مجلة الرسالة/العدد 450/كيف استفتى العلم
→ الإسلام في أوله وحاضره | مجلة الرسالة - العدد 450 كيف استفتى العلم [[مؤلف:|]] |
بهرام جور ← |
بتاريخ: 16 - 02 - 1942 |
في أول وحي إسلامي؟
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
جاء الإسلام وقد آن للبشرية أن تدخل في عصر يجمع بين الدين والعلم، ليتضافرا على هناءتها، ويكفلا لها السعادة في دنياها وآخرتها. فكان لها من الإسلام الدين الذي يحقق لها هذا الغرض، ويمد يده إلى العلم من أول يوم يولد فيه، ليعلم الناس من أول الأمر أنه دين يؤاخي العلم، ويقدر فضل رجاله ويرجع إليهم فيما يفيد الرجوع فيه، ولا ينأى بجانبه عنهم كما نأت الأديان الأخرى، فذمت الحكمة والحكماء، وقالت في بعض رسائلها المقدسة: الرب يعلم أفكار الحكماء أنها باطلة. كما قالت في نص آخر: لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله
فلم يغض الإسلام من الحكمة كما غضت منها هذه الأديان، بل مدحها في إطراء، ورفع من شأنها، وعدها أكبر نعمة من الله على بني الإنسان: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب)
وقد فتح الإسلام بذلك عصراً جديداً في تاريخ الإنسانية، وانتقل بها من دور الطفولة الذي لم تكن تؤمن فيه بالعلم والنظر، بل كانت تؤخذ إلى الإيمان بوساطة المعجزات، وخوارق العادات لقصور عقلها، وعجزها عن فهم الإيمان إلا بهذه الوسيلة التي تؤخذ فيها بالدهشة، ولا تحتاج إلا إلى قليل من إعمال الفكر والنظر
فانتقل الإسلام من ذلك إلى معجزة تنظر إلى من قصد بها كإنسان كامل، له عقل يفكر به، ويمكن أخذه بطريق النظر إلى الإيمان، ليؤمن عن عقل وتدبر، ولا تنفرد بإيمانه المعجزة وحدها، وليقوم إيمانه على أساس العقل، ويتضافر في تشييد بنائه الوحي والعلم
والآن فلنبين كيف استفتى العلم في أول وحي إسلامي:
نشأ النبي ﷺ بين قومه في مكة، فرعى الغنم صغيراً، ثم اشتغل بالتجارة بعد رعي الغنم، ثم تزوج خديجة رضي الله عنها، ووجد من وقته فسحة بعد تزوجها، فكان يقصد إلى غار حراء يتعبد فيه الفينة بعد الفينة، فيقضي فيه الليالي ذات العدد، ثم يعود إلى زوجه فيمكث معها أياماً، إلى أن يقصد الغار مرة أخرى؛ ولم يكن هو الذي يفعل ذ وحده، بل كان يشاركه فيه كثير من متنسكة قريش
وقضى في ذلك أربعين عاماً لا يفكر في غيره، ولا تحدثه نفسه بما صار إليه حاله بعدها، بل كان راضياً بحالة فيها كل الرضا، إذ كان يجد من زوجه شريكة بارة صالحة، ومن نفسه طهارة واستقامة وقناعة، ومن قومه ثقة وتقديراً وإكباراً، حتى كانوا يلقبونه الأمين تشريفاً له وتعظيماً، وليس بعد هذه الأمور من سعادة للنفس الراضية، كنفس محمد ﷺ في ذلك العهد فلما جاءه الوحي لأول مرة في غار حراء صادف نفساً لم تكن تنتظره، وكانت مفاجأة أثرت فيها أكبر تأثير؛ فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل، إذ ظهر له شخص غريب لم يشاهد مثله في حياته، فقال له: أبشر يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: أقرأ. فقال: ما أنا بقارئ؛ لأنه كان أمياً لم يتعلم القراءة؛ فأخذه جبريل فغطه بالنمط الذي كان ينام عليه، حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ؛ فأخذه فغطه ثانية ثم قال: أقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. فأخذه فغطه ثالثة ثم قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم
ثم اختفى جبريل بعد هذا الوحي الأول، ورجع محمد ﷺ وقد بلغ ذلك من نفسه مبلغه، لأنه فوجئ به مفاجأة ولم يكن يعرف من هو جبريل، لأن ذلك لم يكن معروفاً بين قومه. وهو اسم غريب لا يمت إلى العربية بصلة، فسار إلى خديجة يرجف فؤاده مما ألم به من الفزع، فدخل عليها فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى زالت عنه هذه القشعريرة، وذهب عنه الفزع، ثم أخبر خديجة بأمره من أوله إلى آخره، وخشي على نفسه أن يكون أصابها شيء؛ وألا يكون هذا الشخص ملكاً من ملائكة الله تعالى. فطمأنته خديجة رضي الله عنها، وقالت له: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلا يسلط الله عليك الشياطين أو الأوهام، ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك.
