مجلة الرسالة/العدد 448/صحة الفقير وثروة الغني
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 448 صحة الفقير وثروة الغني [[مؤلف:|]] |
أعدى الأعداء! ← |
بتاريخ: 02 - 02 - 1942 |
في هذه الأيام العِجاف يكثر الكلام في الغنى والفقر. والكلام في الغنى والفقر وما يتصل بهما يوشك أن يكون الوظيفة الطبيعية للسان الإنسان؛ ففي الرخاء يكون تعبيراً عن سخط مكظوم، وفي الشدة يكون تبريراً لسخط منفجر. فإذا وجدت في الفقراء من لا يسخط على الأغنياء فثق أنه من أتباع الفلسفة التي تؤمن بمبدأ التعويض في قانون الطبيعة وتقول: (إذا لم يكن للفقراء الأرض فلهم السماء، وإذا لم يُرزقوا المال فقد رُزقوا الصحة؛ والآخرة خير وأبقى من الدنيا، والعافية أعلى وأغلى من الثروة)
من هؤلاء الذين جعلوا القناعة فلسفة رجل من القُرَّاء المنكَري الصوت لا يملك في أكثر أوقاته غير قوت يومه، ولكنه مع ذلك موفور الحظ من السلامة؛ لا يتسخط ولايتبرم، ولا يجد في جسمه ما يشكوه، ولا في نفسه ما يرجوه، ولا في غده ما يخافه. رآني بالأمس جالساً في مكان ضاحٍ من القهوة أنقع في أشعة الشمس الفاترة جسديّ المقرور وعليَّ من ثياب الشتاء لفائف فوق لفائف، فأقبل إليَّ يطفر طفور الظبي بين المناضد المصفوفة وليس على جسمه غير غلالة بيضاء من التيل، وعباءة سوداء من الصوف قد رفع ذيلها إلى عاتقه؛ ثم جلس متهلل الوجه متماسك البدن مكتنز اللحم رفاف البشرة يكاد إهابه من فرط الرِّي وسورة المرح ينشق. فلما تكلم وجدته على ما عهدته من فراغ البال وسلامة الصدر وقلة المبالاة فلم أتمالك أن بدهته بهذا السؤال: أفِي هذه السن وفي هذه الأيام لا أرى للخبز المخلوط أثراً على وجهك، ولا أسمع للمجاعة المتوقعة ذكراً على لسانك؟
قال الشيخ منصور بلهجة الخِليِّ وضحكته: والله يا سيدي ما أكلت الخبز نقياً من قبل حتى أشكو خلطه اليوم. ومن تعود أن يأكل الخبز مخلوطاً بالحصى والتراب، لا يصعب عليه أن يأكله مخلوطاً بالذرة والرز. أما المجاعة التي يتوقعها الناس فلا تختلف عما أنا فيه. وإذا جاز لي أن أشكو، شكوت إلى الله طغيان الصحة؛ فإن للصحة الطاغية تكاليف أقلها النهَم والقَرَم وتحلب الريق وسُعار الجوف وسرعة الهضم. وتحقيق الشبع الدائم للشهوة الدائمة لا يمكن إلا بخزائن عاشور ومخازن عمرو. إني أسأم الصحة كما يسأم غيري المرض. وفي ساعة من ساعات الشرَه يقوم في نفسي أن الله قد منح الفقراء الصحة ليزيد ألمهم من الحرمان؛ ولكنني حين أُسكن أطيط أمعائي بفطيرة من الذرة وطبق من المش ورأس من البصل وحزمة من السريس، ينمحي ما صوره الخيال في ذهني من أطيب الآكال وأعذب الأشربة؛ ثم تنتشر على بدني حرارة العافية فأرى الجمال في كل منظر، والنعيم في كل شيء، واللذة في كل عمل؛ وأُدرك بمشاعري السليمة القوية ما انبثَّ في عالم الحس من كل متاع؛ ويخيل إليَّ من فرط الشعور وفيض السرور أن الهواء الذي أنشقه هو مددٌ من الروح الخالق يبعث في جسمي النشاط وفي نفسي الغبطة.
