مجلة الرسالة/العدد 447/القصص
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 447 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 26 - 01 - 1942 |
العقاقير المخدرة
عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
نهضت (رودا فارمنجتون) عن المعقد الذي كانت جالسة عليه بقرب النافذة وأطلت فرأت العربة المقبلة هي عربة أبيها الدكتور فارمنجتون فتنهدت وقالت: إن مجيئه يمنع الشك وإن المعرفة بأمر مهما يكن نوعه أفضل من فترة الشك. وقد كانت منذ الظهيرة جالسة هذه الجلسة تترقب عودته لتتعرف الخبر، وهي بين حين وحين تطل من النافذة؛ وهاهي الساعة الآن قد تجاوزت الرابعة وسئمت الفتاة الانتظار. وفتحت الباب ودخل الدكتور فقالت بلهجة فيها رنة العتاب: (ماذا!)
وإنما كان عتابها لأن أباها أمرها بالبقاء هنا. وقد كانت واجبات الصداقة تقضي عليها بأن تذهب إلى المريضة (جيسي شاننج)
وفرك الطبيب كفيه الباردتين وقاد ابنته إلى الغرفة وهو يقول: (تعالي يا رودا فإن الجو بارد في هذه الردهة). فتبعته وهي تقول: (هل حالة المريضة أسوأ)
قال الطبيب: (نعم أسوأ جداً)
فقالت: (هل تعني أنها. . .)
قال الطبيب مقاطعاً: (إن جيسي قد ماتت)
ثم نزع الطبيب معطفه بصورة إليه وعلقه على المشجب واتجه إلى الموقد فأدفأ كفيه. وكان الطبيب قليل الكلام وظن أن حديثه مع ابنته قد انتهى بسؤالها وجوابه. ولكن الفتاة ظلت واقفة واجمة كأنها تنتظر المزيد. وبينما هي كذلك إذ دخلت نانسي خادمة المنزل وهي امرأة في منتصف العمر، وأوقدت المصباح ونظرت إلى الدكتور ثم إلى ابنته وقالت: (أرجو أن تكون صحة جيسي ساننج قد تحسنت)
فقال الطبيب: (كلا ولكنها ماتت)
وجمت الخادمة أيضاً وكأنها لم تصدق أذنيها ثم أشارت بيديها إشارة تدل على اليأس وقالت: (مسكين جوردون. . . إن هذا الخبر سيقتله لأنه لا يستطيع أن يعيش بدونها.
فبدت على وجه رودا ابتسامة هزيلة عند خروج الخادمة من الغرفة، ثم ارتمت على المعقد الذي كانت جالسة عليه قرب النافذة وأسندت رأسها إلى ذراعها وقالت بصوت خافت ولهجة بطيئة: (وددت لو أنني كنت مثل نانسي فأستطيع أن أصيح مظهرة العطف نحو جوردون. . . كم كان بودي أن أثير ضجة لأظهر أحزاني).
فقلب الدكتور قطعة من الورق كانت أمامه على المنضدة وقال: (ولماذا تودين ذلك؟).
فقال: (لأنني مثلك لا أستطيع أن أظهر عواطفي)
بدت الرقة على عيني الدكتور، وإن كان صوته لا يزال دالاً على الخشونة، وقال بلهجة حاسمة: (يجب ألا يكون تأثرك كثيراً بسبب موت جيسي، وإنني لهذا السبب منعتك عن الذهاب إليها، وإنني أعرف مبلغ إعزازك إياها كصديقة ولكنك لم تفهميها فإن هناك أشياء لا يفهمها كل إنسان.
فقالت: (إن جوردون يفهمها)
فقال الدكتور: (نعم إن جوردون يفهم، ولكنني أكرر أن موت جيسي يجب ألا يؤثر في حياتك).
فقالت رودا: (إنك تستطيع أن تدرك يا أبي أن هذا القول لا يؤدي إلى نتجية، فإنني في الواقع لا أحزن على الميتة فقد استراحت، بل على الحي، فتصور مقدار انزعاجه).
قال الدكتور بلهجة استغراب: (نعم إن انزعاجه شديد بلا شك ولكن. . .). ثم اشتغل بتقليب الأوراق التي على المنضدة كأنه بذلك يريد الانتهاء من هذا الموضوع.
وبعد فترة قليلة عادت رودا إلى الكلام بلهجة عتاب فقالت: في بعض الأحيان يا أبي أتصور أنك قاس. ولعل ذلك لأنك رأيت كثيراً من مظاهر البؤس حتى ألفتها.
فتهجم وجه الأب أمام هذا الاتهام وقال: أنت مخطئة يا رودا فإن رؤية البؤس لا تجعل القلب قاسياً ولكنها لا تزيد من حزنه، قالت رودا: إذن فلا بد أن تكون حزيناً على جوردون فتصور كيف كان حبهما. لقد كان كاملاً فوق مجال النقد. إنه لم يتركها ولم يكن أحد أوفى لزوجته منه.
فقال الدكتور: نعم لقد كان معها دائماً، ولكن عهد تمريضه لها قد انتهى بعد استمرار سبعة أعوام.
