الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 444/ظاهرات نفسية

مجلة الرسالة/العدد 444/ظاهرات نفسية

بتاريخ: 05 - 01 - 1942

2 - في مسرحيات محمود تيمور

للأستاذ زكي طليمات

مفتش شئون التمثيل

سبق أن قررت في مقالي السابق عن مسرحيات تيمور أن القيمة الأدبية الحقة للعمل الأدبي، مسرحية كان أو قصة، رهينة بما يسجله من الحقائق الإنسانية الخالدة التي تسمو على مشكلات الاجتماع، ومسائل الإصلاح الموقوت، وأزياء الأساليب البيانية، وتتجاوزها إلى ما هو أعرق في الأصالة وأجدر بالمعالجة، إلا وهو النفس البشرية بكامل كيانها، فيكون همُّ الكاتب قبل كل شيء، تسجيل سماتها والكشف عن مظاهرها ومضمراتها. ومن أجل هذا جعلت نقدي للمسرحية الأولى من مسرحيات تيمور، ألا وهي (الصعلوك)، معنى بهذه الناحية وتجاوزت قصداً عما سواها؛ وسيكون هذا دأبي في نقد المسرحيتين الأخريين، وهما (أبو شوشة) و (الموكب) وعلى أساس أن كياننا النفسي الكامل يتألف من العقل الظاهر (الوعي) ومن العقل الباطن (اللاوعي)، وإننا في تصرفاتنا خاضعون إلى التيارات الخفية التي تنطلق من معقل الوعي الباطن فتدفعنا إلى إتيان بادرات، لا يستطيع عقلنا الظاهر تفسيرها.

النقد تنبيه وتبيين وتسجيل

إن مهمة الناقد وقد أخذ بما أسلفناه شاقة عسيرة، ولكنها مجدية للقارئ قبل كل شيء، إذ أنها تقدم له بيان واضح وسرد مستفيض غير مقيد بأوضاع وقيم فنية مرسومة، تقدم إليه سمات هذه الشخصيات التي نلخصها في تعقيدها النفسي مضطربة مقنعة، بعد أن يكون الناقد قد استخرجها من بين السطور، وقيد أوابدها، وتصيد شواردها، وحلل نزعاتها، وأسقط أقنعتها.

ورب معترض يقول: وما هذا اللون من الأدب أو المسرحية الذي يحتاج إلى تفسير وتعليق وتذييل يجلو الغموض ويبدد الأبهام؟ ولم كل هذا التعليق من جانب الناقد!؟

وجوابنا: أن لا غموض ولا إبهام تلحظه العين في عمل أدبي حق، لو أن كل قارئ ك سامياً في ثقافته إلى المستوى الذهني الذي أصدر عنه الكاتب أو الشاعر عمله الأدبي الرفيع، وصدق القائل:

وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم

وإن النقد كما أنه تنبيه منزه عن السقوط إلى ما يتضمنه العمل الأدبي من مفاتن ومقابح، فهو تفسير وإيضاح لما يسجله المؤلف مجملاً أو مركزاً، وقد تقيد بقيود الوضع الشكلي الذي تفرضه صياغة القصيد أو القصة أو المسرحية، وأخذ بأسباب شرائط فنية قد توجب الإغراب قصداً، وقد تحتم التلويح بدلاً من التصريح في مواقف، والعكس بالعكس في مواقف أخرى، وقد تقضي بالإيجاز الذي يضني القارئ في ناحية، لتنهكه مرة أخرى في تنقل وثبي جريء، تدفعه من فكرة إلى فكرة، ومن خيال إلى خيال، من غير تمهيد يستطيع كل قارئ معه أن يجد الرابطة بين كل هذا.

وهناك شيء آخر جدير بالاعتبار يتصل بالمؤلف نفسه مباشرة، وذلك أن النقد إذا صح أنه إيضاح وتبيين فوق تبين، ييسر لكل قارئ استبطان دخائل العمل الأدبي الذي يقرؤه، ويبصره بمواطن الفتنة والسمو والقبح والإسفاف فيه، فهو أيضاً تسجيل وتحليل لطرائق المؤلف واتجاهاته في الأسلوب والصياغة والفكر؛ وهو أيضاً تقدير لمبلغ توفيقه في كل هذا، لأن المؤلف الموهوب قد يصدر كثيراً فيما يكتب عن وحي الساعة وقد لبسته حال من اللاوعي، فهو لا يخضع كل سانحاته وطوارقه الذهنية إلى مقاييس الفن ومعايير البيان. إنه يرتجل أحياناً وهو يدري ولا يدري بعد أن تهيأت نفسه للخلق والإبداع، وفي تسجيل هذا من جانب الناقد تبصير جديد للقارئ وإقرار صحيح لمنازل الكتاب من حيث القيم الأدبية الفنية.

