كان أخاً لجميع المسلمين، وإن لم يدخل كان عدواً ينفذ فيه ما أنزلت سورة براءة من أجله. ولكن المهم أن مدار ذلك جعله الله سبحانه على علم المشرك الدعوة أولاً، ثم على إعطائه فرصة لتدبرها في أمن وحرية ثانياً، فالعلم بالدعوة على وجهها كما يدل عليه قوله تعالى (حتى يسمع كلام الله)، وتدبر الدعوة في حرية وأمن كما يدل عليه قوله تعالى (ثم أبلغه مأمنه)، هما ركنان للدعوة الإسلامية يدل عليهما دلالة واضحة العلة التي بنى الله سبحانه عليها أمره في قوله (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)

وإذا عرفت الآيات قبل هذه الآية وما تأمر به من تأجيل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، حتى إذا انسلخت الأشهر الحرم - والسورة العزيزة نزلت وتليت على الناس في الحج وفيه المشرك والمسلم - قتل المشركون بكل وجه وقعد لهم كل مرصد، إلا أولي العهد فيوفى للموفين منهم عهدهم إلى مدتهم: إذا عرفت هذا عرفت الحكمة البالغة الكامنة في ذلك التعليل الإلهي لذلك الأمر الإلهي

إن ذلك التعليل مظهر من مظاهر العدل الإلهي في الدين والرحمة في الدعوة، إذ ما كان الله ليأمر بقتل حتى المشرك قبل أن يدعى إلى الله دعوة مؤثرة. واشد الكلام تأثيراً في نفس العربي هو كلام الله العربي المنزل، لذلك أمر الله نبيه حين أراد تطهير الأرض من الشرك أن يجير المشرك حتى يسمع كلام الله. ثم ما كان المشرك ليقتل حتى يأنس إلى كلام الله، بعد سماعه، مدة قد يجد فيها كلام الله إلى نفسه سبيلاً. وهذا ليس من العدل فقط. بل ومن الرحمة والحكمة؛ وهو في ذاته دليل على أن هذا الأمر للنبي هو من عند خالق النفس وعالم ما هي وما فطرت عليه. فقد علم الله سبحانه بعد ما بين الدعوة إلى الإسلام وبين ما نشأ المشرك عليه، وعلم أنه إن كان في المشركين من أوتي من صفاء العقل ما يدرك به عند سماع الدعوة فضل ما بينها وبين ما هو عليه، فيستجيب لها غير متردد، ويدخل في الإسلام غير مسوف، فإن في المشركين أيضاً الرجل العادي وهو سوادهم: ينفر نفسه مما لم نألف، ونكون له كبوة عند الدعوة مهما بلغ فضلها من الوضوح وبلغت هي من الإشراق. فلو أخذ المشرك بأول رأيه أو شعوره عند سماع كلام الله لكان نصيب أكثر المشركين القتل. لكن الله سبحانه وتعالى أجلهم حتى يأنسوا بكلامه ويتدبروه ويتذاكروه بينهم فعندئذ تكبر فرصة استجاباتهم له بعد أن يزداد فهمهم إياه، ويزول النفور الأول الناشئ عن مخالفة الدعوة لمألوفهم على وضوح خطئه وصوابها، وضعته وشرفها. وفعلاً تحققت حكمة الله ودخل المشركون في دين الله أفواجاً.