قال رودا: عهد تمريضه! إنها في الواقع لم تكن مريضة لولا النوبات الخفيفة التي جعلته بساطتُها يمرضها بنفسه بدل أن يستحضر لها ممرضة
وقد كانت رودا تقول ذلك وهي تتذكر أن جيسي كانت تتغدى معها منذ يومين فقط. وكانت صحتها إذ ذاك أحسن من صحة رودا نفسها، وكان لون خديها وردياً، وكانت تضحك وتمزج كأحسن ما يكون والإنسان في حالة الطرب. والآن وقد ماتت جيسي فإن رودا تعود بالذكرى إلى يوم منذ سبعة أعوام كانت فيه هي واسطة التعارف بين جيسي وبين جوردون في نفسي هذا المنزل.
بعد أن تخرجت جيسي من المدرسة جاءت لتزور صديقتها رودا. وكانت رودا هي أجمل الفتاتين ولكنها غير متعلمة على النقيض من جيسي، وذلك استولت الأخيرة على قلب جوردون الذي كان إلى هذا العهد من المعجبين بها والذي يمتاز عن سائر هؤلاء المعجبين بأنه يجمع بين الذكاء وبين المهارة والجمال والغنى.
وقد نزلت رودا عن حبيبها إلى صديقتها وكانت سخية في ذلك، ولكنها لم تخل من الألم ولم تستطع كف الدموع ولم تستطع منع الغيرة. وهي مع ذلك ظلت تكتم الأمر عن الجميع فلم يفطن إلى حقيقته أحد حتى ولا جيسي ولا جوردون.
وفي الآونة الحاضرة استعادت رودا في ذاكرتها كل حوادث الأعوام السبعة الماضية حتى التافه منها. وكان أخص هذه الذكريات وأهمها ذكرى مرض جيسي ذلك المرض الذي أظهر تفاني جوردون في حبها إلى الحد الذي صار فيه كل الزوجات في المدينة يعيرن أزواجهن لأنهم لا يحتذون هذا المثل العالي من الإخلاص.
ومضت سبعة أعوام وماتت جيسي وانتهى كل شيء، وبعد العشاء لبست رودا ثيابها ومشت وهي ترتعش في برد الليل إلى بيت شاننج، وكان الليل مظلماً فرأت في الطريق شبحاً وعرفته ولكنه لم يعرفها فنادته: جوردون إلى أين تذهب؟ فمد يده إليها وارتعش جسمها عندما لمست يده فصافحها مصافحة ود، وأخذت تبحث في ذهنها عن كلمة تعزيه بها فلم يسعفها الخاطر وأخيراً قالت: إلى أين تذهب يا جوردون؟
وقد أربكها أنه لا يسير في اتجاه المنزل وأنه يمشي بخطى سريعة إلى النهر وقد بدت على وجهه علائم عزم خطير، وقال: إلى أين أذهب؟ بالطبع يا رودا إلى. . . ثم تابع السير ولكن إلى المنزل.
وبعد جنازة جيسي سافر جوردون ولكن إلى الخارج، وظل متنقلاً من بلد إلى بلد، ولكنه في أشهر الصيف يعود إلى المدينة التي دفنت فيها زوجته.
وكان يرجع (عليَّ غير انتظار من رودا لذلك الرجوع) لأنها كانت تعد دخوله إليَّ منزل زوجته بعد دفنها يشابه شق القبر على ميت، وذلك لما ينطوي عليه المنزل من الذكريات.
وكانت رودا تقدر تمام التقدير حالة جوردون وأنه لم ينس قط زوجته ولم يرد أن ينساها، وإنما هو يعالج نفسه كي يستطع الحياة بالسفر ليرى مناظر جديدة ووجوهاً جديدة، ولما تقابل معها لأول مرة بعد عودته قال: لقد بدت عليك علائم الكبرياء يا رودا ولكنك لم تزيدي إلا جمالاً وقد كنت ولا تزالين أجمل من رأيت.
وقد أدهشت رودا هذه الصراحة في مخاطبتها فترجعت كما يتراجع من ينتظر أن تصيبه صفعة، ونقصت منزلة جوردون عندها في هذه الليلة لأول مرة منذ عرفته. وفي تلك الليلة طلب إليها جوردون في وسط جمع من الأصدقاء أن تتزوج منه وقال: لقد كنت علي الدوام أحبك وحدك وإن لم أتبين ذلك في بعض العهود، وكان طبيعياً أن يكون حبنا كذلك. وكان هذا الاعتراف مخجلاً في نظر رودا فتلقته في ألم صامت ولم تجد من الألفاظ ما يعبر عن شعورها، وكان خجلها لأنها هي نفسها كانت تريد الزواج منه، وأدركت أنها غير وفية لصديقتها وأن جوردون غير وفي لزوجته وأن المسكينة الجديرة منها بالوفاء هي المضطجعة في القبر والمنسية من الجميع.
