الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 447/رأي في تنقيح الأحاديث

مجلة الرسالة/العدد 447/رأي في تنقيح الأحاديث

مجلة الرسالة - العدد 447
رأي في تنقيح الأحاديث
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 01 - 1942


للأستاذ محمود أبو رية

استبشرنا خيراً حينما أهاب بالعلماء الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت ليدعوهم إلى العناية بكتابهم فيعملوا على تخليص تفسيره مما شابه من الإسرائيليات التي شوهت جماله وأذهبت نوره، وقلنا لعل هذا العمل الطيب يكون مقدمة لأن يجعل شيوخ الأزهر هذا الكتاب الكريم إمامهم في أخذ العقائد والعبادات والأحكام منه ويسيروا بنوره في هذه الحياة حتى يكونوا هداة بحق، ومن ثم يتبين لأهل الأرض جميعاً أن هذا الدين خير الأديان وأنه صالح لكل زمان ومكان. ومنذ أيام كنت أتحدث مع الأستاذ الكبير صاحب الرسالة في هذا الأمر الذي دعا إليه الأستاذ شلتوت وكان مما قلته له، أن تخليص تفسير القرآن من الإسرائيليات يجب أن يسبقه أو يكون معه تطهير الأحاديث التي هي (السنن القولية) مما أنبث فيها من الموضوعات، إذ ما أصيب الإسلام بشيء أشد وأنكى مما أصيب به في ناحية هذه الأحاديث الموضوعة. وما كانت الإسرائيليات التي تدسست إلى التفسير إلا جزءا منها؛ ذلك بأن أعداء الإسلام وأصحاب الأهواء لما رأوا أنه لا يمكنهم أن يضربوا المسلمين من قبل كتابهم لأنه جاءهم من طريق التواتر، ونسخة منتشرة بين أرجاء الأرض، وكثير من المسلمين يحفظونه عن ظهور قلوبهم فلا يستطيعون بذلك أن يزيدوا فيه حرفاً أو يبدلوا منه كلمة، عمدوا إلى الحدث عن الرسول صلوات الله عليه فلعبت فيه أيديهم ونالوا به مآربهم، وغر المسلمين الأولين أن أولئك الذين يبطنون الكفر والحقد يرتدون لباس الإسلام ويعملون بأحكامه، فقبلوا منهم ما روَوا وصدقوهم فيما حدثوا. وناهيك بما فعل كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما. ولقد كان للمسلمين مما وضعه أولئك الأعداء في الأحاديث مشكلات كثيرة في الدين والحس والعلم لم نخلص منها حتى اليوم. فإذا أردنا الإصلاح حقاً كان علينا أن نبدأ بالحديث فننخل كتبه ولا نُبِقي فيها غير الصحيح مما يخالف متواتر النقل وصريح العقل وما أثبته العلم وما شهد به الحسن؛ وإننا إن نفعل ذلك لا نكون قد خرجنا عن قواعد رجال الحديث أنفسهم فقد قالوا: إن من جملة دلائل الوضع أن يكون مخالفاً للعقل بحيث لا يقبل التأويل، ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة أو يكون منافياً لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواثرة أو الإجماع القطعي.

وقالوا: ليس كل ما صح سنده يكون متنه صحيحاً، ولا كل ما لم يصح سنده يكون متنه غير صحيح.

وكذلك قالوا: (ولا يلزم في إجماع الأمة على العمل بما فيهما (البخاري ومسلم) إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي ﷺ)؛ ومتى تم لنا ذلك واستقام كان تخليص التفسير في الإسرائيليات وغيرها سهلاً يسيراً؛ أما إذا وقف بنا الأمر عند تفسير كتاب الله تعالى، وتركنا كتب السنة تحمل ما تحمل، فإن عملنا يكون ناقصاً، ويظل المسلمون على ما هم فيه من الاختلاف بين الفرق والتعصب بين المذاهب، ذلك بأن الأحاديث - كما لا يخفي - هي مرجع كل الطوائف ومأخذ كل المذاهب.

