مجلة الرسالة/العدد 446/المدينة الضائعة
→ الإنسان الكامل | مجلة الرسالة - العدد 446 المدينة الضائعة [[مؤلف:|]] |
إخوان الصفاء ← |
بتاريخ: 19 - 01 - 1942 |
للأستاذ صلاح الدين المنجد
تهت الليلة في مخارم الجبال مع (جوكليه) سعياً وراء المدينة الضائعة. إن هذا الكاتب ليهزني؛ فهو وصاف للعادات مرة، قصاص مغالٍ أخرى، متفلسف هزاء على نحو فولتير تارة، مؤرخ يمزج التاريخ بالأدب أحياناً. . . وهاأنذا أغامر معه الليلة في روايته الأخيرة؛ فأرشف العذوبة، وأهيم مع الخيال، وأسمع نداء الحكمة والحياة.
لا بأس على القراء أن يتيهوا معي، فالرواية طريفة والقصاص بارع. هاهو ذا (جوكليه) في جزيرة (لوسون) من الفيليبين يلتقي بفتى يتدفق حماسة وقوة، يريد أن يفتش عن كنز عظيم تركه ملاح صيني كبير، في مدينة ضاعت بين الجبال، في شرق الجزيرة منذ أربعة قرون. وكان نداء المجهول، وحلاوة المغامرة، يدفعان الفتى إلى البحث عن الكنز، فأثر في رفيقه القصاص وساقه معه.
وكان يصحبهما رفيق ثالث شاذ الطبائع، غامض العواطف، أسمه (دون انطونيو) عرفوه في الفندق. وكان هذا يود الهرب من المدينة الزائفة لأسباب غامضات.
وهام الثلاثة في طريقهم، وقد صحبوا دليلين قويين، وبضعة بغال. . . ثم تغلغلوا في قلب غابات المتوحشين. وكان يصادفهم أخطار ترعب، ومصاعب لا تحد: لذع من الشمس، وخبل من الهواء، وغرق في الماء، ونهس من الذباب، وتيهان في المستنقعات؛ فضلاً عن شهق الجبال وعمق الأودية، واشتباك الغابات، ووفرة الشباك المنصوبة على حفافي الطرقات.
وفاجأتهم قبائل النكريتو بسهامها في إحدى الغابات، ففروا بعد جهد وعذاب. ومضت القافلة الصغيرة تماشي الهضاب، وتصعد في الجبال، وتفتش عن (لمدينة الضائعة) في كل مكان. فاستيقظوا ذات يوم، بعد أن قذفهم واد عظيم، وإذا بهم يرون من شواهق الذرى، في حضن جبل، على حافة بحيرة راكدة: مزارع أرز واسعة، وآثار بناء شامخ، تقوم عند أقدامه مساكن صينية حقيرة. فخفوا نحوها، فاستقبلوهم بصمت وحذر وجفاء، وأدخلوهم باباً في ذلك البناء. . . فعلموا أنهم أضحوا سجناء في مدينة واسعة، قامت في قلب الجبل، لا يدركون من أمرها شيئاً. . .
وساقوهم إلى شيخ صيني نبيل، فأعلمهم بعد جهد، أنهم في المدينة التي شادها (ليموجونك) الملاح الصيني العظيم.
(لقد قضى الوقت الطويل في البحث عن أعوانه. كان يرد أعواناً لا تبش وجوههم لبريق المال الذي يحيط بهم، ومكاناً لا تصل إليه الأقدام، فاختار هذا الجبل مقاماً له عندما يقفل من قرصنته في البحار. وعاش مع أصحابه حياة هادئة غامضة لا يستطيع مؤرخ أن يكتب شيئاً عنها؛ ثم أخضع القبائل التي كانت تعيش في الغابات المجاورة والجبال، وجعلهم عبيداً له طول الحياة. . .!
(ولم يفكر قط واحد منهم، لا واحد منا، أن يعود إلى البلاد المتمدنة التي يضطرب فيها كل شيء. . . فإذا ومضت هذه الفكرة في رأس أحدنا علمنا أنه مريض. . .
(ولقد وضعنا في طريق ذل العالم المتمدن عقبات كثارا لتعجز كل قوة أنسية عن اجتيازها. . . نعم، أيها السادة، تلك قصة الملاح العظيم، وإني لآسف أن أراكم بيننا، وإن سعادة هذا الشعب الهادئ الذي يعيش هنا توجب على سجنكم عندي لئلا تغروهم بالعودة إلى دنيا المصائب والبلايا. . .!)
وسجن الأصحاب الثلاثة، ولكنهم تحسسوا الأخبار، وعلموا أن ذلك الملاح الشقي، أودع كنوزه إحدى جزر المحيط قبل أن يموت. . . ففروا من سجنهم بعد أن رأوا الموت مرات، وفقدوا أحد الأدلاء. على أن الفتى (ميجيل) ما كان في هذه المرة يبتغي نوال المال، فلقد أراد أن يسعى وراء حياة هادئة، ليس فيها شيء من (الوكر) ولا (السيست) وغيرها. . .
هاهم أولاء يتيهون في البحار، ينتقلون من جزيرة إلى جزيرة دون أن يعثروا على التي سمعوا وصفها، فقرروا أن يعودوا من حيت أتوا. . . ولكن عاصفة مجنونة حملتهم على جزيرة بعيدة: كلها أعشاب خضر، وبرارٍ محروثات. . . وإذا هم بين أناس من الصين علموا أنهم أحفاد الملاح الكبير. . . وأدركوا أن تلك الأراضي كنوز الملاح. . . فعاشوا بسذاجة وانطلاق. . .
وخطر على بال القصاص أن يعود مع الفتى، فعادا. . . أما (دون أنطونيو)، فقد آثر البقاء هناك، وقال:
(لن أستطيع العيش في المدن. إن فيها جدرانا كثيرة تخنق المرء. . . كل يوم فيها اصطدام واضطراب وظلم. . . إن فيها قيوداً كثيرة. إنها سجون مظلمة. . . وسيبحث عني أولئك الذين عرفتهم فلا يجدوني، وسيحسبون أني مجرم آوتني السجون. . . ليقولوا ما شاءوا. . . فأنا أعيش مع المتوحشين، ولكني حر طليق. . . لا يقيدني قيد، ولا يخيفني مخلوق. . . نعم، وسيعلمون بعد حين أن عدد الهاربين من المدن ومن المدينة ومن الترف إلى الطبيعة سيزداد وينمو. . .!)
وعاد الصديقان وحدهما، وقد علما أنه لابد لهما من العودة يوماً ليستجيبا لنداء المجهول، وليعيشا في الأرض التي لا تعرف الشقاء، أرض الأعشاب والمرجان. . .) أ. هـ
أين أنت أيتها الأرض البعيدة التي ستضمينني؟
أيها المجهول الذي يناديني، ادفعني إلى تلك الأرض الهادئة لأستريح من لؤم الإنسان. . .!
ادفعني. . . لأحيا. . .!
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
في الفلسفة الإسلامية