ولما فرغ جوردون من تصريحه قامت رودا على الفور ودخلت مكتب أبيها ولكنها لم تجده فيه. وكان أبوها يحب جوردون يحترمه. وكانت رودا تعتقد أن حبه واحترامه لجوردون سيزولان إذا أخبرته بما سمعته منه في هذه الليلة من الإنكار لحبه السالف لزوجته.
وترددت رودا في كيفية رفضها لما طلبه جوردون. فهل تخبره بأنها ترفض لمجرد كونها لا تحبه؟ إنها إن فعلت ذلك فلا تكون إلا كاذبة، فإنها كانت لا تقف في حبها إياه عند حد.
ورأت رودا أنها إن تغلبت على الجانب النبيل من عواطفها جانب الوفاء، فإن معيشتها مع جوردون ستكون منغصة بسبب غيرتها من زوجته الأولى، لأنه لن يستطيع أن يواجه إليها من العطف ما كان يوجهه إلى جيسي. وانقضت تلك الليلة ولم تخبر رودا أباها بشيء. وفي اليوم التالي أجابت جورودون على طلبه بقولها: (. . . ولكن لم يمض على موت جيسي عام واحد، ولها السبب كان من المستحيل أن أتزوج منك)؛ وكانت هذه أول مرة سمع فيها جوردون اسم زوجته المتوفاة؛ واستمرت رودا تقول: (إن ذكراها ستقف على الدوام حائلاً بيني وبينك؛ وإني لأعجب منك كيف نسيتها بهذه السرعة، حتى تريد الآن إحلال أخرى محلها؟ وهمَّ جوردون بأن يتكلم، ولكنها أشارت إليه بالصمت وهي تقول: كلا لن أتزوج منك. فإن هذا مزعج جداً. لقد كنت أحبك إلى حد العبادة يا جوردون، وإنما كان سبب هذا الحب شدة إخلاصك لجيسي؛ ولكنك لم تدم على الوفاء، فأثبت لي أن حبك لم يكن مثلاُ عالياً. قال جوردون: ولكن هل من الممكن يا رودا؟ إن المثل الأعلى في الحب وهم لا يصدقه إلا المجانين والأطفال. إنني آسف لعدم قبولك الزواج مني، وقد كنت أحسب التفاهم بيننا أحسن مما أراه؛ ولقد كنت مخطئاً، وسأعود في الصباح ولن أراك. . . وداعاً!. . . وذهب جوردون وظلت رودا في مكانها تبكي.
ولما رفعت يديها عن عينيها وجدت أباها جالساً بجانبها في حديقة منزل جوردون. ومن الغريب أن الدكتور الذي امتنع خمساً وعشرين سنة عن الزواج حزناً على زوجته، لا يريد أن يفهم رأي ابنته في الزواج. ويقف في صف جوردون ضدها وسألها: لماذا رفضته؟ فدهشت رودا من سؤاله إياها هذا السؤال الذي يدل على علمه بما كتمته عنه فقال: لقد سمعته وهو يطلب يدك. لم تشأ رودا أن تطيل مناقشته فقالت: هل نسيت جيسي يا أبي؟
فضرب الطبيب الأرض بقدمه وقال: يكفي أن يعيش الإنسان في الجحيم سبعة أعوام. ولك أن تنتظري بقية العام إن كنت تريدين المحافظة على مدة الحداد. فقالت رودا: يظهر أن لديك سراً تكتمه عني، فماذا تعنيه بقولك إنه عاش في الجحيم سبعة أعوام؟ إنك تعلم أن الحب كان متبادلاً بينهما. قال الدكتور: إنني أعلم ذلك جيداً ولكن الذي سأخبرك به سيزعجك فاستعدي له. إن جيسي كانت تكتم سرها كل الكتمان، وكذلك كان يفعل جوردون. وقد كان جوردون يظن أنك تعرفين السر مني. ولكني لم أخبرك به. فقالت رودا وقد نفد صبرها: ولكن ما هو هذا السر؟ قال: (إن سر حب جوردون لزوجته ذلك الحب الذي يصلح أن يكون مثلاُ أعلى كما تقولين، إنه في الواقع لم يكن حباً، ولكنه شفقة مع الكراهية.
وقد بقي الأمر مكتوماً طول السنوات السبع، وكان يكتم سرها عن الناس بملازمته إياها)
- أي سر هذا؟
- إنها كانت معتادة تعاطي العقاقير المخدرة ولا تستطيع تركها فسكتت رودا وكانت لحظة شديدة شعرت فيها بالذل لضلالها عن حقيقة هذه الظروف طوال السنوات السبع الماضية. . . وعاد الدكتور إلى الكلام فقال: وإن وفاء جوردون
- وأنت تتهمينه بعدم الوفاء - هو الذي جعله يكتم هذا السر حتى في اللحظة التي لو أفشاه فيها لنال سعادته التي يرجوها.
وعاد الصمت مرة أخرى. وكان القمح يسبح في سماء صافية الأديم وجو من الأجواء التي تستثير صبوة العشاق. فقالت رودا بعد قليل لأبيها: (يا أبي اذهب واطلب إلى جوردون أن يعود)
عبد اللطيف النشار ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط© ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط© ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط© ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط© ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©