مجلة الرسالة/العدد 45/الحرب في بلاد العرب
→ مقياس الرقي | مجلة الرسالة - العدد 45 الحرب في بلاد العرب [[مؤلف:|]] |
مختار. .! ← |
بتاريخ: 14 - 05 - 1934 |
تطور الحوادث في الجزيرة وصداه في الأفق الدولي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أسفرت المعارك التي نشبت في الأسبوعين الأخيرين في هضاب عسير وتهامة بين القوات السعودية والقوات اليمانية عن نتائج خطيرة حاسمة فيما يظهر؛ فقد استطاعت القوات السعودية أن تتوغل في نجران وفي عسير بسرعة مدهشة، وأن تستولي على منطقة واسعة في شمال اليمن تشمل عسيراً ونجران وجميع الجهات والمواقع التي كانت موضع النزاع بين البلدين، وأن تتقدم بعد ذلك في أراضي اليمن ذاتها بحذاء البحر الأحمر حتى ثغر الحديدة، وهو أهم الثغور اليمانية، وأن تستولي عليه بعد أن فرت منه قوات الإمام التي كان يقودها ولده وولى عهده سيف الإسلام. وقد كنا نؤمل حين كتبنا مقالنا الأول عن هذه الحرب التي تضطرم بها الجزيرة العربية، أن يكون لصوت العالم العربي والإسلامي أثره في تدارك هذا الخلاف الخطر، وفي وقف المعارك قبل استفحالها. وقد رفع العالم الإسلامي صوته قوياً بمناشدة الزعيمين أن يتذرعا بالروية والحسنى في حسم النزاع القائم بينهما، وسافر إلى مكة وفد عربي إسلامي يمثل عدة من الأمم العربية لتحقيق هذا المسعى. ولكن الظاهر أن سير الحوادث لم يفسح مجالاً للتفاهم الحسن بين الملكين؛ وقد كان جلالة ابن السعود يشترط لوقف القتال شروطاً يراها لازمة لسلامة حدوده وسلام مملكته، وهي جلاء القوات اليمانية عن نجران ومواقعها الجبلية، وإطلاق الرهائن، وتسليم الأدارسة؛ ولكن سيادة الإمام يحيى لبث حيناً يتردد بين القبول والاعتراض؛ وحدث في تلك الفترة أيضاً أن تقدمت القوات اليمانية في نجران وعسير واحتلت مواقع جديدة؛ وأيقن ابنالسعود بعد طول المكاتبة والمفاوضة أن الإمام لا يريد اتفاقاً ولا يسلم بشيء من مطالبه. ويبدو من مراجعة الكتاب الرسمي الأخضر الذي أذاعته الحكومة السعودية عن سير المفاوضات والمكاتبات بين الملكين أن ابن السعود تذرع بكثير من الروية والأناة في محاولة إقناع الإمام باحترام المعاهدات المعقودة والحالة الواقعة. وتدل وثائق الكتاب الأخضر أيضاً على أن عوامل التحريض كانت تعمل عملها في عسير ونجران لدفع قبائلهما إلى الثورة على عمال الحكومة السعودية وأصدقائها. إزاء هذه العوامل والظروف لم ير ابن السعود بداً من الالتجاء إلى القوة المادية؛ فزحفت القوات السعودية في نجران وتهامة صوب الجنوب، واستولت على جميع مواقعها وانتهت كما تقدم بالاستيلاء على ثغر الحديدة، وانهارت في الحال كل التدابير التي اتخذها الإمام للحرب والدفاع، وأضحت اليمن تحت رحمة القوات السعودية التي تطوقها من الشمال والغرب.
