مجلة الرسالة/العدد 448/الفرق السياسية في الإسلام
→ أدب الطف | مجلة الرسالة - العدد 448 الفرق السياسية في الإسلام [[مؤلف:|]] |
في مسرحيات محمود تيمور ← |
بتاريخ: 02 - 02 - 1942 |
للدكتور رينولد نيكلسون
بقلم الأستاذ حسن حبشي
كانت مناهضة الأحزاب السياسية والفرق الدينية للبيت الأمويّ اللغمَ الذي أخذ يقوّض دعائمه شيئاً فشيئاً، حتى أنهار ولم تقم له قائمة بعد ذلك. وسنسوق بعض التفاصيل عن الأفكار التي أدّت إلى تطاحن هذه الطوائف، وعن العوامل التي دعتها إلى السخط على النظام القائم، ثم نُثّني ببضع كلمات قلائل عن الفرق الدينية وعقائدها كالمعتزلة والمرجئة والصوفية، ثم التكلم عن أدبهم الذائع الذي كان جُلُّه شعراً، وعن حملة لوائه البارزين.
كانت وجهة معارضي الأمويين سياسيةً بادئ ذي بدء، إذ كان معنى تولي معاوية الحكم انتصار الشام على العراق، ومن ثم أصبحت دمشق عاصمة الدولة، وحلت محل الكوفة، وقد لاحظ (فلهوزن): (أن أشد الصيحات خطراً على بني أمية كانت منبعثة من العراق، فلم تكن صيحة حزب خاص بذاته، ولكنها صدى صوت جميع العرب المقيمين هناك، والذين اتفقوا جميعاً على استنكار ضياع استقلالهم وعلى كراهية أولئك الذين آل إليهم الأمر). وفي هذا الوقت نفسه اصطبغت هذه المشاعر بروح دينية، واتخذت من الدين عوناً لها، وسقط النظام الجديد مذموماً موسوماً بسمة الشرك، وبناءً على مبلغ تقدير المسلمين لمعنى الواجب، كان لزاماً على كل رجل حرّ عاقل أن يعمل على إزالة أسباب ذلك المنكر، ومن بين الأحزاب العديدة التي نهضت بأعباء هذا الأمر، يمكننا أن نتبين أربع جماعات وحّد بينها غرض مشترك، وتعاونت في سبيل تنفيذ فكرتها، تلك هي:
(ا) المسلمون عامة المتمسكون بالدين، الذي كان يتألف منهم أهل السنة.
(ب) الخوارج ويمكن تسميتهم (بالمتطهرين) وهم شديدو التطرف في نزعتهم الدينية.
(ج) الشيعة أو أنصار عليّ وآل بيته.
(د) الموالي: وهم المسلمون من غير العرب.
ومن الجليّ الواضح أن الفريق الأول (الذي كان دعاته وأنصاره الفقهاء وحفظة القرآن وصحابة الرسول وتابعيهم)، كان هذا الفريق كارهاً للحكومة التي أرغم على طاعتها والخضوع لسلطانها. أما الاعتقاد بأن القوة التي كان يمثلها الطغاة ومؤيدهم قد وطأت الح كما جاء به القرآن والسنة، فقد جعل الكثيرين يقحمون أنفسهم في غمار ثورة هائلة؛ ويقال: إن خمسة آلاف قد لقوا مصرعهم في حادثة تخريب المدينة، كما عزف آخرون عن الدنيا أمثال الحسن البصري، وسلكوا سبيل الزهد بعد أن يئسوا من الإصلاح، وقد كان لهذا الاتجاه عواقب خطيرة الشأن كما سنرى.
