مجلة الرسالة/العدد 446/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 446 القصص [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 19 - 01 - 1942 |
بدلة الأسير
للأستاذ نجيب محفوظ
كان (جحشة) بائع السجائر أول السابقين إلى محطة الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار وكان يعد المحطة بحق سوقه النافقة، فيمضى على الإقريز في نشاط منقطع النظير يتصيد الزبائن بعينيه الصغيرتين الخبيرتين. ولعل (جحشة) لو سئل عن مهنته للعنها شر لعنة. لأنه كغالبية الناس برم بحياته، ساخط على حظه. ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأعيان، فيرتدي لباس الأفندية، ويأكل من طعام ألبك، ويرافقه إلى الأماكن المختارة في الصيف والشتاء، مؤثراً من أعمال الكفاح في سبيل القوت ما هو أدنى إلى التسلية والملهاة. على أنه كانت له أسبابه الخاصة ودواعيه الخفية لإيثار هذا العمل وتمنيه من يوم أن رأى الغر - سائق أحد الأعيان - يتعرض للفتاة نبوية خادم المأمور في الطريق ويغازلها بجسارة وثقة، بل سمعه مرة يقول لها وهو يفرك يديه حبوراً: (سآتي قريباً ومعي الخاتم) ورأى الفتاة تبتسم في دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها، والحقيقة أنها أرادت أن تبدي عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت. . . رأى ذلك فالتهب قلبه وأحس الغيرة تنهشه نهشاً موجعاً. وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض. وكان يتبعها عن كثب ويقطع عليها السبيل في الذهاب والإياب، حتى إذا حلا بها في عطفة أعاد على أذنيها ما قاله لها الغر: (سآتي قريباً ومعي الخاتم)، ولكنها لوت عنه رأسها وقطبت جبينها وقالت له باحتقار: (هات لك قبقاب أحسن). فنظر إلى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفي جمل، وجلبابه القدر، وطاقيته المعفرة وقال: (هذا سبب شقائي وأفول نجمي). ونفس على (الغر) عمله وتمناه. . . على أن آماله لم تقطعه عن مهنته، فثابر على كده قانعاُ من آماله بالأحلام. وقصد في ذلك الأصيل إلى محطة الزقازيق يحمل صندوقه وينتظر القطار القادم.
ونظر إلى الأفق فرأى القطار قادماً من بعد كأنه سحابة دخان، وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزاءه ويتصاعد ضجيجه حتى وقف على أفريز المحطة. . . وهرع (جحشة) إلى العربات المتراصة، فرأى - لدهشته - على الأبواب حراساً مسلحين، ووجوهاً غريبة تط من النوافذ بأعين ذاهلة منكسرة. وتساءل الخلق: فقيل لهم بأن هؤلاء أسرى الإيطاليين الذين تساقطوا بين أيدي عدوهم بغير حساب. وإنهم يساقون الآن إلى المعتقلات.
فوقف (جحشة) متحيراً يقلب عينيه في الوجوه المغبرة؛ ثم أدركته الكآبة لأنه أيقن أن تلك الوجوه المغبرة؛ ثم أدركته الكآبة لأنه أيقن أن تلك الوجوه الشاحبة الغارقة في البؤس والفقر لن يكون في وسعها إشباع نهمها من سجائره. . . ووجدهم يلتهمون صندوقه بشراهة وجوع فألقى عليهم نظرة سخط واحتقار وهمّ أن يوليهم ظهره ويعود من حيث أتى. ولكنه سمع صوتاً يصيح به العربية بلهجة إفرنجية قائلاً (سجائر) فحدجه بنظرة دهشة وريبة ثم فرك سبابته بإبهامه: أي تقود. ففهم الجندي وأومأ له برأسه فاقترب محاذراً ووقف على بعد لا تبلغه يد الجندي. فخلع الجندي جاكتته بهدوء وقال له وهو يلوح بها: (هذه نقودي) فتعجب جحشة وتفرس في الجاكتة الرمادية ذات الأزرار الصفراء بين الدهشة والطمع. ووجب قلبه، ولكنه لم يكن ساذجاً أو مغفلاً، فأخفى ما قام بنفسه أن يقع فريسة جشع الإيطالي، وأبرز في هدوء ظاهري علبة سجائر، ومد يده ليأخذ الجاكتة. فقطب الجندي جبينه وصاح به (علبة واحدة بجاكتة؟. . . هات عشرا) فذعر جحشة وتراجع إلى الوراء، وقد غاض طعمه، وأوشك