مجلة الرسالة/العدد 449/الإسلام دين لا دولة
→ في الطريق إلى قرطبة | مجلة الرسالة - العدد 449 الإسلام دين لا دولة [[مؤلف:|]] |
حاجة المدنية إلى دين ← |
بتاريخ: 09 - 02 - 1942 |
للدكتور زكي مبارك
أعترف بأني مقبل على متاعب في تحرير هذا البحث، لأني أكره أن يكون ضرباً من الحديث المعاد، وما تريد (الرسالة) في مثل هذا العدد أن تعيد كلاماً فرغ منه الناس منذ أجيال
وأعترف أيضاً بأني لا أجهل الفرق بين حياة الباحثين لهذا العهد وحياة من سبقهم في سالف العهود، فالمسلمون فيما سلف كانوا يقسمون الجمهور إلى قسمين: قسم العوام وقسم الخواص؛ ولم يكن العاميّ هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، كما نقول اليوم، وإنما كان العاميّ هو الذي لا يترك من مرامي القرآن والحديث ما يستطيع به تعقب أقوال الباحثين بالتعديل والتجريح، ولهذا كان يتفق أن يسير في العصر الواحد آراء تختلف وتقتتل بدون أن يشعر أصحابها بأنهم مهدّدون بسوء القالة بين الناس، إلا أن يكون في آرائهم ما يؤدي الخلفاء أو الملوك أو الوزراء، وهؤلاء أيضاً كان لجبروتهم حدود، لأنهم كانوا في الأغلب من أكابر الرجال، وعلى علم بالزائف والصحيح من الآراء.
أما اليوم، فمن حق من يقرأ ويكتب أن يعد نفسه من الخواص، وأن يتعقب الباحثين في الشئون الدينية كيف شاء، ولو لم يتفق له الاطلاع على كتابٍ واحد من كتب الفقه والحديث
وأقول بعد هذا التمهيد: إني سأفترض قلمي باحثاً يقف من الإسلام موقف الحياد؛ فقد مضى الزمن الذي كان يقال فيه: (اللهم إيماناً كإيمان العجائز)؛ فذلك الإيمان لا ينفع في هذا الجيل ولم يبق له مكان. وأنا أعتقد أن الرجل الذي يكفر بعد اجتهاد الأقوياء، أقرب إلى الله من الرجل الذي يؤمن بعد استسلام الضعفاء. وهل تهون العقول على واهب العقول؟
وإنما يقف قلمي من الإسلام موقف الحياد، لأني أريد أن يقوم هذا البحث على قواعد علمية لا خطابية، فهو موجه إلى قراء اللغة العربية، وفيهم ألوف من غير المسلمين، ومراعاتهم واجبٌ مفروض، ومن الحتم أن يخاطبوا بالعقل قبل الوجدان.
يضاف إلى هذا أن الإسلام كان في جميع أطواره ثورة عقلية، فمن أراد من أبنائه أن يجرده من تلك المزية، فهو عدوٌ يلبس ثوب الصديق.
ثم أوجه الموضوع فأقول: لكل دين من الأديان خصوصيات وعموميات: فالخصوصيات هي اللطائف التي يتعارف عليها أبناء الدين الواحد بعضهم مع بعض، ولا يرضيهم أن تداع لضعفها عن مقاومة النقد العنيف؛ أما العموميات، فهي الأصول التي يجوز نشرها بين جميع الناس، لقدرتها على مواجهة التحامل بشجاعة وكبرياء.