والمهم ملاحظة أن المشركين ما كانوا ليدخلوا كما دخلوا في دين الله أفواجاً لو كان المانع لهم من قبول الدعوة أو الأمر قلة العقل بدلاً من قلة العلم، فالعاقل الذي لا يعلم مرجو أن يستجيب للحق إذا زال جهله به، وأعطى فرصة لتدبر ما دعي إليه. لكن لا رجاء في استجابة من لا يعقل، أو من كان على حال من الإصرار والعناد يحول بينه وبين قبول الحق وينزله منزلة من لا يعقل. فالحكمة واضحة في تأجيل من لا يعلم حتى يعلم وحتى يتدبر ما علم. لكن أي حكمة هناك في تأجيل من لا يعقل، وهو مهما علم لن يفقه لأنه ليس لديه عقل يفقه به، وتأجيله إلى أجل طال أو قصر لن يؤتيه ذلك العقل؟ إن الفرق هائل بين قول الله سبحانه (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) وفي موضعها من الآية الكريمة من سورة التوبة، وبين قول ابن العربي في نفس الموضع (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)

والغريب العجيب أن الجملة (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) فهي مما أنزله الله في مواطن أخرى من القرآن. فهي في موضعها من القرآن الكريم من كلام الله سبحانه لها كل ما لكلام الله سبحانه من روعة وجمال وجلال وإعجاز. فلما نقلها الإمام أبو بكر بن العربي خطأ أو سهواً عن موضعها التي نزلت فيه إلى غير موضعها في تلك الآية من سورة التوبة أصبحت من كلام البشر لا من كلام الله، ولم تتلاءم مع بقية الآية التي هي من كلام الله، كالرجل أو العين الصناعية شتان بينها وبين الطبيعة، أو كالعضو المنقول - لو أمكن النقل - إلى غير موضعه من جسم الإنسان

أنظر إليها في موضعها من سورة الحشر في قوله تعالى يخاطب المؤمنين منبئاً عن المنافقين: (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)، هي هنا من كلام الله سبحانه. وهي حيث أقحمها الإمام ابن العربي في آية التوبة غير قاصد ولا عامد من غير كلام الله، بل لقد أفسدت من المعنى. فأعجب إذن لكلام إذا التبس الأمر فيه على الإنسان العاقل العالم فأبدل كلمة أو كلمات مكان أخرى تشبهها فقد صبغته وخرج من حيز الإعجاز إلى حيز غير الإعجاز

ذاك مثال من أمثلة دقة الإعجاز في القرآن. ومن غريب المصادفة أني وجدت في نفس العدد من الرسالة مثلاً آخر، إذ وجدت غلطة أخرى في آية أخرى لرجل من رجال العربية المحدثين له إيمان ويقين إلا أنه لم يقع في غلطته في معرض تفسير القرآن، فقد قرأت في العدد نفسه من الرسالة مقال أخي عبد المنعم خلاف (الحياة صادقة) وإذا فيه:

(إن الحياة هي كلمة الله النافذة إلى القلوب لا يحسها إلا من يحملها بأعبائها ثم يحاول أن يسلمها لغيره، وقد أودعها الله قلب آدم (فجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم يرجعون)

والآية ليست بالفاء في أولها ولكن بالواو، لكن لعل الفاء جيء بها لربط الكلام بالمقتبس من الآية فأدخلها الطابع في القوس. إنما موضع النقد الكبير والاستدراك هو ما دخل على آخر الآية، فليست الآية (إلى يوم يرجعون)، ولكن (لعلهم يرجعون). ومن هنا يبدو لأول وهلة الفرق في المعنى بين الصيغتين، ويبدو ذلك بصورة أوضح إذا عرفت سياق الآية الكريمة (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) في موضعها من سورة الزخرف

فلنأخذ في الفرق الأول: الأستاذ عبد المنعم خلاف يريد بيوم يرجعون يوم الحشر، فهو يقول إن الحياة باقية في عقب آدم إلى يوم الحشر؛ ومن هنا يظهر بعد هذا المعنى عن الواقع، لأن الحياة كما يعلم الأستاذ ستزول عن عقب آدم قبل يوم الحشر بأمد لا يعلمه إلا الله، فسيشمل الموت بني آدم فترة يغلب أن تكون طويلة كما جرت العادة في أيام الله في الخلق، ثم بعد ذلك يكون البعث ويقوم الناس، والآيات متظاهرة على ذلك، لكن يكفي هنا الاستشهاد بقوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء الله. ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيان ينظرون). فالحياة ليست باقية في عقب آدم إلى يوم يرجعون في المعنى الذي أورده أخونا عبد المنعم، ولا كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم إلى يوم يرجعون إذا أخذنا لفظ الأستاذ عبد المنعم وطبقناه على ما أخبرنا به الله سبحانه عن سيدنا إبراهيم في القرآن

