مجلة الرسالة/العدد 449/الهجرة وشخصيات الرسول
→ مع المفتي الأكبر | مجلة الرسالة - العدد 449 الهجرة وشخصيات الرسول [[مؤلف:|]] |
ساعة في ظلال الجنة ← |
بتاريخ: 09 - 02 - 1942 |
للأستاذ محمود شلتوت
كان للوحي قبل الهجرة اتجاه، وكان له بعد الهجرة اتجاه آخر، وكان النبي ﷺ يساير الوحي في هذين الاتجاهين، ويحتفظ بما يؤدي إلى الغاية منهما.
كان الوحي يدور أولاً حول تحديد الدعوة، وبيان الغرض منها، ولفت الأنظار إلى أدلتها، وذكر ما ينفع فيها من قصص الأولين وعبر الماضين، وتسلية الرسول وغرس عوامل القوة الروحية في نفسه، وتعويده عدم الاكتراث بما يجابه به من الإيذاء والتكذيب والاضطهاد. وقد أتجه النبي ﷺ إلى هذه الناحية في تفكيره وأعماله وأقواله وسائر تصرفاته، يبلغ الدعوة، ويعالج الصبر على الإيذاء في سبيلها، ويحاول جمع القلوب حولها، ويرسم للناس دائرتها، ويركز أصولها في النفوس، ويعمل على إيجاد بيئة إسلامية صالحة لما يرد عليها فيما بعد من مبادئ التشريع.
فلما تمت الهجرة دخلت الدعوة في عهد جديد تكونت به للمسلمين وحدة اقتضت معاملات ونظماً اجتماعية تمتاز بها عن سائر الجماعات.
ومنذ ذلك الحين أتجه الوحي إلى جهة أخرى تسير مع مقتضيات الحالة الجديدة وتلبي مطالب هذه الأمة الناشئة، واتجه النبي ﷺ هذا الاتجاه نفسه فأضيف بذلك إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى، فكان إماماً للمسلمين يسوسهم ويرعى دولتهم وينظم شئونهم؛ وكان مفتياً يجيبهم عما يسألون، ويعلمهم ما يجهلون؛ وكان قاضياً يفصل في خصوماتهم، ويقضي بينهم، معتمداً على ما يظهر به الحق من البينات والأدلة.
وقد صدرت عنه ﷺ في جو هذه الحياة الجديدة أقوال وأفعال وتصرفات مختلفة عني بها المسلمون عناية فائقة هي مضرب الأمثال في عناية الأمم بتاريخ عظمائها وتتبع آثارهم، دونوها وشرحوها وضبطوا ألفاظها وألفوا المعاجم في شرح غريبها، واهتموا بتفهم أسرارها، وتبين أغراضها حتى كان من آثار ذلك أن نشأت علوم خاصة تعرف (بعلوم السنة) من رواية ودراية وتجريح وتعديل وناسخ ومنسوخ وغير ذلك.
يهم الناظر في التشريع الإسلامي أن يعرف: هل كان النبي ﷺ في كل ما يروى عنه من هذه الأقوال وتلك الأفعال والتصرفات مُصدراً عن الوحي، ناطقاً بلسانه، أ كان له إلى جانب الوحي فيها تفكير ونظر واجتهاد؟ ذلك ما نريد معالجته في هذا البحث.
يرى بعض العلماء أن النبي ﷺ مبلغ عن الله فقط. تنحصر مهمته في تبليغ الوحي وما يتصل به من بيان على الوجه الذي ضمنه الله بقوله (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه).
ويرون أن صفة الرسالة فيه غلبت على صفة البشرية، وأنه عليه الصلاة والسلام تمحض في استعداده لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة، معتمدين في ذلك على ما فهموا من قوله تعالى: (إن هو إلا وحي يوحى) بعد قوله: (وما ينطق عن الهوى).
رأوا هذا ورتبوا عليه أن كل ما أثر عن النبي ﷺ شريعة من الله رب العالمين، لها صفة الدوام والبقاء إلى يوم الدين، والناس مخاطبون بها في كل زمان ومكان، لا يجوز لهم أن يحيدوا عنها قيد شعرة، ومن حاد عنها أو سوغ لنفسه أن يتصرف فيها، فذلك خارج على شريعة الله، مخالف عن أمر الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين.
يقولون ذلك ويتشددون فيه، ولا يفرقون بين أقواله وأفعاله وأحكامه وأقضيته وسائر تصرفاته في العبادات والمدنيات والجنائيات والطب والسياسة والحروب والعادات والزي واللباس وآداب الطعام والشراب والجلوس والسير في الطريق وما يكون من الأحوال الشخصية والمسائل الجنسية وغير ذلك، فكل هذا وحي من الله، بعضه ظاهر وببعضه باطن، وكله شرع محكم، ودين متبع لا يجوز الخروج عليه، ولا التصرف فيه.
