مجلة الرسالة/العدد 446/المصريون المحدثون
→ مع الشمس الغاربة | مجلة الرسالة - العدد 446 المصريون المحدثون [[مؤلف:|]] |
بنى وطني. . . ← |
بتاريخ: 19 - 01 - 1942 |
22 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - عادتهم
لا يصعب على من اختلط بمجتمع الرجال المسلمين في القاهرة - كما قد يتصور الأجنبي - أن ينال من غير زواج أدق المعلومات الكثيرة عن شئون النساء وعاداتهن؛ فأغلب رجال الطبقة الوسطى المتزوجين والقليل من الطبقة العليا يتحدثون طوعاً عن مسائل الحريم إلى من يصرح لهم باستحسانه آراءهم في الأخلاق.
ولا تعتبر الزوجة - على العموم - معتقلة في الحريم، لأنها تكاد تكون مطلقة الإرادة في الخروج، وزيارة الصديقات، واستقبال الضيفات؛ ولا جرم أنه ليس للجواري هذا الاختيار، إذ هن سواء خضعن للزوجة كما يخضعن للسيد، أو للسيد فقط، تحت سلطة لا حد لها تقريباً. ومن أهم ما يرمى إليه رب الدار بتخصيص حريم منفصل أن يتلاقى رؤية الخدم وغيرهم من الرجال لنسائه دون نقاب كما ينص الدين. وتبين الآية التالية أنه يجب على المسلمة أن تخفى عن الرجال، خلا بعض الأقارب وغيرهم، ما يلفتهم إلى شخصها أو زينتها: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. . .)؛ ويشير النص الأخير إلى عادة رن (الخلخال) الذي يستعمله نساء العرب في عهد الرسول ﷺ ولا يزال المصريات يتحلين به.
ويجب عليَّ أن أذكر هنا تعليقين فاضلين مدرجين في ترجمة سيل للقرآن توضيحاً للآية السابقة، حتى لا تؤديا إلى فهم العادات المتأخرة الخاصة بدخول الحريم أو عدمه فهما خطأ.
والتعليق الأول خاص بكلمة (أو نسائهن) وقد شرحت كما يلي: (أي المسلمات، ويرى البعض أن سفور المؤمنة أمام الكافرة مخالف للشرع أو للحشمة على الأقل، إذ لن تعف الكافرة عن وصفها للرجال. ويفترض الآخرون أن هذا الاستثناء يشمل النساء جميعهن على العموم، وتختلف آراء العلماء في هذا الموضوع). ولا يعتبر الآن - في مصر وفي كل بلد إسلامي آخر على ما أعتقد - دخول امرأة من أي طبقة أو من أي دين حريم المسلم أمراً مخالفاً.
ويتعلق الشرح الآخر بجملة (ما ملكت أيمانهن): (يشمل هذا الاستثناء جميع الأرقاء من الجنسين، وكما يرى البعض الخدم غير الأرقاء مثل هؤلاء المنتمين إلى شعب آخر. ويروى عن الرسول ﷺ أنه أهدى مرة إلى ابنته فاطمة عبداً، وعندما أحضره أمامها لم تكن متدثرة بثوب ضاف، فكان لابد أن تترك رأسها أو قدمها مكشوفاً؛ فقال لها الرسول ﷺ حينما لحظ ارتباكها: أن لا تهتم، لأنها ليست في حضرة أحد غير أبيها وعبدها). وقد يكون الحال كذلك اليوم عند عرب الصحراء، ولكن لم يبلغني قط أنه يسمح للعبد البالغ في مصر أن يرى حريم رجل فاضل سواء كان العبد في خدمة الحريم أو لا. وقد أكد لي أنه لا يسمح بذلك أبداً. وقد يكون سبب منح القرآن عبد المرأة هذا الامتياز استحالة الزواج به ما دام عبداً لها؛ ولكن ليس هذا موجباً لمنحه حق الدخول إلى الحريم في مثل هذا المتجمع. ومما يستحق الاعتبار أن الآية السابقة لم تمنح الأعمام حق رؤية بنات الأخ أو الأخت مكشوفات الوجه. ويرى البعض أنهم ليسوا أهلاً لذلك خشية أن يصفوهن إلى أبنائهم، ولا يليق بالرجل أن يصف سحنة امرأة أو شخصها، (كأن يقول أن لها عينين نجلاوين وأنفاً مستقيماً وفماً صغيراً الخ) إلى من تحرم عليه رؤيتها. ولا عيب في وصف المرأة وصفاً عاماً مثل قولك: (إنها فتاة لطيفة مكحلة بالكحل ومخضبة بالحناء)