إن النص القرآني بتمامه هو:

(وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)، وهنا يتبين أي فرق في المعنى دخل على الآية الكريمة يجعل كلمة (إلى يوم) مكان كلمة (لعلهم). فالمعنى القرآني أن إبراهيم صلوات الله عليه - أو الحق سبحانه، والآية تحتمل المعنيين - جعل كلمة براءة مما يعبد من دون الله باقية في عقب إبراهيم لعلهم يرجعون عن عبادة ما سوى الله، إن كانت الكلمة هنا هي الدعوة إلى التبرؤ مما سوى الله، أو يرجعون إلى ما تستلزمه كلمة التوحيد من أحكام، وعن كل ما ينافيها من سلوك، إن كانت الكلمة الباقية في عقب إبراهيم عليه السلام هي كلمة التوحيد. ووجود كلمة التوحيد بين العرب وسائر المسلمين هو من غير شك مناط الأمل وموضع الرجاء أن ينتبهوا يوماً ما إليها وإلى ما تستلزمه من إقامة دين الله، ومن إسلام الوجه والقلب إلى الله، وجعل الصلاة والنُّسك والمحيا والممات (لله رب العالمين لا شريك له) كما أمر الله رسوله ﷺ أن يقول: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

فكلمة (لعلهم) فيها ما فيها من الترجي، وفيها ما فيها من التذكير. لكن كل ذلك يتغير ويزول إذا قيل: (إلى يوم يرجعون) بدلاً من (لعلهم يرجعون)؛ إذ تصبح الآية إخباراً عن بقاء الإيمان والتوحيد في ذرية إبراهيم عليه السلام إلى يوم البعث، ولم يخبرنا القرآن بشيء كهذا. أما (لعلهم يرجعون) فتشعر بأنه سيكون من عقبه عليه السلام طائفة غير مؤمنة يرجى أن تعتبر بالطائفة المؤمنة من عقبه وترجع معها إلى الله. لكن أكبر دلالتها - والله أعلم - أن المؤمنين من ذرية إبراهيم سيكون منهم تفريط في توابع الإيمان ومستلزماته، وإن شئت فقل في حقيقة الإيمان، وأن كلمة الإخلاص والتوحيد ستكون دائماً فيهم منذرة ومبشرة وداعية إياهم إلى الله وإلى إقامة شرع الله الذي قام على التوحيد، وأنها ما دامت فيهم فسيرجى لهم ومنهم الخير

فأنظر إلى جيش المعاني هذا الجائش من كلمة واحدة هي كلمة (لعلهم) في موضعها من الآية الكريمة، وإلى التفاوت البالغ الطارئ على المعنى حين اعتمد الأستاذ عبد المنعم على ذاكرته من غير رجوع إلى المصحف للاستيثاق من النص، فأبدلته ذاكرته من (لعلهم يرجعون) (إلى يوم يرجعون). وخرج الكلام بهذا التبديل الطفيف في ظاهره من دائرة الإحكام

هذان مثلان يوضحان مقدار ما أودع الله في القرآن من إحكام يزول إذا امتدت يد أو عقل أو ذاكرة إليه بأدنى تغيير أو تحريف أو تصحيف. ولو تتبع تالي القرآن ما يسبق إلى لسانه من غلطات أثناء التلاوة، وتدبر بعد ما بينها وبين النص كما أنزله الله سبحانه، لوقف من كل مثل على مثال جديد لإحكام القرآن، وحجة جديدة لإعجاز القرآن

محمد أحمد الغمراوي