وفيما نحن بصدده في مسرحيات تيمور - وقد نحا في التأليف والتحليل النفسي نحواً يقضي بتسجيل النتائج والأعمال التي يأتيها أبطال مسرحياته من غير أن يعني بتبيين البواعث والدوافع، وذلك باعتبار أنها أعمال تبدو من العقل الباطن ولا يستطيع العقل الظاهر تعليلها وتفسيرها - لا مناص من أن تكون مهمتنا الأولى إيضاح هذه البواعث التي أدت إلى النتائج، ولا يخفى أن أعمال الناس تفسر بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات.

والآن فلتقدم إلى مسرحية (أبى شوشة)

أبو شوشة

اسم لعجل مدلل، يرعاه (مؤنس بك) في ضيعته (كفر البلابل)، ومن العجيب أن يكون عنواناً لمسرحية أسم عجل يخور ولا يند لسانه بحوار في المسرحية ولا ترى له وجهاً على المسرح، ولن من يدقق قراءة هذه المسرحية لا يلبث أن يصل إلى ما توخاه المؤلف من هذا العنوان، بعد أن يتضح له أن (ابا شوشة) ليس إلا رمزاً للحاضر الجاثم بكيانه القادر بظروفه وشواغله. (والحاضر) في هذه المسرحية عنصر هام وخطير.

وترك مؤنس بك ماضيه في القاهرة منذ ست سنوات وهاجر إلى الريف وتزوج من حرائر أعيانه. له من زوجته رفيق مؤنس، وله توفره على الزراعة ومنتجاتها شغل وعزاء. تراه أول ما تراه في المسرحية، محنقاً مكروباً، لأن العجل (أبا شوشه) متوعك المزاج يعاف أكل العليق وعينه محمرة دامعة!! القصر الريفي في حيرة واضطراب، الخدم يرقبون شفاء للعجل العزيز السيد خادماً يسهر على راحته.

فجاءة يهبط القصر نفر من الزوار من أعيان الريف، بينهم حسنية هانم وزوجها (ظاظا بك) - وهما من سكان القاهرة - جاءا الضيعة لزيارتها بعد أن ذاع صيت نظامها ووفرة غلتها في دوائر القاهرة. فنرى مؤنس بك يضطرب ويرتبك لمرأى (حسنية) وكأنه فوجئ بمجيئها، ولكنه يتغلب على ارتباكه ويرحب بالزائرين.

وإذ يخلو لمؤنس وحسنية المكان بعد تمهيد دق المؤلف في إتيان مواقفه من غير تكلف، نراهما منجذبين الواحد نحو الآخر، متقابلين فماً لفم، وسرعان ما ينجلي للقارئ أسباب ارتباك مؤنس واضطرابه. . . لقد كان مؤنس وحسنية متحابين، متعاقدين على الزواج قبل أن يهجر مؤنس القاهرة ويقيم بيته وأعماله في الريف. ولكن حدث إذ ذاك أن توفي والده وطالعته تركة موروثة مرهقة بالدين تتدحرج نحو الإفلاس والبوار؛ فأسقط في يده، وخابت أمانيه في الزواج، لأن كبرياءه حجزته عن أن يتزوج من حسنية الناعمة المثرية. فترك القاهرة بغتة واستقر في الريف يرمم المنهار من تركته بعد أن قطع كل رباط يربطه بالقاهرة وساكنيها. وكان أن تزوجت حسنية من ظاظا بك.

هذا المشهد هو دعامة المسرحية وبيت القصيد فيها. . .

هما هما الاثنان يبعثان الماضي وذكرياته، وها هو مؤنس يشد على يد حسنية في اتقاد، مهيباً بها أن تنسى الحاضر وأن ترجع بعين الخيال إلى مراتع حبهما، فتزداد التصاقاً به، وتدني فمها من فمه، مغمغمة أسمه المحبوب، القبلة تكاد تتم فصولاً، الحب الهامد يتسرح من جديد و. . . .

ولكن يحدث في هذه اللحظة أن يرتفع خوار العجل أبى شوشة؛ فإذا بمؤنس يجمد في مكانه، وإذا بالقبلة لا تتم، وإذا به يترك حسنية واجمة متعجبة، ويطل من النافذة منادياً متسائلاً عن صحة العجل العزيز الغالي!!

بادرة عجيبة ولا شك من جانب مؤنس تناقض الواقع الذي كان يعيش فيه منذ لحظة بيان لسانه وكمال وعيه!