ولا يسمح للرجل عامة أن يرى غير زوجاته وجواريه ومن حرمن عليه لقرابة أو رضاعة بدون نقاب. وقد أشرت في الفصل الأول إلى قدم عهد النقاب، كما ذكرنا أيضاً أن المصريات يعتبرن تغطية أعلى الرأس ومؤخره ألزم من تغطية الوجه، وحجب الوجه أهم من حجب أغلب أجزاء الجسم الأخرى. فالمرأة التي لا يمكن حملها على كشف وجهها أمام رجل قد لا تخجل من الكشف عن صدرها أو ساقها. وهناك حقيقة كثيرات من الطبقة السفلى يظهرن دائماً سافرات أمام العامة، ولكنهن مدفوعات إلى ذلك لفقرهن ولصعوبة إحكام الطرحة - التي يندر أن تتجرد منها امرأة - فوق الرأس لتحل محل البرقع؛ وخاصة إذا شغلت كلتا اليدين في تثبيت ما يحملن من الأثقال. وتسرع المرأة الجليلة عندما يصادفها رجل
- مكشوفة الوجه أو الرأس - بلبس الطرحة أو أحكام وضعها؛ وكثيراً ما تصيح: (يا دهوتي! أو يا ندامتي!). ولكن كثيراً ما يدفع الدلال المرأة المصرية إلى كشف وجهها أمام الرجل متظاهرة أنها فعلت ذلك عفواً أو ظنت أنها لا تراه. وقد ينعم الرجل أيضاً برؤية وجه سيدة مصرية أحياناً - بينما هي تعتقد حقاً أنها بعيدة عن الأنظار - من شباك مفتوح أو فوق سطح. ويوجد في القاهرة منازل صغيرة ليس لها غرف سفلى لاستقبال الضيوف من الرجال فيصعد هؤلاء إلى الدور الأعلى صائحين مراراً: (دستور! يا ساتر!)، أو ما شابه ذلك لينبهوا من يصادفون من النساء في الطريق لينسحبن أو يحتجبن، فتسحب المرأة فضلة من طرحتها أمام وجهها إلا عيناً واحدة. ويصل شعور المسلمين بحرمة النساء إلى درجة غريبة، حتى أنه يحرم على الرجال دخول قبور بعض النساء؛ فلا يسمح مثلاً لغير النساء بزيارة زوجات الرسول ﷺ وغيرهن من أسرته في مدافن المدينة. ولا يدفن الرجل والمرأة في قبر واحد أبداً إلا إذا فصل بين الجثتين حائط. ويوجد مع ذلك من لا يهتم كثيراً بهذا الأمر وإن قل عددهم. ولي صديق مسلم من هؤلاء يسمح لي على العموم أن أرى أمه عندما أذهب لزيارته. وأمه أرملة في الخمسين من عمرها تقريباً، ولكن ضخامة بدنها ودلالة سيماها على عدم الكبر يجعلانها في سن الأربعين. وتقبل عادة إلى باب غرفة الحريم حيث أُستقبل لخلو المنزل من غرف سفلى للاستقبال، وتجلس هناك على الأرض، ولكنها لا تدخل الغرفة أبداً. وقد تكشف أحياناً وجهها تماماً كما لو كان الأمر عرضياً، فتبدو عيناها وقد أحاط بها الكحل الكثير، كما أنها لا تحاول أن تخفي حليها الماسية والزمردية وغيرها، بل على العكس من ذلك تحاول إبرازها. ولم يسمح لي صديقي برؤية زوجته أبداً مع أنه أذن لي بمحادثتها مرة في حضوره خلف زاوية في ممر أعلى السلم.
وأعتقد أن نساء مصر لا يضيق عليهن بالشدة المشاهدة في البلاد الأخرى الخاضعة للباب العالي؛ ولذلك ليس من غير المعتاد أن ترى نساء الأوشاب يتدللن ويمزحن مع الرجال علناً، والرجال يضعون أيديهم عليهن دون حرج. وقد يُظَن أن نساء الطبقتين العليا والوسطى يشعرن بالجور والتعاسة في عزلتهن، ولكن ليس هذا هو الحال عادة، بل على العكس نلاحظ أن الزوجة المصرية التي تتعلق بزوجها قد تظن، إذا أطلق لها زوجها الحرية أنه يهملها ولا يحبها كثيراً، وتحسد أولئك اللاتي يخضعن للرقابة الدقيقة.
