مجلة الرسالة/العدد 44/قصة من الواقع
→ تطور الفلسفة | مجلة الرسالة - العدد 44 قصة من الواقع [[مؤلف:|]] |
بين المعري ودانتي في رسالة الغفران ← |
بتاريخ: 07 - 05 - 1934 |
الأمل الضائع
أو كذبة ابريل
لا تظن أيها القارئ الكريم أني سأحدثك عن سبب هذه الكذبة ولا متى
واين وجدت؟ فذلك بالمؤرخ اجدر، ولا عن مدى أثرها في نفوس من
وقعوا في حبائلها: أخير هو أم شر؟ أجميل أم قبيح؟ أنافع أم ضار؟
فذلك بعالم الأخلاق أو النفس أليق. إنما أحدثك بلسان أديب، رأى رأي
العين قنيصة من قنائص هذه الكذبة، على غير علم منه انها قنيصة،
وإنما أردت ان اطرف بها القراء؛ لأنها كما سيرون طريفة حقاً،
محكمة في نسجها احكاماً، حتى لقد بدت - وهي الباطل المزخرف -
كأروع ما يكون الحق، ومثلت مع أديب شاعر لم يتسرب إلى قلبه
الشك في صدقها؛ ولعل ذلك إلى ان الأديب خلق اطهر الناس فطرة،
وأنقاهم سريرة. . . ضحك الأديب المكذوب عليه مع من ضحكوا على
هذه الاكذوبة، وربما كان اكثر إغراقا في الضحك، ذلك انه وقف من
أصحابها موقف جاد من هازلين، متفرج على ممثلين: صادق مع
كاذبين.
طرحت إحدى المجلات الشهرية المصرية على الشعراء مسابقة أدبية، ذات جوائز مادية، وانتهى موعد التقديم، وترقب كل شاعر وأديب نتيجته، كما يترقب المساهم في بعض الأنصبة نصيبه. . .
وفي ذات ليلة من ليالي ابريل، فكر ثلاثة من الأصدقاء في ان يكذبوا (كذبة ابريل) ولم يطل التفكير؛ فقد كانوا مساهمين في هذه المسابقة الأدبية، فلماذا لا تكون المسابقة هي ماد الكذبة؟ ولماذا لا يكون أحد المتسابقين غيرهم موضوعها؟ ولماذا لا يكون ذلك الأحد صديقا لهم، اشتهر فيهم بالحلم، فيأمنوا عاقبة ما تحدثه الكذبة في صدره؟ واخيرا لماذا لا يتلهون بهذه الاكذوبة ويقطعون بها وبالحديث عنها فترة الانتظار، انتظار النتيجة الممل.
اختمرت الفكرة، لكن بقي أن تصقل بصقل الدهاء، وترتب حوادثها تباعا، ويشذب ما عساه ينتأ فيها من شبه وظنون، ويبعد عنه ما عساه ينبه قوة الملاحظة التي ستغرق في حلم من الاكذوبة لذيذ. .
تولى أحد المتآمرين سرد حوادث الكذبة كما ستقع، وتولى الآخر الاعتراض، وتولى الثالث الرد، وهكذا تبادلوا الاسئلة والاجوبة والنقد والتمحيص، حتى اقر الجميع متانة صقلها، قوة سبكها ثم تعاهدوا على ان يتكاتموا سرها حتى على أنفسهم ليضمنوا لها النجاح والتوفيق.
ابتدأت الخطوة الاولى من التنفيذ بكتابة خطاب إلى هذا الصديق المتسابق بخط صاحب المجلة الزائف، ولكن مع كثير من التقليد، وبخاصة الامضاء. وهذه صورة من الخطاب!