ويستدرك مؤنس ما أتاه من غير وعي بهذه البادرة النابية فيعاود الحديث عن الماضي ويستعين عليه في هذه المرة بمطالعة بعض صور فتوغرافية قديمة تمثله مع حسنية في مواقف عديدة. ويبدو للقارئ أن مؤنس يحاول لاهثاً أن يستمد من هذه الصور إنقاذاً لمخيلته ويقظة لحسه. وتقع يد حسنية بين هذه الصور على رسم للعجل أبى شوشة فتتبرم؛ ثم لا تلبث أن تزداد عجباً على عجب، إذ ترى مؤنس يأخذ بأسباب سرد مشرق عن ولادة العجل وحياته الأولى.

وهكذا يبدو مؤنس متطوحاً بين (الماضي) الذي يشده بعيني حسنية، وبين (الحاضر) الذي يجتذبه بجوار أبى شوشة.

ولا تجد حسنية موضوعاً للحديث غير الكلام عن الطقس. ويفطن مؤنس إلى ذلك فيعتصر حسه من جديد ويأخذ في إطراء مفاتن حسنية، فينشط حس المرأة أمام هذا الإطراء فلا تتوانى عن أن تعرض عليه أن يحضر الحفلة التي ستقيمها في القاهرة بمناسبة عيد ميلادها، ولا تتحرج عن أن تناشده معاودة حياته الأولى في ظل حبها.

مؤنس ينقاد إلى حديثها في شبه حلم لذيذ وقد غمره الماضي، فلا نلبث أن نسمعه متبرماً بحاضره. وها هو أخيراً يقرر في نبر صوتي متقد أنه سيعود إلى القاهرة، وأنه سيحضر حفلة عيد ميلادها. . . وأن الإنسان في وصفه أن يحقق ما يريد إذا صح عزمه على ذلك.

وإذ هما يحتضنان، يرن صوت الخادم وقد أقبل نحوهما. . . الخادم يدخل فرحاً معلناً أن (أبا شوشه) أكل عليقه، وأن الصحة عاودته. . .

يا لسخرية الحاضر من الماضي!!

نرى مؤنس ينتفض فجأة وكأنه، خرج من حلم بعيد وينطلق نحو الباب والفرحة ترقص أمامه، ويدعو حسنية إلى أن ترافقه إلى مذود العجل؛ ولكنها ترفض فيتركها وقد نسى القاهرة وحفلة العيد!!

هذا المشهد هو الرواية كلها، وقد وفق تيمور في التمهيد لانطلاق الإيحاءات الباطنة التي كانت تطرق مؤنس وتجعله وهو لا يدري ينقض ما يبرمه وهو يدري. وفق تيمور في هذا بطريق إيرادها جسات نفسية خاطفة كانت تلوَّح للأمر المزمع، والغاية المقصودة.

وتجري بعد هذا المشهد الحافل مشاهد إضافية، نرى (حسنية) في أحدها تعلن لمن جاءوا الضيعة معها أن (مؤنس) سيحضر حفلة عيد ميلادها بالقاهرة؛ ولكن سرعان ما يحضر مؤنس وقد امتلأت نفسه نشاطاً وفاضت غبطة ليعلن الحضور بدوره أنه سيشترك في المعرض الإقليمي بمنتجاته الزراعية، وكان قبل ذلك متردداً في هذا الاشتراك. تمتعض (حسنية) وتقطع الحديث وهي تقترح العودة إلى القاهرة، لأن لديها ما يشغلها لإعداد حفلة عيد ميلادها. وإذ ذاك يتذكر (مؤنس) أمر هذه الحفلة، ويبدي حيرته كيف يوفق بين الاشتراك في المعرض وحضور حفلة القاهرة. . . ولكن (حسنية) تتدخل في الأمر تدخلاً عابراً من باب جبر الخاطر - وأغلب الظن أنها بدورها أحست فتوراً من الرجوع إلى شيء مضى وفات - ويعتذر مؤنس عن حضوره الحفلة وكأنه أنقذ من ورطة قادمة!

وتنتهي المسرحية بأن ترحل (حسنية) إلى القاهرة لتعيش هناك في (حاضرها)، ويبقى (مؤنس) في قصره الريفي ليعيش بدوره في (حاضره).

كل هذا يجري ولم نر المؤلف يجعل بطلي المسرحية (مؤنس وحسنية) يحاولان تعليل تلك الإيحاءات الباطنة وتفسيرها بطريق المنطق، بل جعلها تعرض نفسها خطفاً، وبهذا خالف النهج الذي نهجه في مسرحيته الأولى (الصعلوك) وحسناً فعل.