والظاهر أن (الخصوصيات) هي الطور الأول من أطوار التدين، فقد كان التدين في نشأته لوناً من الانحسار عن المجتمع، وهو يوجب الانفراد والانزواء، ومن هنا كانت كلمة (الدين) مرادفة لكلمة (السرّ) عند الأقدمين. ومن هنا أيضاً كانت (العزلة) من ضروب التعبد، لأنها من فنون الاستخفاء. . . ألم تسمعوا أن الصوم عن الكلام كان من العبادات في كثيرٍ من الديانات، مع أن الكلام هو أساس التفاهم بين المتعاملين من الأحياء؟
والنفرة من الزواج عند قدماء المتدينين لها صلة وثيقة بهذا الغرض، وقد أصابت الفطرة الشعبية فيلا مصر حين سمت الزواج (دخول الدنيا)، وإنما كان ذلك لأن الزواج في العرف القديم لم يكن يأتلف مع التأهب للفناء في الدين
ومن هذه النقطة يتشعب حديث اليوم
فالنبي محمد قد اقترن بتسع نساء، قيلت في تعليل هذه الظاهرة أقوال، وأصح تلك الأقوال أنه أراد توكيد الصلات بينه وبين بعض القبائل والشعوب
ولكن يظهر أن من الممكن أن نلتمس تعليلاً غير ذلك التعليل، كأن نفترض أنه أراد أن يقضي قضاء مبرماً على الوهم الذي يقول بأن التدين لا يأتلف مع الزواج، وما كان ذلك (وهماً) من الأوهام، وإنما كان (حقيقةً) من الحقائق في صدور الأحبار والرهبان، وإليهم كان الأمر في مصاير الناس من جهة الدين والأخلاق
ولكن محمداً كان يؤمن بأن من واجبه أن ينقل المفهومية الدينية مع وضع إلى وضع، ولا يتم ذلك بغير ثورة على الترهب، ثورة ماحقة ساحقة تضيف الرهبان إلى طوائف الخصيان، وتصدهم عن الاستهزاء بالمؤمنين المتزوجين، فكان له ما أراد
ومحمد بشهادة خصومه كان من نماذج الفتوة العربية، والفتى العربي يرى الرجال قوامين على النساء، وإذاً، يجب أن يتصل بالدنيا اتصال معاش، ليكون رب البيت بحق وصدق، ولتخضع له نساؤه خضوع العبد الطائع للسيد المطاع، والرزق يذلّ أعناق الرجال، فكيف بقلوب النساء؟!
وماذا كانت صناعة محمد قبل أن يكون نبياً؟
كان تاجراً، والتجارة هي المختبرَ الصادق لأخلاق الرجال، وقد جاز الاختبار بنجاحٍ مرموق.
وماذا كانت صناعة محمد بعد أن صار نبياً؟
أظنه قال: (جُعِل رزقي تحت ظل رمحي)
ومعنى هذا أنه صار فارساً يعيش مما تغلّ الرماح والسيوف، وذلك أكرم أنواع العيش، وما يليق بنبي أن يكون عالة على الأتباع، ولو كانوا من شرفاء الأغنياء.
وإقبال محمد على الزواج صار نبياً مدنياً، وصار مسئولاً عن الاتصال بالمجتمع صلة معاشية، بعد أن اتصل به صلة روحية. ومن المؤكد أن صنيعه هذا قوبل في عصره باندهاش، واستغراب، لأنه كان (بدعة) في عوف رجال الدين، ولأنه كان اعترافاً صريحاً بان (الدنيا) مطلبٌ لا يعيب من يتجه إليه من الأنبياء
والذي يراجع الأصول الأولى من الدين الإسلامي - وهي الأصول التي سبقت التفريع والتشقيق - يروعه أن يرى الإسلام يقتصد في شرح معاملة الإنسان مع الله، ويهوله أن يراه بطنب في شرح المعاملات مع الناس.
فما معنى ذلك؟
معناه أن الإسلام يمزج بين هذين المطلبين، ومعناه أن حسن المعاملة مع الناس هو المظهر الصادق للخوف من الآثام والشبهات، وبدون الصدق في هذه المعاملة لا ينتفع المؤمن بصلاة ولا صيام، والله يتسامح في حقوقه ولكنه لا يتسامح في حقوق الناس.
ومن أعجب العجب أن نرى القرآن ينطق السابقين من الأنبياء بأقوال ينكرها بعض أتباع الأنبياء.
فما تأويل هذا المنطق؟
التأويل سهل، فالقرآن ينزه جميع الأنبياء عن أوهام الأتباع والأشياع، وما تحدث القرآن عن نبيّ إلا عرفنا أن الدعوات الصوادق لا تسلم من التصحيف والتحريف.
وبقليل من التأمل ندرك أن ذلك ليس من الغرائب، فوضوح النصوص الدولية لهذا العهد في المخابرات والمعاهدات لا يمنع من أن تصير من الألغاز عند اشتجار الأغراض، فما ظنكم بنصوص دينية جرت في الأصل مجرى التلميح تجنباً للعدوان والاضطهاد؟
والمقام لا يتسع لغير فرضين اثنين: فرض يجيزه الجدل وهو الظن أن القرآن وحيٌ من عند الله، وفرض يجيزه الجدل وهو الضن بأن القرآن من صنع محمد، وللفرض الثاني فرعٌ سنشير إليه بعد لمحات.