وليس من المألوف أن يتزوج المصري بأكثر من امرأة، أو يتسرى بأكثر من جارية، مع أن الشرع يبيح له أربع زوجات كما أشرت قبلاً؛ والتسري، طبقاً للرأي الغالب، حسب رغبته. إلا أن الرجل وإن اقتصر على زوجة واحدة يمكنه أن يبدل كيفما شاء. ويقيناً ليس هناك كثيرون في القاهرة لم يطلقوا امرأة إذا طال أمد الزواج. ويستطيع الزوج أن يطلق زوجه وقتما يريد بقوله: (أنت طالقة). فإذا استقرت إرادته على ذلك عن صواب أو عن غير صواب، وجب على المرأة أن تعود إلى أهلها أو صديقاتها. وتعرض المرأة لطلاق لا تستحقه مصدر لأحزان وقلق اشد مما تتعرض له من أي اضطراب آخر. وقد تصبح لذلك في حالة عوز شديد. وهذا التعرض يبدو طبعاً على العكس تماماً لأولئك اللاتي يأملن تحسين حالتهن. ويستطيع الرجل أن يطلق زوجه مرة أو مرتين ويردها إليه في كل مرة من غير حفل. ولكنه لا يستطيع أن يردها شرعاً في المرة الثالثة قبل أن تتزوج رجلاً آخر وتطلق منه، وهذا بعينه نتيجة الطلاق ثلاثاُ المعبر عنه في جملة واحدة: (أنت طالقة بالثلاثة). ولكن قد يتفق الرجل والمرأة على مخالفة الشرع، أو ينكر الرجل أنه أوقع يمين الطلاق. وتجد المرأة في الحالة الأخيرة صعوبة كبيرة في تنفيذ الطلاق قانوناً إذا أرادت ذلك.
وأذكر لتوضيح هذا الموضوع قضية أدخل فيها أحد معارفي شاهداً على يمين الطلاق. فقد كان جالساً في مقهى مع رجلين آخرين كان أحدهما قد غضب على امرأته لشي قالته أو فعلته. وأرسل هذا بعد حديث قصير في هذا الأمر يدعو زوجه التي أوقع عليها يمين الطلاق ثلاثاً وأشهد زميليه على ذلك. ولكنه سرعان ما ندم على فعله وأراد أن يعيد مطلقته، فرفضت العودة إليه ولجأت إلى (شرع الله) فقدمت القضية إلى المحكمة وقررت المدعية أن المدعي عليه أوقع الطلاق ثلاثاً ويريد الآن ردها إليه لتعيش معه كزوجة على خلاف الشرع. وأنكر المدعي عليه الطلاق؛ فسأل القاضي المدعية: (هل لديك شهود) فأجابته (عندي شاهدان)، وكانا هما الرجلين اللذين شاهدا الحادث في المقهى. فقررا أن المدعي عليه طلق امرأته ثلاثاً في حضرتهما. فأكد المدعي عليه أن التي طلقها في المقهى كانت امرأة أخرى، ولكن المدعية نفت وجود زوجة أخرى. فلفت القاضي نظرها إلى استحالة معرفتها ذلك، وسأل الشاهدين عن اسم المرأة التي طلقها الرجل أثناء وجودهما، فأجابا أنهما يجهلان اسمها. فطلب منهما أن يقسما إذا استطاعا أن المدعية هي المرأة المطلقة أمامهما. فأجابا أنهما لا يستطيعان ذلك لأنهما لم يريا المرأة سافرة أبداً. فرأى القاضي إزاء ذلك أن يرفض الدعوى. وأجبرت المرأة على العودة إلى منزل زوجها. كانت تستطيع أن تطلب حضور المرأة التي اعترف الرجل بتطليقها في المقهى، ولكن كان من السهل أن يحضر امرأة تقوم بالدور المطلوب ما دام لا يطلب منها وثيقة الزواج. وفي مصر يعقد الزواج دائماً من غير كتابة، ومن غير شهادة أحياناً.
عدلي طاهر نور