وتطور الحرب بين ابن السعود والإمام على هذا النحو يثير احتمالات ومسائل في منتهى الخطورة، وساء في داخل الجزيرة العربية أو خارجها، ولا سيما إذا استمرت القوات السعودية في زحفها على اليمن وانتهت بالاستيلاء عليها. ذلك أن ابن السعود الذي يسيطر على قلب الجزيرة العربية من الأحساء وعمان شرقاً إلى ساحل البحر الأحمر غرباً، ومن بادية العراق وشرق الأردن شمالاً حتى الربع الخالي جنوباً، يغدو باستيلائه على اليمن سيد الجزيرة المطلق، والمسيطر على الساحل الشرقي للبحر الأحمر كله من العقبة حتى مضيق باب المندب. وقيام إمبراطورية عربية قوية على هذا النحو تشمل نجداً والحجاز واليمن مما يثير اهتمام السياسة البريطانية ومخاوفها. وقد كان تقدم المملكة السعودية في الأعوام الأخيرة موضع اهتمامها دائماً. ذلك أن المملكة السعودية تجاور مناطق النفوذ البريطاني والأملاك البريطانية في جميع أنحاء الجزيرة العربية؛ فهي تجاور عمان والكويت من الشرق، والعراق وفلسطين وشرق الأردن من الشمال، وإذا تم ضم اليمن إليها، فإنها تجاور عدن وحضرموت من الجنوب. وعلائق ابن السعود مع بريطانيا العظمى ودية حسنة. وقد نظمت منذ سنة 1922 بمعاهدة المحمرة ثم ببروتوكول العقير. بل إن علائق الصداقة بين ابن السعود وبريطانيا ترجع إلى ما قبل عشرين عاماً، أعني إلى ما قبيل الحرب الكبرى. وكان ابن السعود يومئذ اميراً محلياً، فرأى في اتصاله بالسياسة البريطانية وسيلة لتحقيق مشروعاته؛ وحالف بريطانيا العظمى على الترك، ولزم الحياد أثناء الحرب وفاء بعهده لها. وافتتح في ذلك الحين منطقة شمر في شمال نجد وانتزعها من يد خصمه ومنافسه ابن الرشيد، وبدأت إمارة نجد تتخذ مكانها وأهميتها في شئون الجزيرة العربية. وفي سنة 1924 غزا ابن السعود الحجاز واستولى عليها من يد الحسين بن علي ملكها يومئذ، وامتدت حدود نجد حتى ساحل البحر الاحمر، وقامت من ذلك الحين مملكة نجد والحجاز القوية، واعترفت بقيامها الدول وفي مقدمتها بريطانيا العظمى. وكانت السياسة البريطانية خلال هذه المراحل كلها ترى في ابن السعود صديقاً لها؛ ولم يشب هذه العلائق الودية شيء من الكدر إلا في سنة 1928 إذ أغارت بعض القبائل النجدية على حدود العراق، ونشب الخلاف بين الفريقين على مسألة مخافر الحدود؛ ثم سوى الخلاف وعاد التفاهم بين الفريقين.
ولكن المملكة السعودية قد غدت في الجزيرة العربية قوة يخشى بأسها، وهي تدلل اليوم على قوتها مرة أخرى بذلك الغزو السريع لنجران وتهامة، ثم شمال اليمن واستيلائها على ثغور جديدة على البحر الأحمر، وقد لا تقف القوات السعودية في زحفها حتى يتم استيلاؤها على بلاد اليمن كلها، وتغدو اليمن كالحجاز ولاية جديدة في المملكة السعودية الكبرى: واجتماع الأمم العربية داخل الجزيرة تحت هذا اللواء القوي يثير روحاً جديداً في القضية العربية ويقوي فكرة الجامعة العربية، ويحيي الآمال في تحقيقها. والسياسة البريطانية لا تنظر إلى هذه التطورات بعين الارتياح لأنها تزيد في متاعبها حيثما تبسط سلطانها على أطراف الجزيرة العربية، والسياسة الفرنسية التي تسهر على مصاير سوريا تخشى أن يثير هذا الروح المعنوي الجديد في الوطنية السورية قوة جديدة، ويزيد في متاعبها في سوريا. هذا ومن جهة أخرى فإن السياسة الإيطالية ترقب تطور الحوادث في اليمن بمنتهى الاهتمام والجزع أيضاً. وللسياسة الإيطالية في اليمن مركز خاص، ولإيطاليا في اليمن مطامع لا تخفي. وقد نظمت العلائق من سنة 1928 بين الإمام يحيى وإيطاليا وعقدت بينهما معاهدة تجارية اقتصادية، وأخذت إيطاليا من ذلك الحين تعمل بكل الوسائل على تقوية نفوذها في اليمن؛ والسياسة الإيطالية لم تكن بعيدة عن موقف الإمام في الحوادث الأخيرة ولم تكن بعيدة عن شد أزره بالمال والرجال والذخائر في الحرب التي ستنشب بينه وبين ابن السعود. ثم يجب ألا ننسى أن مستعمرة إريترية الإيطالية في اليمن، ويجعل ساحل المستعمرة الإيطالية عرضة لأخطار جديدة، ويضع حدا للتوسع الإيطالي في تلك المنطقة.