فعلى الفرض الأول يكون القرآن هو الفَيْصَل في تقرير مذاهب الأنبياء، وعلى الفرض الثاني يكون محمدٌ أخضع الأنبياء في أقوالهم وأفعالهم لمذاهبه الذاتية في الوصل بين الدين والمدنية.
وأنا في حيرة بين هذين الفرضين، ولو كنت من خصوم الإسلام لاخترت الفرض الأول واسترحت، فليس من الكثير أن يضاف محمد إلى الأنبياء، ولكن الكثير حقاً أن يصل رجلٌ غير ملهَم إلى الوصل بين العلم والمدنية، وهون غرض كان يجب أن يتنبه إليه كبار الأنبياء. و (البلية) كل البلية أن الناس عجزوا عن تخيل نظام يكون أفضل من نظام الإسلام، وهو النظام الذي يوجب أن يوزع المرء قواه بين ثمرات الأرض وأنوار السماء.
الإنسانية أجمع تحتقر الرجل المنزوي في الكهوف، والإنسانية أجمع تبغض الرجل الذي لا يعرف غير اقتناص الأموال، والإنسانية أجمع قد اتفقت على أن الإنسانية الكامل هو الرجل الذي يأخذ نصيبه من الدنيا مع الاحتفاظ بنصيب في الدين
ومحمد هو صاحب هذا الرأي، وبه (أدعّى) على زعم أصحاب هذا الفرض أنه خاتم الأنبياء. ومن هذا الملحَظ ندرك كيف صار خاتم الأنبياء، فمن العسير أن نتصور نظاماً أفضل من النظام الذي شرعه محمد عن طريق الوحي أو طريق الاجتهاد.
هنالك فرضُ ثالث، وهو أن تكون الضمائر الإنسانية تجمّعت وابتدعت هذه الشخصية المحمدية، لتكوين الرمز الذي يصور مثلها الأعلى في الوجود.
ويمنع من هذا الفرض مانعان حصينان، أحدهما تاريخيّ وثانيهما فلسفيّ.
فمحمد حديث العهد في التواريخ النبوية، ولم يمض من الزمن ما يسمح بجعله شخصية معنوية، كالذي قيل في بعض الأنبياء، أو بعض الحكماء. ألم يشُك قوم في وجود المسيح وسقراط؟ أما الجانب الفلسفي فهو يضايق خصوم الإسلام، لأنه يجعله سريرة وجودية، وعندئذ يكون من الحتم أن يكون أعظم دين عرفه الوجود.
للباحث المنصف أن يدير هذا البحث كيف يشاء، فلن ينتهي إلا إلى ما انتهينا إليه، وهو القول بأن شريعة محمد خير شريعة عرفها المجتمع الإنساني، فهي إذا منحة ربانية تستوجب الحمد والثناء. وهل يصدر مثل هذا الفيض إلا عن صاحب العزة والجبروت، وهو الذي منح (إنسان العين) على صغره قوة تخترق أجواز السماء، بغض النظر عن فضله العظيم في إضاءة العقول والقلوب؟
ثم ماذا؟
نترك إلى الباحثين المنصفين درس هذه المعضلة بنور المنطق والعقل والعدل، وننتقل إلى شرح الاصطلاح المعروف بالتطبيق، فكيف كان الإسلام بعد موت الرسول؟
شرَّق الإسلام وغرَّب، وجرتْ بين أهله أحداثٌ وخطوب، حتى جاز القول بأن فريقاً من المسلمين أخطئوا فهم الغرض من الدين الحنيف
وفي حومة ذلك الخطأ نشهد ظاهرتين بارزتين بعنف وطغيان:
الظاهرة الأولى هي الاهتمام باللغة العربية اهتماماً يتمثل في المؤلفات التي تُعدّ بالألوف، ويتمثل في قول بعض الفقهاء بأن الصلاة بغير اللغة العربية عملٌ مردود
أما الظاهرة الثانية فهي الإقبال المنقطع النظير على درس الجوانب المدنية من التشريع الإسلامي، ويمكن بسهولة أن نقول إن (القانون المدني) لم يشهد في جميع أدوار التاريخ شرّاحاً أعمق من الشراح المسلمين، جزاهم الله خير الجزاء، فهم الحجة الباقية على أصالة العبقرية المدنية في الأمم الإسلامية
وارجع إلى الظاهرة الأولى بشيء من التوضيح فأقول:
كان المسلمون يرون أن لا سلامة للعالم إلا بوجود (لغة دولية) يتفاهم بها أهل المشرق وأهل المغرب، وهل قام في الدنيا نزاع إلا بسبب انعدام التفاهم بين الناس؟
ومازال المسلمون يساومون هذا الغرض حتى تحول إلى عقيدة دينية، فصح عندهم أن (اللغة العربية أحسن اللغات)، وأن الصلاة بغيرها لا تجوز، وأنها ستكون لغة أهل الفردوس. والمسلمون يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن رحمة الله مقصورة عليهم، وأن طمع سواهم في الجنة لا يزيد عن طمع إبليس، وتلك غاية الغايات في الإيمان بأن (الدين عند الله الإسلام)
ذلك التصور اليوم قد يعدّ من ضروب الخيال، ولكنه كان حقيقة عند المسلمين الأولين، وبفضل تلك الحقيقة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من التفوق الملحوظ على أكثر الممالك والشعوب.