وقد تجد قوماً منهم يستثنون من ذلك بعض الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية كرأيه ﷺ في تأبير النحل، أو في اختيار مكان ينزلون فيه للحرب أو نحو ذلك، ولكنهم حين يتحدثون عن هذا الاستثناء يحتاطون في الأمر تمام الاحتياط، فيضيقون دائرته ولا يتوسعون فيه.
لقد جاءت الشريعة الإسلامية (بالاجتهاد)، وأمر الله عباده أولي الأبصار بأن يعتبروا، وينظروا، ويتدبروا كتابه الكريم، وقد كان الاجتهاد سنة الأنبياء والمرسلين من قبل، والقرآن يحدثنا بذلك عنهم كما في شأن يحيى إذ أتاه الله الحكم صبياً، وكما في قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم. وقد ذكر الله جملة من أنبيائه ورسله، وأثبت لهم جميعاً هذا المعنى بقوله: (أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)؛ ثم قال لنبيه محمد ﷺ في الآيات نفسها: (أولئك الذين الله فبهداهم أقتده).
فالنبي إذن مأمور بالسير على سنة الأنبياء والمرسلين من قبله، مأمور بأن يقتدي بهديهم، وهذا أمر تقضي به طبيعة الأشياء، لأنه لا يعقل أن يرسل الله رسولاً في وقت نبغت فيه الإنسانية، واشتد ساعد الفكر البشري، ثم يحرمه النظر والتفكير الذي أباحه لإخوانه الأنبياء في طفولة الدهر وشباب الزمان، وأباحه أيضاً لمتبعيه الذين يدعوهم إلى دينه ويأمرهم بالعمل بشريعته.
كيف يسوغ لأحد أن يقول بحرمان النبي ﷺ من الاجتهاد، وهو مرتبة علمية من أسمى مراتب الفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية؟ أيمنحها الله لذوي العقول وأرباب البصائر ثم يحرمها على الإنسان الكامل؟
كأني بهؤلاء يرون رسالة الرسول أمراً يتعارض مع بشريته. ولقد كان ﷺ مع رسالته وقبل رسالته بشراً اكتملت فيه جميع معاني البشرية الفاضل. ولم يشأ الله أن يرسله حتى بلغ أربعين عاماً لتنضج بشريته وتكمل رجولته، فلا تطغى عليها الرسالة ولا تسلبها خصائصها. وقد عنى القرآن الكريم بأن يؤكد هذا المعنى في كثير من آياته: (سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً). (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ألي). ومن زعم أن رسالة النبي قد غلبت على بشريته وقضت على لوازمها السامية فقد تلاقي في رأيه من قريب أو من بعيد بالذين يقولون (أبعث الله بشراً رسولاً)
إن النبي ﷺ بشر وفي أسمى مراتب البشرية، وقد اكتسب في ذلك شخصية الفقيه المجتهد كما منح شخصية الرسول المبلغ عن الله. وهو (أول الفقهاء) كما أنه (خاتم الأنبياء). فلننظر إذن فيما ورد عنه ﷺ على هذا الأساس الذي يجمع بين الرسول والفقيه
اقتضت حكمة الله أن يسوس عباده، ويحقق مصالحهم بنوعين من التشريع: نوع يتولاه بنفسه وينص فيه على ما يريد ويرسل به الوحي إلى نبيه. ونوع آخر (يسكت عنه) فلا ينص عليه غير نسيان ولا إهمال، ولكنه (رحمة بعباده) يكله إلى أصحاب الرأي والنظر لاختلاف المصلحة فيه باختلاف الظروف والأحوال. وقد قام (محمد النبي) بحق رسالته فبلغ النوع الأول كما أمره بتبليغه. وقام (محمد الفقيه الأول) بحق بشريته: رسم طريق الاجتهاد، وعنى بالتطبيق العملي عليها، وبأن يعبدها لمن يجيء بعده من الخلفاء والقضاة والأئمة: اجتهد وقاس وحكم، وأفتى بالحاجة وتقدير المصلحة، وساس الأمة بما أراده الله كما هو الشأن في المجتهدين والحكام
1 - اجتهد في الحروب وفي الأمور الدنيوية
2 - واجتهد في الأحكام الشرعية، فأفتى المرأة التي سألته عن حجها لأبيها بقوله: (أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يقبل منك)؟ وأفتى السائل عن قبلة الصائم بقوله: (أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك)؟ وأفتى السائل عمن لامس امرأته أيكتب له أجر وهو يقضي شهوته؟ فقال له: (أرأيت لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟)
3 - ونزل على اجتهاد غيره فاستثنى (الأذخر) في تحريم شجر مكة حين استثناه العباس. ودعا للمقصرين كما دعا للمحلقين، وأذن في غسل القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر الأهلية بعد أن أمر بكسرها، ونزل المنزل الذي أشار عليه أصحابه بأن ينزل فيه
