مجلة الرسالة/العدد 450/صورة من عنت الجاهلية
→ سيدي رسول الله | مجلة الرسالة - العدد 450 صورة من عنت الجاهلية [[مؤلف:|]] |
القائد الشاب. . . ← |
بتاريخ: 16 - 02 - 1942 |
فرعون قريش
للأستاذ كامل محمود حبيب
(أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى، أرأيت إن كان على الهدى
أو أمر بالتقوى، أرأيت إن كذب وتولى، ألم يعلم بأن الله يرى،
كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة، فليدع
ناديه، سندع الزبانية، كلا لا تطعه وأسجد واقترب)
(قرآن كريم)
يا عجبا! إن الإنسان ليخلو إلى نفسه أحياناً - فينتضي ما يرائي به الناس، ويبدو عارياً عن كل شيء إلا ما اقترف من إثم أو ما اكتسب من خطيئة؛ فيحاسبها وتعاتبه، ويلومها وتؤنبه، ثم يخرج من هذا العراك النفساني وقد فاء وأناب. . . أما الفاجر الفظ فلا يرتدع ولا يتصونَّ، لأن الشر يتدفق في عروقه فيسيطر عليه فيسوَّل له أشياء ليست هي من الإنسانية ولا من الضمير ولا من العقل، ولأن الشيطان أتخذه ولياً فأضله عن سواء السبيل
الليل ساج ساكن والقمر يخفق في السماء يشع نوراً جميلاً يجذب القلب، والقوم منبثون في أرجاء المكان بالعدوة القصوى ليلة سبع عشرة من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة؛ وهم في حركة صامتة يتهيئون لأمر ذي بال قد شغلهم عن كل ما حولهم، لا تسمع إلا صليل الحديد وحنين الإبل، وإلا صهيل الخيل ونباح الكلاب، وإلا همسات فئة يتشاورون في أمر قد أهمهم. . . هذا وفرعون قريش أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة جالس وحده في ناحية وبين يديه درع له قد نثلها من جرابها فهو يَهْنئها. وعملت في نفسه الخلوة حين أخذ الناس يتسللون إلى مضاجعهم، فراحت خواطره تسبح بين ثنايا عمره الغابر. وأطرق فرعون قريش طويلاً فإذا آثامه وأوزاره منشورة أمام عينيه تسخر منه وتهزأ به، وإذا غده الأسود يرنو إليه عابساً مكفهراً وهو لا يدري ما وراء. إنه سيغدو على حرب حطبها رجال من قومه وعشيرته، هم أترابه ورفقاء صباه، وهم علية قومه وساداتهم.
وتمثلت له أفكاره أشباحاً تضطرب في الفضاء اللانهائي تحجب عنه نور القمر البهيج، فانطوى يحدث نفسه حديث فلسفته الجديدة، فلسفة الشك والحيرة، قال:
(رُب يوم قضيت في أمن ودعة، ناعم البال مطمئن الخاطر؛ فما لهذا القمر يبدو كاسفاً حزيناً، وما لهذه الجبال تتراءى معفرة غبراء، ومالي أحس كأن أنفاس الليل الهادئة تهب قاسية لتصدع صدري في غير رحمة ولا شفقة! إن قلبي لتهده الوحشة وأنا بين أهلي. أفيكون هذا لأنني سأغدو على حرب قوم هم مني وأنا منهم؟ لقد صبئوا واعتدوا فحق عليهم عقاب
(يا ويلي! أفحقاً ما جاء به محمد؟
(تاالله إنه لأمر عظيم. لقد عرضنا عليه المال حتى يكون أكثرنا مالاً، والشرف والملك حتى يكون سيدنا ومليكنا، فأبى وتعفف وقال: ما بي ما تقولون. . . فماذا بقي من عَرضَ الدنيا يبتغيه ذو حاجة!
(وتسللت - مرة ومرة - في خفية وحذر أتسمع ما يقول وأرى رأيي فيه - وعندي أنه كان بيننا غلاماً حدثاً غير متهم في قول أو فعل، فغير جدير به أن يتقول علينا بعض الأقاويل بعد إذ بدأ الشيب في صدغيه - فألقيت كلاماً حلواً عذباً ليس بينه وبين قلب اللبيب من حجاب، فصبوت إليه وهفوت نحوه؛ غير أن عنتاً أصابني فقلت للأخنس بن شريق حين سألني رأيي: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا؛ حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه
(هذا هذا، يا قلبي!