والسياسة البريطانية تقف اليوم موقف التريث والانتظار؛ ولكن في اجتماع السفير الإنكليزي في جده بابن السعود، حسبما نقلت ألينا الأنباء الأخيرة، ومحادثته إياه في الاحتمالات التي نشأت عن انتصار الجيوش السعودية، وعما إذا كانت تنوي التقدم بعد في قلب اليمن - في ذلك ما ينم عن اهتمام السياسة البريطانية بتطور الحوداث على هذا النحو؛ وربما عن قلقها أيضاً. ذلك لأن اليمن تجاور منطقة عدن البريطانية وتشرف عليها من الشمال والغرب؛ ولعدن أهمية حربية خاصة فهي مفتاح باب البحر الأحمر من الجنوب، ومفترق الطريق الإمبراطوري البحري إلى الهند والشرق الأقصى؛ فوقوع اليمن في يد زعيم قوي كابن السعود قد يهدد مركز بريطانيا في عدن، أو في بعض ولاياتها المحمية المجاورة لليمن، وهي التي كانت منذ بعيد موضع خلاف بين الإمام والإنكليز، ثم سوى منذ أشهر بمعاهدة الصداقة البريطانية اليمنية. ومسألة المواصلات الإمبراطورية من أدق مهام السياسة البريطانية.
بيد أنه إذا كانت السياسة البريطانية تقف موقف الانتظار والتحوطإزاء تطور الحوادث في الجزيرة العربية. فليس هنالك على ما نعتقد، ما يدعوها للتدخل المباشر في سر هذه الحوادث. فعلائق ابن السعود وبريطانيا مازالت حسنةٌ. والإنكليز يثقون بابن السعود وصراحته وعهوده التي برهن في فرص عديدة أنه يحترمها ويعمل على تنفيذها، ولا نعتقد أن ابن السعود يفكر في الوقت الحاضر على الأقل في الإقدام على مناوأة سياسة بريطانيا أو مصالحها في أية منطقة من المناطق التي تسيطر عليها في أطراف الجزيرة، لأن ابن السعود يحرص دائماً على صداقة بريطانيا. وربما كان الإنكليز يؤثرون دخول اليمن في طاعة ابن السعود، ويؤثرون سياسته القائمة على الحزم والصراحة وحسن التقدير، على سياسة رجل كالإمام يلقون من صلابته وتردده وعدم اعتباره بالحقائق الواقعة كثيراً من المتاعب في عدن وولاياتها المشمولة بالحماية البريطانية. هذا إلى أن ابن السعود قد صرح على لسان ممثله في لندن أن يحترم الحقوق القائمة والمعاهدات المعقودة ويبذل وسعه لحماية أرواح الأجانب ومصالحهم في البلاد التي تفتحها جيوشه، ولا ريب أنه في حالة استيلائه على اليمن سيحترم نصوص المعاهدة اليمنية البريطانية الأخيرة، وسيحترم الحالة القائمة في ولايات عدن المحمية؛ ومن جهة أخرى فانه لن يفوت الإنكليز أن ينتهزوا فرصة انشغال الإمام بغزو أراضيه فيعملوا علىتوسيع احتلاهم لتلك الولايات بما يطابق خططهم التي لبث الإمام طويلا يقف في سبيلها.