والغريب في هذه القضية أن المسلمين الذين آثروا لغتهم بذلك التقديس قد تحرروا في فهم أغراضها تحريراً لا يعرفه أبناء اليوم، فقد كانوا يستبيحون إنشاد أشعار المجون في المساجد وفي أعقاب الصلوات، وكانوا يرون خصومهم في هذه الحرية الأدبية قد (تنسكوا تنسكاً أعجمياً)، ولذلك شواهد يضيق عنها هذا المجال
قد تقول: وما الموجب لهذا التناقض الغريب؟
وأجيب بأنهم أرادوا أن يجعلوا اللغة العربية لغة مدنية لا لغة دينية، واللغات المدنية تتحدث عن جميع الشؤون، ولا تسكت عن شرح العواطف والأحاسيس والأوهام والأضاليل. ألم تروا كيف اتسعت مساجد المسلمين لشرح أشعار النصاري واليهود والصابئين؟
ويتفرع عن هذا ما جاء في التواريخ الإسلامية من أعمال الرجال، فالإسلام كُتلةٌ واحدة، فكما تقول في جِد عمر بن الخطاب: حدثنا فلان عن فلان، تقول في هزل عمر بن أبي ربيعة: حدثنا فلان عن فلان. وهل ثبت في أي ملة أن رجال الدين تحرروا من تقاليد فقالوا في الجمال الذي يطوف بالأماكن المقدسة معشار ما قال الشريف الرضي في قصائده الحجازيات، وكان أمير الحج بتفويض من خليفة المسلمين؟
يجب الاعتراف بأن الإسلام أعطى أبناءه حريات لم تعرفها سائر الديانات، لأنه لم يكن ديناً فحسب، وإنما كان ديناً ومدنية
ويجب الاعتراف بأن التطاول على هذا الدين لا يقع إلا من الأوشاب والمأجورين، فما كان إلا نعمة نورانية جاد بها الله على هذا الوجود
وماذا أقول في شرح الظاهرة الثانية، وهي الاهتمام بما في التشريع الإسلامي من الجوانب المدنية؟
تنقسم كتب الفقه إلى قسمين: قسم العبادات وقسم المعاملات ويلاحظ من يقرأ كتب الفقه أن المؤلفين يترفقون في شرح القسم الأول، ثم ينطلقون كالسهام عند شرح القسم الثاني، وتظهر براعتهم في تشريح دقائق المعاملات
وهنا نكتة تستحق التسجيل. فرجل الدين في الفرنسية يوصف بأنه ومعنى هذا الوصف أنه لا يصلح لفهم أمور المعاش انقطاعه عن صحبة الناس
فكيف أمكن لرجال الدين من المسلمين أن يكونوا أئمة في شرح القوانين المدنية؟
يرجع ذلك إلى روح الدين الإسلامي، وهو دين يدعو جميع أبنائه إلى الاندماج في المجتمع، ويقهرهم قهراً على الأخذ من منافع الدنيا بنصيب، ليعرفوا الدقائق من شؤون الناس وهم قضاة الناس. وهل يصلح القاضي للفصل في نزاع لا يحس له شبيهاً في حياته المعاشية؟
كان يقال إن أحق الناس بالإمامة في الصلاة وفي القضاء هو المتزوج، ويرجح زوج المرأة الجميلة، لأنه أقرب إلى التعفف، بفضل ما يملك من الجمال الحلال
وأقول إنما قدَّم زوج المرأة الجميلة لأنه يعاني من المتاعب أضعاف ما يعاني سواه. فهو أعرف بشؤون المجتمع، وأقدر على فهم شؤون المعاش
وأقول أيضاً إن تنقل الفقيه منم أرض إلى أرض كان يزيد في قيمة التشريعية. فالشافعي له مذهب جديد ومذهب قديم بسبب تنقله بين مصر والعراق.