لما رضي عليّ بعد (صِفّين) بالتحكيم فيما شجر بينه وبين معاوية من خلاف حول مشكلة الخلافة لأمه الكثيرون من جنده ورموه بخيانة العهد، إذ كان - كما يعدّونه - الخليفة المنتخب عن جدارة واستحقاق، فكان لزاماً عليه أن يستمسك بمنصبه السامي ويضحي من أجله بكل ثمين، وفي طريق العودة إلى أمصارهم أنسلخ الساخطون ويقدّر عددهم باثني عشر ألف رجل، وعسكروا في بلدة تدعى (حردراء) على مقربة من الكوفة وصاحوا جميعاً: (لا حكم إلا الله)، وبذلك أظهروا اعتراضهم على التحكيم بتلك العبارة ولم يجيزوه. وحاول عليّ - دون جدوى - أن يستميلهم إلى جانبه، فأبوا عليه ذلك، وانتخبوا خليفة من بينهم، واجتمع في (النهروان) أربعة آلاف من صناديدهم المغاوير ثائرين عليه، فلما أشرف عليهم على وسط جموع جيشه اللجب تفرّق أكثرهم خوف لقائه. أما الباقون، فقد ثبتوا في أماكنهم، وآثروا الموت في سبيل الذّب عن إيمانهم ومعتقداتهم، وأصبحت مكانة (النهروان) عند الخوارج بمنزلة (كربلاء) عند الشيعة الذين اعتبروهم منذ ذلك اليوم أعداءً لهم. وقد ظلت ثورات الخوارج قائمة طوال صدر دولة بني أمية، إلا أن الحركة بلغت أقصى شدّتها وعنفها في سنوات الاضطراب التي حدثت عقب موت يزيد، فانتشر (الأزارقة) في العراق وفي جنوبي فارس، على حين استطاعت شعبة أخرى - وهي النجدية - التسلط على جزء كبير من بلاد العرب وإخضاعها لنفوذها. ولقد ظلّ العُصاة زمناً طويلاً مقيمين على مناهضتهم ومقاومتهم لعبد الملك، ولم يقلعوا على التمرد، حتى قام الحجاج سنة سبع وتسعين وستمائة، فأخمد ثورتهم التي كانت تحت رئاسة زعيمهم شبيب.
ويقال إن كلمة (خارجي) ترجع إلى آية في القرآن جاء فيها (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسَعَةً، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقعَ أجرُهُ على الله وكان الله غفوراً رحيماً) وعلى ذلك فالمقصود من كلمة (خارجي) ذلك الذي يهجر مُقامه بين الكفار ابتغاء مرضاة الله، وكذلك تتصل بلفظ (مهاجر) الذي أطلق على المؤمنين من أهل مكة الذين صحبوا الرسول في هجرته إلى المدينة.
وهناك لقب آخر يُكْنَوْن به، وهو مُستمد من القرآن في أصله إلا وهو (الشراة) أي الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لقاء الجنة كما جاء في قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقْتُلون ويُقْتَلون وعْداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوْفى بِعَهده من الله فاستبشروا بِبَيْعِكُم به الذي بايَعْتمُ وذلك هو الفوز العظيم)، وأغلب الخوارج من الجند البدو الذين استقروا في الكوفة والبصرة عقب الحروب الفارسية. ولم تستطع الحياة المدنية أن تغّير كثيراً من طبعهم الشموس وخًلقهم الجاف، فلم يروا في قريش من الفضائل ما يجعلها تذهب بالأمانة وحدها، بل أرادوا اختيار رئيس من بين ظهرانيهم تجري في عروقه الدماء التي تجري في عروقهم ويطيعونه - كما جرى سنّة البدو - ما دام قائماً خير قيام بأعباء ما عهد إليه به. ومع ذلك فقد كان الدافع الرئيسي للحركة دافعاً دينياً، ويمكن ردّه - كما أشار فلهوزن إلى القراء الذين ذهبوا إلى تهويل شأن المسألة الخاصة بإلزام علي بالتفكير عن خطيئته الكبرى التي دفعه إلى إتيانها موقفهم المحزن الذي وقفوه حينذاك. وإنهم ليناهضون علياً لنفس السبب الذي دعاهم للوقوف ضد عثمان، ففي كلا الموقفين كانوا يتعلَّلون بالرجوع إلى أمر اله للقيام في وجه الخليفة الجائر. وإنه لمن المهم عند التعرض لذكر مبادئ الخوارج الرئيسية عدم إغفال هذين الرأيين التاليين وهما