4 - وكان يجتهد ثم ينزل الوحي باجتهاده، وقد يسكت عنه فلا يعرض له بتصويب ولا تخطئة: عاتبه الله على الإذن للمنافقين، وعلى أخذ الفداء من أسرى بدر، وعلى إعراضه عن الأعمى، فكان ذلك إيذاناً من الله في اجتهاده، ورجع هو عن اجتهاده باجتهاد بمجرد النظر والتجربة فقال (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئاً وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى)
5 - وكان يحكم في الحوادث الجزئية التي ترفع إليه، ويعتمد في حكمه على البيانات وحجج الخصوم ويقول: (لعل أحدكم ألحن بحجته فإنما أنا بشر)
6 - وكان يكل الجهاد إلى أمرائه وقضاته دون أن يقيدهم بالرجوع إليه
7 - وكان يسارع أحياناً إلى الجواب عما يسأل عنه من غير أن يتربص لوحي، وأحياناً ينتظر أمر الله ويقول لم ينزل علي فيه شيء كما في حادثة المرأة التي جادلته في زوجها، وكما في حادثة الرجل الذي قذف زوجته، فقد نزل القرآن بتشريع كفارة الظهار وشهادات اللعان ولعل الأمر فيما ينزل فيه الوحي وفيما لا ينزل، وفيما يجتهد فيه الرسول وفيما لا يجتهد راجع إلى الفصل بين الشئون التي تتعلق بأساس الدعوة، أو بالجانب الخلقي، أو بالعبادة، وبين ما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأزمنة، والأشخاص، وقد حدد الفقهاء المجتهدون بذلك مواضع الاجتهاد ومواضع النص
نستطيع بعد هذا أن نستخلص للنبي ﷺ شخصيات متعددة: شخصية الرسول، وشخصية الإمام العام، وشخصية المفتي، وشخصية القاضي
فهو بشخصية الرسول مبلغ عن الله لا يخرج فيما أوحى إليه عن حدود ما أمر به أو نهى عنه، والمسلمون مكلفون به كما تلقوه عنه في عمومه أو في خصوصه، وفي دوامه أو توقيته؛ وهذا يغلب فيما هو من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، ولا يعد النبي ﷺ بذلك فقيهاً، وإنما هو أعلى شأناً وأجل مكانة من الفقيه
وهو بشخصية الإمام الأعظم رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم يعمل على تركيز أمته، وطبعها بطابع تتميز به عن سائر الأمم، ويلحق بذلك كل ما ورد عنه مما يتعلق باللباس والأزياء والتشبه بقوم ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وما إلى ذلك مما لا يمس ناحية العقيدة، ولا يعقل فيه معنى التعبد؛ وإنما هو في الشئون الاجتماعية البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال، وينزع إليها الزعماء والقادة في القديم والحديث، والأمر فيها راجع إلى ما تراه الأمم، وتقدر فيه قوميتها ومصلحتها وسيادتها
وهو بشخصية المفتي إما مجيب بلسان الوحي فليس له اجتهاد في ذلك إلا في تطبيق النص على جزئيات الحوادث، وإما فقيه يجتهد ويقدر ويلاحظ أحوال السائلين فيجيبهم بما يراه كما يفعل سائر المجتهدين وبالطرق التي يألفها الناس في استنباط المجهولات، وقد علم له من هذا النوع كثير
وهو بشخصية القاضي حكم بين المتخاصمين يسمع دعاواهم، ويتعرف الحق بما يسمع من شهادة الشهود وما يرى من وجوه التثبت، ويقدر ظروف القضية وأحوال المتقاضين كما يفعل سائر القضاة، وأحكامه في هذه الدائرة لا عموم لها في الأشخاص ولا في الأحوال كما يقول علماء الأصول، فليس لها صفة التشريع العام
هذه شخصيات أربع صارت إليه ﷺ أثراً من آثار تلك الهجرة الميمونة.
وإننا لنلمح هذه الشخصيات في جميع ما اثر عنه ودون في الكتب، ومنه ما تظهر الشخصية التي صدر عنها دون أن يخالف فيه أحد، ومنه ما تخفي شخصيته خفاء تتفاوت الأنظار فيه، وتختلف الآراء في تقديره
ولو أننا تتبعنا المروي عن رسول الله ﷺ، وأعطيناه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات ولم نخلط بعضها ببعض، ورتبنا على كل منها آثاره، وأعطيناه حقه، لسهل على المسلمين أن يتفاهموا فيما شجر بينهم من خلاف، ولتصافح المتخالفون، ولما رمي أحد سواه بالكفر أو الزندقة، ولعلم الجميع ما هو شرع دائم لا سبيل لمخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريع خاص، أو مؤقت لهم أن يتصرفوا فيه بما تقضي به المصلحة، وبما توحي فيه الظروف والأحوال
لو فعلنا ذلك لما أبقينا على أسباب هذا الخلاف والتناكر بين أفراد الأمة وطوائفها، ولرجعنا إلى كلمة سواء في العبادات والمعاملات والآداب والنظم الاجتماعية وسائر شئون الحياة، ولانتفع الناس بشرع الله ودينه. ولكنا كما يريدنا الله (خير أمة أخرجت للناس). وفقنا الله جميعاً إلى الرشاد وبصرنا بالحق والصواب
محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
وعضو هيئة كبار العلماء