أن يأخذ في غير السبيل. فصاح به الجندي (أعطني عدداً مناسباً. . . تسعاُ. . . أو ثمانيا) فهز الشاب رأسه بعناد. فقال الجندي: (إذاً سبعا. . .) ولكنه هز رأسه كما فعل في الأولى، وتظاهر بأنه يعتزم المسير فقنع الجندي بست ثم هبط إلى خمس. فلوح جحشة بيده متظاهراُ باليأس، وتراجع إلى المقعد وجلس، فصاح به الجند المجنون: (تعال. . . رضيت بأربع. . .) فلم يلق إليه بالاً؛ وليدله على عدم اكتراثه أشعل سيجارة ومضى يدخن في تلذذ وهدوء. فثارت ثائرة الجندي وأهاجه الغضب، وبدا وكان ليس له غاية في الوجود سوى الاستيلاء على سجائر، فهبط بطلبه إلى ثلاث ثم إلى اثنتين. ولبث جحشة جالساً يغالب اضطرام عواطفه وأوجاع طعمه ولما نزل الجندي إلى اثنتين أبدى حركة بغير حركة إرادة رآها الجندي. فقال له وهو يمد بالجاكتة: (هات) فلم ير بداً من النهوض ودنا من القطار حتى أخذ الجاكتة، وأعطى الجندي العلبتين. وتفرس الجاكتة بعين جذلة راضية، وقد لاحت على شفتيه ابتسامة ظفر. ووضع الصندوق على المقعد وارتدى الجاكتة، وزرها. فبدت فضفاضة ولكنه لم يعن بذلك وتاه عجباً وسروراً واسترد صندوقه. وأخذ يقطع الإفريز فخوراً طروباً. وارتسمت لعينيه صورة نبوية في ملاءتها اللف فقال متمتماً: لو تراني الآن! نعم لن تتجافاني بعد اليوم ولن تلوي وجهها عن احتقاراً. ولن بجد الغر ما يفخر به علي. ولكنه ذكر أن الغر يرتدي بذلة كاملة لا جاكتة مفردة فكيف السبيل إلى البنطلون. وفكر ملياً. وألقى على رؤوس الأسرى المطلة من نوافذ القطار نظرة ذات معنى. ولعب الطمع بقلبه من جديد فاضطربت نفسه بعد أن أوشكت أن تستقر. ودلف إلي القطار ونادى بجرأة: (سجائر. سجائر. العلبة بمنطلون لمن ليس معه نقود. العلبة بمنطلون) وأعاد نداءه مثنى وثلاثاً، وخشي أن يغيب عن الإفهام مقصده فمضى يومئ إلى الجاكتة التي يرتديها ويلوح بعلبة سجائر. ولكنه إيمائه الأثر المرجو فلم يتردد جندي أن يهم بخلع جاكتته ولكنه سارع نحوه وأومأ إليه أن يتمهل، ثم أشار إلى بنطلونه يعني أن ذلك بغيته؛ وهز الجندي منكبيه باستهانة وخلع البنطلون وتم التبادل. وقبضت يد جحشة على البنطلون بقوة يكاد أن يطير من الفرح، وتقهقهر إلى مكانه الأول وأخذ يرتدي البنطلون وانتهى في اقل من دقيقة فصار جندياً إيطالياً كاملاً. . . ترى هل ينقصه شيء؟. . . المؤسف حقاً أن هؤلاء الأسرى لا يغطون رؤوسهم بالطرابيش. . . ولكنهم يضعون أقدامهم في أحذية. . . ولا غنى عن حذاء ليتساوى بالغر الذي يكرب حياته. وحمل صندوقه وهرع إلى القطار وهو يصرخ (سجائر. . . العلبة بحذاء. . . العلبة بحذاء). واستعان على التفاهم بالإشارة كما فعل في المرة الأولى. ولكنه قبل أن يظفر بزبون جديد آذنت صفارة القطار بالمسير. فتمخضت عن موجة نشاط شملت الحراس جميعاً. وكانت سحائب الظلام تغشى جوانب المحطة، وطائر الليل يحلق في الفضاء، فتوقف جحشة وفي نفسه لوعة، وفي عينيه نظرة الليل يحلق في الفضاء، فتوقف حجشة وفي نفسه لوعة، وفي عينيه نظرة حسرة وغيط. ولما أخذ القطار يتحرك لمحه حارس في عربة أمامية فبدا على وجهه الغضب وصاح به الإنجليزية ثم بالإيطالية (اصعد بسرعة. اصعد أيها الأسير) فلم يفهم جحشة ما يقول وأراد أن ينفس عن صدره فجعل يقلده في حركاته مستهزئاً به مطمئناً إلى بعهد عن متناول يده. فصاح به الحارس مرة أخرى والقطار يبتعد رويداً رويداً (إصعد، إني أحذرك، اصعد) فزمّ جحشة شفتيه احتقاراً وولاه ظهره وهم بالمسير؛ فكور الحارس قبضة يسره مهدداً وصوب بندقيته نحو الشاب الغافل. . . وأطلق النار. ودوي عزيف الرصاصة يصم الآذان وأعقبها صرخة ألم وفزع. وتصلب جسم جحشة في مكانه فسقط الصندوق من يده، وتناثرت علب السجائر والكبريت. ثم انقلب على وجهه جثة هامدة.
نجيب محفوظ