وأقول كذلك إن الرحلة كانت شرطاً في التفوق العلمي عند الأسلاف لفضلها الظاهر في الاطلاع على دقائق العادات والتقاليد
والقول الفصل أن رجل الدين عند المسلمين لم يكن من رجال القوانين المدنية إلا لأنه كان يساير المجتمع ويراوحه ويغاديه بلا انحسار ولا انقباض
وهل أستطيع القول بأن في الدين الإسلامي أقطاباً كانوا من كبار الأغنياء، ومن المتصرفين في المتجرات والمزروعات؟
إن الصوفية أنفسهم وهم الغاية في الزهد لم يملكوا الفرار من المجتمع؛ فقد كانوا مسئولين أدبياً عن تدبير المعاش للمريدين أليس من العجب أن نقرر أن أصدق ما كتب في آداب التجارة والزراعة والصناعة هو ما صدر عن أقلام الصوفية؟
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟ ثم أمضي إلى آخر الشوط فأقول:
أحب المسلمون دنياهم فأقبلوا عليها بنهم وشراهة، فماذا جنوا من ذلك الحب؟
كان امتحاناً قاسياً عنيفاً إلى أبعد حدود القسوة والعنف. فقد عرفوا به أن لا بقاء للحياة بدون أخلاق، فكيف كان نصيبهم من شرح دقائق الأخلاق.
لا أزعم أني قرأت جميع ما كتب عن الأخلاق في جميع الديانات، وإنما أقرر أني اطلعت على مجلدات كثيرة في الأخلاق المنسوبة إلى رجال الدين من غير المسلمين، فما وجدت لها حرارة تشبه النار الموقدة في الكتب الإسلامية، فما سبب ذلك؟
المصلح المسلم تكتوي يده بنار المجتمع في كل يوم، فهو يسكب دم قلبه على القرطاس، وهو يتحدث عن واقع لا عن خيال، فهو يقول رأيت وغيره يقول سمعت، أما أبعد الفرق بين الرؤية والسماع!
الأخلاق في الكتب الإسلامية منقولة عن تجارب شخصية لا روايات خيالية، وما خط مسلم حرفاً في الأخلاق إلا وهو يتمثل مشاهد حية من بغي الناس بعضهم على بعض بلا رحمة ولا إشفاق
معاملة المسلم مع الله تنحصر في هذه الكلمة الوجيزة
(أّعبدِ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
أما معاملة المسلم مع الناس فلها ألوف وألوف من الدقائق والتفاصيل.
فهل كان ذلك إلا لأن الإسلام أول دين عُنِيَ عنايةً صريحة بالشؤون المدنية؟
قد يقال: وكيف جاز أن يسف المسلمون بعد التحليق؟
وأجيب بأن المسلمين لم يسفّوا إلا بعد أن فُتنوا وزُلزلوا وتوهموا أن المدينة ليست من شؤون الدين
أليس مما يعيب الرجل المسلم في هذا العصر أن تكون له مطامح سياسية واقتصادية؟
اخلعوا النير عن أعناقكم يا مسلمي هذا الزمان، ويا عرب الزمان؟
لقد فَضَحنا (أشراف) مصر حين طالبوا بحقهم في التحرير من الجندية
وفَضَحنا (عربان) مصر حين طالبوا بامتيازهم في التخلص من الجندية
فماذا يريد أولئك وهؤلاء؟ محمد هو أول نبي وآخر نبي حمل السيف
ومحمد هو أول نبي وآخر نبي عرف قيمة الإرادة الذاتية فقضي بأن واجب المرء أن يخاطب ربه بلا وسيط
ومحمد أول نبي وآخر نبي كَرِه لأتباعه القرار والاطمئنان (البحر وراءكم، والعدو أمامكم) فأيان تذهبون؟
غيّروا ما بأنفسكم، يا مسلمي هذا الجيل، ويا عرب هذا الجيل
واحترسوا ثم احترسوا من أن يكون لمخلوق فوقكم سلطان
أنت الأعلون، وإن كنتم مضطهدين، ولن تمر أعوام قبل أن تأخذوا مكانكم فوق هامة الوجود الصحيح
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
زكي مبارك