(وتأججت نار الحسد والبغضاء في قلبي، فاندفعت أريد أن أقتله أو يقتله عصبة منا فما استطاع واحد أن يخلص إليه. يا لقلبي، كيف حيل بيني وبينه؟ لا ريب فهو قد سحرني أو أن خادماً من الجن أزعجني عنه
(كلا، كلا؛ فو الله ما هو بساحر!
(آه؛ لطالما سكنت إلى نفسي فما ودت إثماً قد قارفه، غير أن له رأياً هو جعلني أحمل له ضغناً، فانطلقت أشتط في السخرية منه، أسفه من حمله، وأضع من شرفه، وأعذب صحابته، وأفتنهم في دينهم، لا أرعوي ولا أستقر؛ ومضت الأيام وأنا احتدم احتداماً لا تهدأ لي ثورة ولا ينطفئ غل
(ماذا عساه يبتغي؟ لعمري إن أمر هذا الرجل لعجيب
(الله! نعم، الله!)
وصمت الرجل برهة من زمان يتأمل. . . ثم ثاب إلى نفسه يحدثها مرة أخرى:
(ثم. . . ثم ما اللات والعزى، وما مناة الثالثة الأخرى؟ أفليست بعض هذه الصخور المنثورة حوالي عاثت بها يد إنسان فصورتها آلهة تعبد؟ أفحقاً أن الله يسكنها فيدبر الأمر من ورائها على حين هي ذرات في هذا العالم اللانهائي لا حول لها ولا طول؟ يا لشد جهلي! أاسجد وأقوم واعبد وأقدم القرابين لمثل هذه الصخرة الواهية؟ وما إساف ونائلة؟ أفكانا غير رجل وامرأة أحدثا في الكعبة فمسخهما الله فاتخذناهما إلهين؟
(ليت شعري أين العقل والحكمة؟
(ليتني أستطيع أن أنزل عن كبريائي فأرجع بهذا الناس، فمالي بقتله من أرب، وأذر الرجل يناجي ربه ويعبده ويتهجد له ما شاء، وينشر دينه أنى شاء وكيف شاء! ليته يعبد آلهتنا فنعبد إلهه، ونرجع سيرتنا الأولى قبل أن تستيطر عليه هذه الأخيلة. . . ليتني وليته. . . ولكن؟
(ولكن أفننتظم تحت رايته وما هو بشيء؟ فو الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه فيكون له الشرف والملك علينا، ونكون نحن في دولته كبعض أراذلنا
(آه لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!)
وراح الرجل في ضمير الليل يحدث عقله حديث الفيلسوف قد ضربه الشك فلا يستطيع أن يرى الضلالة التي تردى فيها. وخشي الشيطان غب الأمر فصاح من أقصى الأفق صيحة صكت مسمعي الرجل فانتزعته من خواطره، ودوى صوت الشيطان يبدد أخيلته ويطم على ضميره ويناديه بأن ستكون لكم الغلبة فأفق من غرات الشك والتخاذل. غداً تهدأ الثائرة، وينطوي تاريخ هذا الرجل، وتكون أنت. . . أنت يا أبا الحكم السيد المطاع
وهب الرجل من مكانه يجر درعه، في هدأة الليل، صوب مضجعه وقد سكنت كل نأمة. . . ذهب إلى مضجعه لينام فألفى الشيطان هناك ينتظره ليحدثه حديث الكفر والفسوق حتى مطلع الشمس
وفي الصباح دفعه الشيطان إلى الحومة ليلقى - أول ما يلقى - معاذ بن عمرو بن الجموح فضربه ضربة أطنَّتْ قدمه بنصف ساقه فسقط رأس الكفر يتضرج في دمه، ونظر فإذا الأرض من حوله خلاء إلا من الشيطان يعبث به ويسخر من آلهته، ويقول له: إني بريء منك ومما تعبد من دون الله. وتدفقت الحسرات في قلب الفاسق تأكله فما أنقذه منها إلا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فاحتز رأسه وحملها إلى رسول الله ﷺ
وهو فرعون قريش أبو جهل - لعنه الله - إلى مثوى الكافرين. هوى إلى غضب الله يوم بدر. . . يوم النصر. . . يوم سطع أول شعاع أخاذ من نور النبوة على جزيرة العرب
(المحلة الكبرى الثانوية)
كامل محمود حبيب