أؤكد لك يا سيدي أن الغنيّ يجوع مثل جوعي، ولكنه لا يسبع مثل شبعي. أنا إن أصبت شِبْع بطني بأي لون من ألوان الطعام بدا عليَّ من دلائل الراحة والسعادة ما وصفته لك. أما الغني فإنه إذا جرؤ على معدته المترفة بالشبع قضى وقت هضمه العِسر الطويل وهو فاقد الشعور بالدنيا لشدة ما يلقي من حزَّة الحموضة وثقل الطعام وضيق النفس وضربات القلب. وهو في الكثير الغالب ممعود أو مفؤود أو مكبود أو ممروْر أو مصاب بالملح أو بالسكر، فلا بد له من الجرعات المختلفة التي تنيم الألم أو تكافح الداء أو تؤخر الخطر. وقد ينتهي به الأمر في الزمن القريب أو البعيد إلى الإمساك عن الطعام إلا ما يمسك الرمق.
كان لي عند الباشا ثمن أربعين مقطفاً ضفرتها لدائرته، فلما جئته اقتضيه الثمن أكبره وأنكره وتهدم عليَّ بالكلام العنيف وقال محتجاً لسبابه واغتصابه: (إن ضفر الخوص عمل العاجز، وإن رجلاً في مثل صحتك وقوتك لا يجدر بيديه غير الفأس والكُريك) فقلت له في مثل هذا الهدوء الذي أحدثك به: (يا باشا إن نصيحتك إياي على نفاستها وقداستها لا تبرر أكلك لحقي. ومن اليسير عليَّ أن أنزل لك عن هذه القروش ثم لا أنقص شيئاً؛ ولكنك قد تزيد شيئاً؛ وكلما زاد مالك ساء حالك. إنك قد بلغت أرذل الغنى، ثم انحدرت إلى أسفل الفقر؛ فأنا وأنت يا باشا سواء: أنا فقير لأني مصابٌ في جيبي، وأنت فقير لأنك مصاب في معدتك؛ فأنا أشتهي ولا أجد، وأنت تجد ولا تشتهي؛ ولكن حرماني مؤقت وحرمانك مؤبد، ونقصي يسده الرضا ونقصك يزيده السخط، وجيبي المفتوق يرتقه الرَّفاء بقرش، ومعدتك البالية لا يجددها الطبيب بمليون)
وكنت لا أزال أرسل الكلام على هِينَة وحذر مخافة أن ينفجر في وجهي على عادته مع الناس؛ ولكن المعجزة التي ظهرت على يده أو على يدي - لا أدري - هي أن الرجل استرخى وتليَّن وبدا على وجهه الأبكم سمات التفكير لأول مرة. ثم قال في لهجة لا تزال فيها بقية حائلة من الشموخ: (ليتك تدلني على ما فتل عضلك وشد عصبك ودفق فيك هذا الدم الفوار الحار النقي، فليس ذلك من عمل طاهٍ ولا طبيب). فقلت له في شيء من الشماتة: ذلك يا باشا تعويض الفقر من الغني، وهو صنع الله ولا حيلة في صنعه. أما الطاهي فهو الذي يقدم للغني خيوط الكفن وهو ينسجه بأضراسه؛ وأما الطبيب فلا يعرفه من لا يشبع. ولقد قال أبو جعفر المنصور لأعرابي: (أما عندكم في البادية طبيب؟) فقال (يا أمير المؤمنين، حًمُر الوحش لا تحتاج إلى بيطار). والشبه بين حالنا وحال البدو في الخضوع لقانون الطبيعة واضح. . .
قطعت الحديث على الشيخ منصور بهذا السؤال: أتكره أن تكون في مكانه وهو في مكانك؟ فأجاب الخبيث: لا أقبل ثروة قارون إذا لم أحتفظ بمعدة منصور، ولا أرفض وزارة المالية إذا أسندوا إليّ معها وزارة الصحة!
أحمد حسن الزيات
في بناء الجيل الجديد