هذا ما حدثت به الأستاذ الزيات، فكان من جوابه أن جماعة كبار العلماء قد تداركت هذا الأمر، وإنك ستجد ما قرروه في العدد القادم من (الرسالة). ولما طلع علينا هذا العدد 446 وقرأت فيه قرار الجماعة، عجبت من أنهم لم يلتفتوا إلى أمر السنة إلا لرغبة أتتهم من غيرهم، كان هذا الأمر العظيم ليس له خطر عندهم. على أني رأيت أن أعلق بكلمة صغيرة على قرار الجماعة في أمر السنة ووضع كتاب فيها، وأرجو أن تنال هذه الكلمة منهم الرضا والقبول.

تقول الجماعة: إنها ستضع مؤلفاً يجمع الأحاديث التي (تصلح للاحتجاج والتي لا تصلح من بيان درجاتها)، وكلمة (تصلح للاحتجاج) مطلقة المعنى، فكما تصلح الحجة القوية للاحتجاج، فإن الحجة الضعيفة تصلح كذلك!

فإذا أخذنا بهذه لقاعدة، ظل باب الضعيف مفتوحاً للاحتجاج به، ورجعنا إلى قول بعض الأئمة، في أن الضعيف يقوي بتعدد طرقه، وكأننا لم نضع شيئاً. ونحن بما نرجو في تنخل السنة، إنما نريد إخراج كل ضعيف مهما تعددت طرقه، لأن الضعيف ضعيف ولو تعددت أسانيده، وإذا كانوا قد قالوا في الصحيح: إنه يعطى الظن فتُرى ماذا يعطى الضعيف؟!

على أن هذا الإطلاق يجعل المسلم في حيرة من أمره، إذ لا يعرف ما هي الأحاديث التي يحتج بها في أصول الدين، ولا ما هي التي يحتج بها في فروعه. فالواجب أن يكون وضع كتاب السنة على غير هذه الطريقة. وإني أعرف هنا طريقة في تنقيح كتب الأحاديث، وهي لإمام السنة في هذا العصر المرحوم السيد محمد رشيد رضا، وقد كان هو يريد أن يعمل بها، ولكن المنيَّة حالت بينه وبين ما كان يريد.

ذك أني كنت حدثته قبل موته بنحو عامين في أن يخدم السنة بتنقيح كتبها؛ فكان جوابه لي رحمه الله أنه لم يأسف على شيء فاته في الحياة أسفه لعدم قيامه بهذا الواجب، وتمنى لو أطال الله عمره لينهض به. وبعد شهور كتبت إليه أذكره بهذا العمل وأسأله عن الطريقة التي تنفع في هذا التنقيح إذا تهيأت أسبابه. فكتب إليّ رضي الله عنه جواباً كأنه كان يخاطب به كل من يريد أن يعالج هذا العمل، وإننا ننقلها إليهم ونرجو أن ينتفعوا بها في عملهم، قال:

(. . . إن على المسلين أن ينقحوا كتب السنة ويبينوا للناس صفوة السنة التي بين بها الرسول ﷺ كتاب الله وأمر أصحابه بتبليغها للناس، ففعل خلفاؤه وسائر علمائهم ذلك وقاموا به خير قيام على حين لم يكن معهم كتاب مخطوط غير كتاب الله، ويبينوا لهم ما هو قطعي الدلالة والرواية لا عذر لأحد في جهله ولا في تركه، وما هو موكول إلى اجتهاد الأفراد، وما هو خاص باجتهاد الأئمة (الخلفاء والأمراء والقضاة). الخ)

هذه هي الطريقة الحكيمة التي أرشد إليها هذا الإمام الكبير وهي جديرة بأن تنال مكاناً محترماً بين جماعة كبار العلماء، فإن لم يأخذوا بها فلا أقل من أن يسترشدوا بما جاء فيها.

هذا ما رأينا أن نعلق به على قرار جماعة كبار العلماء، ونرجو لكي يخرج هذا العمل الجليل كاملاً أن تولاه أخصّاء من كبار المحدثين الفقهاء، أمثال المحدث الفقيه الشيخ أحمد شاكر.

وإن أمل المسلمين جميعاً لكبير في أن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر سيمد جماعة كبار العلماء بروح منه حتى تنهض بقوة لأداء ما قررته من تفسير كتاب الله تفسيراً صحيحاً وتنقيح سنة الرسول صلوات الله عليه؛ لأن هذا العمل ولا ريب هو أجل عمل تقوم به هذه الجماعة في هذا العصر لتنفع المسلمين بين مشارق الأرض ومغاربها في دينهم ودنياهم.

(المنصورة)

محمود أبو ريه