والآن نتساءل ما الذي يلبس هذا الرجل (مؤنس بك) الفينة بعد الفينة، والموقف واحد لم يتبدل زمانه ومكانه، فنراه يتخبط وينقض فعلاً ما أبرمه كلاماً ويتأرجح بين قوتين عنيفتين تشهد كل منهما من ذراع لتجتذبه أحدهما في النهاية؟؟ إلا يرى القارئ معي أن هذا الرجل يحاول عبثاً إرجاع الماضي وبعثه بمذكيات الذكرى وبحطام نفسه ويشخص المرأة التي كانت له شريكة فيه؟؟ وأن الحاضر يأبى عليه ذلك ويسير على شرعته الأزلية من أن ما فات مات، وأن لا رجعة لما أغرقه الزمن في لجته؟؟

نعم هو هذا. وأن الذي كان يلبس الرجل ويدفعه بقوة خفية إلى التناقض إنما هو سيطرة الحاضر الذي أقام لنفسه في الواعية الباطنة سلطاناً يدفع به وثبة الماضي إذا قدر له أن يستفيق من همدته وتهيأ للانسراح بعد انكماشه، والماضي بدوره له في الواعية الباطنة منازل ينطوي فيها على نفسه ولكنه يقنع من السلطان بأن يكون معين الصراع بين المادة والحافظة، وأن يكون الشرفة التي نطل منها على المستقبل.

لا سبيل إلى إحياء الماضي، تلك هي المسألة التي أثارها تيمور في مسرحيته - الماضي لا يعود - ومرد هذا أن النظرة إلى الأشياء تتغير بتغير الميول، والميول تبدل أثوابها بمرور الزمن، الزمن الذي يبلى كل شيء ويسير دائماً إلى الأمام دون أن ينظر إلى الوراء، الزمن الذي يستبد فينا بحاضره، ويدفعنا بشواغله والتزاماته إلى أن نحيا فيه. فكان النظرة إلى الأشياء مقضي عليها بالتغير، ومتى تغيرت النظرة تغيرت معها معالم الدنيا من إنسان وجماد.

لقد نال الزمن من (مؤنس) وهو لا يدري، كما نال من نفس (حسنية) وهي لا تشعر، ولم يكن حظها في هذا أرفق من حظ مؤنس، وآية ذلك أنها حينما أجابت نداء (الماضي) عن لقائها حبيب القلب الغابر وانساقت مع دفعاته الفاترة المتقطعة، لم تستطع أن تدفع سلطان (الحاضر) بل كانت في محاولتها إحياء الماضي، كما كان (مؤنس)، متعثرة على الرغم منها.

ولو أن تيمور أجرى موضوعه على الرجل دون المرأة لأوقع بالمسرحية ثلمة تنفذ إليها منه بالمؤاخذة، ولكنه فطن إلى ما لا يفطن إليه عادة غير المرتاض بصياغة القصة المتمرس بعرض موضوعه عرضاً صادقاً كاملاً.

ورب معترض يقول: إن الدافع الحقيقي الذي حجز (مؤنس) عن معاودة حياته العاطفية مع (حسنية) هي أعماله بالريف وشواغله الملحة فيه. وهذا حق من ناحية أن هذه الأعمال وتلك المشاغل إنما هي من عناصر (الحاضر)، والحاضر، كما قررنا، يفرض سلطانه علينا، بيد أن هذا ليس كل شيء، لأن الظروف المحيطة بمؤنس وحسنية - ما رسمها المؤلف - كانت ظروفاً مواتية تسمح لهما باستئناف علاقتهما دون أن يخل ذلك بشواغلهما، ولكن بشرط. . . وهذا الشرط أن يكون لأعج العاطفة المتأجج في قلبيهما متقداً قوياً كما هو المشاهد المألوف لدى الأكثرين، لأن الإنسان يحيا بغرائزه وعواطفه أكثر مما يحيا بعقله ومنطقه، وفي تلك الفترات التي يكون فيها الإنسان لحياة العاطفة لا يبالي بأي قيد من القيود. ولكن العاطفة القوية أو الحب المتقد لم يكن يعمر قلبيَّ مؤنس وحسنية عند لقائهما الأخير. لقد كان الأمر غير ذلك فيما مضى، ولكن الزمن أطفأ اللاعج المتقد وأوهن القوى النابض، ولم يبق في قلب كل منهما من ذلك الغرام غير هيكل من عظام نخرة ترتدي مسوح (فينوس) تكفي أن تهزها اليد لتنهار.

زكي طليمات