ا - جواز الخلافة لكل عربيّ حر
ب - عزل كل خليفة لا يحسن القيام بأعباء سلطته أو قتله إذا حتمت الضرورة ذلك
وقد كتب المستورد بن علّيفة الخارجي قائد المؤمنين إلى سمّاك بن عُبَيْد وكان في المدينة العتيقة رسالة جاء فيها: (أما بعد فقد نقمنا على قومنا الجور في الأحكام وتعطيل الحدود والاستئثار بالقيء، وإنا ندعوك إلى كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه ﷺ وولاية أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما والبراءة من عثمان وعلي لإحداثهما في الدين وتركهما حكم الكتاب) ومن هذا يتضح لنا أن دعوة الخوارج كانت تتلخص في التمسك بما نادى به الإسلام من المساواة والإخاء الذي لم يعد يُعمل به بل تلاشى تماماً. أما من الناحية النظرية فنرى أن جميع المسلمين المتمسكين بدينهم قد اتفقت رغبتهم على إعادته إلى نصابه، وعلى إدانة الحكومة القائمة، ولم يكونوا دون الخوارج في هذه الناحية وفي مَقْتِ تلك الدولة مقتاً شديداً تأصّل في حنايا النفوس؛ أما الفارق الذي كان يميِّز أفراد الحزب الأخير عن سواهم فهو صرامتهم الشديدة ودقتهم في تنفيذ مبادئهم ونشرها. وكان من آرائهم الجوهرية أنه يجب على الإمام أو زعيم المجتمع أن يحكم باسم الله وبمقتضى كتابه، وأنّ من سار على غير هذا الدرب فقد باع نصيبه في الحياة الأخرى، وأن النجاة الأبدية وقف على اختيار خليفة النبيّ. وكانوا يعدُّون المسلمين الذين يأبون سبّ عليّ وعثمان كفاراً مارقين، كما كانوا يرون من الضروري على كل مؤمن صادق الإيمان أن يساهم في (الجهاد المقدس) ضد هؤلاء وأمثالهم، وأن يقتلهم ويقتل زوجاتهم وأطفالهم أنّى ثقفتهم.
ولقد ارتدت هذه المبادئ الفظة على العصاة الذين سرعان ما وجدوا أنفسهم مهدّدين بخطر الانقراض، ومن ثم أخذت الآراء المعتدلة تنتشر بينهم فأحلَّ الأباضيون (أتباع عبد الله بن أباض) عيشهم بين المسلمين والاختلاط بهم في حدود التساهل المشترك بين الطرفين، ولم يكن التساهل في الواقع مناقضاً لما يريده الخوارج من إقامة مملكة الله على الأرض، ولكن حطّم منطقهم العنيد، كل دستور يوضع؛ فهم يقولون - كما لاحظ عليّ - (لا إمارة ولكن لابد من إمارة برة أو فاجرة) ومع ذلك فقد كانوا يحاربون بإيمان ثابت وعقيدة خالصة في سبيل مرميً شريف، ولم تكن لهم غاية دنيوية يسعون من اجلها على نقيض الأحزاب السياسية الأخرى.
تكلم الشهرستاني عن الإثني عشر ألفاً الأوائل الذين ثاروا ضد عليّ فوصفهم بقوله (إنهم أهل صيام وصلاة). وكان القرآن حكَمَهم في حياتهم والمهيمن على خواطرهم، حتى أن تاريخ اعتقادهم الأول، وتاريخ المضطهدين والشهداء والمؤمنين. . . كل ذلك غدا مأساة حقيقية واقعة كانوا هم أنفسهم أبطالها الذين قاموا بتمثيلها، كما أن خوفهم من الجحيم أثار فيهم حماسة صادقة وغيرة على إحقاق العدل، كما امتحنوا اعتقادهم الشخصي في دقة وخبروا إيمان جيرانهم. وويل للذين كانوا يجدونه ضعيف الإيمان، فهناك خطوة واحدة تقرب المخطئ من الإسلام، وعلى الرغم من أنه يمكن التجاوز عن الزلة وغفرانها بالتوبة الصادقة إلا أنهم كانوا يُسلكون أيّ مسلم ارتكب إحدى الكبائر ولو مرة واحدة في زمرة الكفّار المخلدين في النار، أو كان ذلك على الأقل في نظر الخوارج المؤمنين.
حسن حبشي
ظاهرات نفسية