ليس هنالك إذا ما يخشى وقوعه من جانب السياسة البريطانية للتأثير في مجرى الحوادث الحاضرة في جزيرة العرب. وهذا ما تؤيده التصريحات الرسمية التي أدلى بها السير جون سيمون وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم في شأن حوادث الجزيرة العربية، فهو يؤكد فيها أن بريطانيا العظمى ستقف إزاء هذه الحوادث موقف الحياد الدقيق وأن اجتماع السفير البريطاني بابن السعود لم يكن يقصد به إلا التأكد من حماية المصالح البريطانية والرعايا البريطانيين في الجهات التي تفتتحها القوات السعودية. وهذا ما تؤيده أيضاً الصحف الإنكليزية وأقوال الكتاب السياسيين وتنويههم بحزم ابن السعود ومقدرته وصداقته لبريطانيا العظمى
أما السياسة الإيطالية فهي على العكس تخشى تطورات الحوادث الحاضرة وترى فيها خطراً على مشاريعها ومصالحها حسبما بينا. وقد كان الأمام صديق السياسة الإيطالية، وكانت إيطاليا تتمتع في اليمن بمركز خاص تعلق عليه أهمية كبيرة لتنفيذ مشاريعها في بلاد العرب، فسقوط اليمن في يد ابن السعود يقضي على هذه الآمال والمشاريع، وقد أرسلت إيطاليا كما أرسلت إنكلترا بعض بوارجها إلى مياة اليمن لحماية مصالحها. ولكن هل تذهب إيطاليا إلى أبعد من ذلك فتحاول التدخل المباشر في سير الحوادث في اليمن؟ من المعروف أن إيطاليا كانت تمد الإمام بالأسلحة والذخائر والضباط الفنيين، ولكن استيلاء القوات السعودية على الحديدة وساحل اليمن كله تقريباً يقفل هذا الباب في وجه إيطاليا ويقطع هذا العون عن الإمام. ولسنا نعتقد إن إيطاليا تستطيع الإقدام على مثل هذه المغامرة في الظرف الحاضر، فتحاول الدفاع عن اليمن والاشتباك مع القوات السعودية الغازية في حرب لا تؤمن عواقبها، أولاً لأن بريطانيا العظمى لا تستطيع السكوت على مثل هذا التدخل ولا بد أن تقاومه بكل قواها، وليس من اليسير أن تقدم إيطاليا على تحدي بريطانيا العظمى في مثل هذه الظروف التي يفيض فيها الأفق الدولي بالمشاكل الخطيرة، وثانياً لأن إيطاليا تعلم من تجاربها القاسية في طرابلس، إن الأعمال الحربية في الصحاري والهضاب ليست يسيرة على الجنود الأوربية، وقد كانت هضاب اليمن مدى أجيال حصوناً مغلقة في وجه الجيوش العثمانية المدربة على ارتياد الهضاب الوعرة، ومن المرجح أن تلقى الجيوش السعودية ذاتها، وهي جيوش الصحراء، صعاباً كبيرة قبل ان تستطيع الوصول إلى صنعاء والاستيلاء على اليمن. وإذاً فكل ما يمكن للسياسة الإيطالية أن تقوم به الوقت الحاضر، هو أن تحاول المضي في خطتها من معاونة الإمام بالاسلحة والذخائر والأموال
على أنه يبقى بعد ذلك كله أن نتساءل عما إذا كان ابن السعود يعتزم حقاً أن يستولي على صنعاء وان يتم غزو اليمن. إن الجيوش السعودية تقف الآن عند الحديدةمن جهة البحر، وتطوق شمال اليمن، وليس في الأنباء الأخيرة ما يدل على إنها ستتابع زحفها في الحال، بل يرجح أن تنتظر حيناً حتى تتم اهباتها وتقوى مؤخرتها وقد يرى ابن السعود في تلك الأثناء ما يقنعه بالوقوف عند هذا الحد من الظفر وإرغام الإمام على قبول شروطه ومطالبه؛ وقد ينزل عند صوت العالم العربي والإسلامي فيقبل وقف الحرب والاتفاق مع الإمام، إذا رأى انه يستطيع بذلك اجتناء جميع الثمرات التي يخوله الظفر اجتناءها.
وسنرى في الأسابيع المقبلة ما تسفر عنه هذه التطورات الخطيرة في مصاير الجزيرة العربية.
محمد عبد الله عنان المحامي