فاطمأن محمد بهذا الكلام الطيب من تلك الزوج البارة؛ واطمأنت خديجة على زوجها بعد أن زال عنه ما ألم به من الفزع؛ ولكنهما أرادا أن يزيدا اطمئناناً بعلم العلماء من قومهما، وأن يستفتيا منهم من له علم بحال الرسل ممن اطلعوا على كتب الأقدمين. وهنا يمد الإسلام يده إلى العلم من أول يوم يولد فيه، وتظهر فضيلته في مؤاخاة العلم والاعتراف بالحاجة إليه في هذه الدنيا. فلا يكون هناك عداء بين العلم والدين. ولا يقف أحدهما حجر عثرة في سبيل الآخر. وهذا هو الذي حصل في تاريخ الإسلام إذ كان يفهم فهماً صحيحاً، ولا يتسلط فيه متنطعون يعادون العلم باسم الدين، والدين براء مما يصنعون
وكان لخديجة ابن عم من علماء قريش يقال له ورقة بن نوفل، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخاً كبيراً قد عمى وانقطع للعلم، وأخلص له نفسه فصفت به وطابت، حتى أورثها تواضعاً وإذعاناً للحق، وبعداً عن المراء والتمادي في الباطل، وكراهة للتعصب الممقوت، وبغضاً للجمود على القديم، ومعاداة الإصلاح والمصلحين
فأخذت خديجة زوجها إليه، وقالت له: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك
فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره عليه السلام خبر ما رأى
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى؛ لأنه يعرف أن رسول الله إلى أنبيائه هو جبريل
ثم قال: يا ليتني فيها جذع، إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها، لمعاداتهم إياك، وكراهيتهم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقادات وجدوا عليها آباءهم
فاستغرب عليه السلام ما نسبه ورقة إلى قومه من معاداته، مع ما يعلمه من حبهم له، لاتصافه بمكارم الأخلاق وصدق القول حتى إنه لم يلق منهم أذى في هذا العمر الطويل الذي قضاه معهم، فقال لورقة: أو مخرجي هم؟
فقال له ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً
وهكذا مد العلم يده إلى الدين حين مد الدين يده إلى العلم، فآمن به حين مد يده إليه، وزاد في يقينه حين طلب منه أن يزيد فيه، وبذل له المعونة التي يريدها، وتطوع لنصره إذا صادف من أعدائه إنكاراً، وأثبت بذلك أن العلم الصحيح لا يعادي الدين، كما أن الدين الصحيح لا يعادي العلم، لأن الغاية منهما واحدة في هذه الحياة، وهي الوصول إلى هناءتها وسعادتها، ولا يمكن أن يكون هناك عداء بين شيئين تتحد غايتهما، ويرمي أحدهما إلى الغرض الذي يرمي إليه الآخر، واختلاف الوسائل في ذلك الأمر لا يؤثر شيئاً، لأن اتحاد الغرض هو الذي يجمع بين الأشياء، ولا تهم الوسيلة إليه بعد ذلك في شيء
فإذا وجدنا أهل العلم يعادون الدين في يوم من الأيام، فإن هذا يكون ناشئاً عن جهلهم بالدين؛ وإذا وجدنا أهل الدين يعادون العلم في يوم من الأيام، فإن هذا يكون ناشئاً عن جهلهم بالعلم ولهذا كان لزاماً على أهل العلم أن يعنوا بدرس الدين، وكان لزاماً على أهل الدين أن يعنوا بدرس العلم، لتهنأ الإنسانية بالوفاق بين الاثنين، وتفوز منهما بسعادة الدارين
عبد المتعال الصعيدي