(فلان. . . تحية. . . وبعد فيسر صاحب الامضاء ان يبشركم بالفوز في مضمار المسابقة. والمجلة تهنئكم به، وتطلب اليكم أن ترسلوا صورتكم الشمسية لتصدر بها قصيدتكم المحلية في ميعاد لا يتجاوز 28 الجاري. . والسلام)
الصق الخطاب وكتب عليه عنوان صاحبه، وسلم إلى بريد القطار الذي يؤم القاهرة أو بعبارة أدق وضع في صندوق بريد المحطة طمعاً في ان يصل إلى القاهرة خطأ فتعيده تلك إلى مكتب البريد الذي يوصله إلى صاحبنا، حتى إذا نظر إلى الخطاب لا يشك في انه صادر من موطن المجلة - كلف أحد المتآمرين ان يرقب عن كثب مصير الخطاب حين يصل القطار - تنبه البريد إلى هذه الخطأة فأرسل الخطاب إلى مكتب بريد البلد قبل ان يصفر القطار، وذلك ما لم يكن في حساب المتآمرين؛ وسرعان ما تلافوا ذلك بأن تطوع أحدهم بحمل الخطاب من مكتب البريد إلى حيث توضع خطابات صاحبنا على مكتبه، وتولى حراسته حتى لا ينظر فيه غير صاحبه خشية ان يدرك بوساطة خاتم البريد انه مصدر من البلد نفسه، لانه سينظر إليه بعين فاحصة فتنكشف العصا كما يقولون، لا كما سينظر إليه صاحب الخطاب بعين اللهف على ما فيه. . . هل صاحبنا في وقت تعود فيه أن يتسلم بريده، فأبرقت أسارير جبهته، حين وقعت عينه على ذلك الخطاب، وأنت أدرى كم يكون سرورك حين تقع عينك على خطاب، ولو كان ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب. . . تناول صاحبنا الخطاب بيد مرتعشة، رعشة الفرح أو الإشفاق لا أدري! ومزق الغلاف ونظر في سطور الخطاب نظرة سريعة وإذا بالبشرى، بشرى الفوز في مضمار المسابقة يفوح عبيرها؛ فيملأ انفه ويسري منه إلى اعصاب المخ والقلب سريان البرق، فيصدر في غير وعي، اشارات الفرح وإمارات الانتصار، غير ناظر إلى خاتم البريد، ولا ممعن في النظر إلى السطور الزائفة. . .
(اعطني عقلك!) لا نظر ولا انتظار، ولا هدوء ولا قرار، على مثل ذلك النبأ السار. . .
اغتنم حارس الخطاب هذه النشوة من صاحبنا فاختلس الغلاف وأخفاه حتى لا يعيد النظر إلى الخاتم بعد زوال السكرة، ورجوع الفكرة، ثم اظهر الحارس الفرح بفرح أخيه، وتناول الخطاب من يده، واخذ يطوف به على بقية الإخوان، مبشرا من لم يتآمر منهم بنجاح صاحبهم، ومن تأمر بنجاح مؤامرتهم. . أرأيت كيف تدبر المؤامرات وتحكم التلفيقات؟ ألم يصدق المثل القائل (كذب مرصوف، ولا صدق مندوف) وهنا اقترح المتآمرون على صاحبهم ان يدفع ثمن هذه البشرى (حفلة سمر أخوية مسائية تقام في بيته) وايد هذا الاقتراح سائر الاخوان فلم يسعه إزاء هذا الاجماع إلا أن يوافق بعد تردد لم يطل مداه إذ بخسوا له هذا الثمن (بمبلغ زهيد يشتري به فاكهة، وتقام حول مائدتها حفلة تكريم، للشاعر العظيم)، ودفع صاحب الثمن لأحد المتآمرين الذي تطوع بأن يقوم عنه بمهمة شراء الفاكهة، وانه سيتبرع هو الاخر بنصف هذا الثمن، حبا وكرامة - التفت ذهن الشاعر إذن إلى الصورة الشمسية، ورأى ان ما عنده من الصور لا يصلح لمثل هذا التفوق فقرر ان يحضر صوراً جديدة تكون أنقى وأجمل. وتواردت في ذهنه هذه الاسئلة: من ذلك المصور الماهر الذي سيحظى بشرف تصوير حامل قصب السبق في مضمار أدبي؟ من أي المدن القريبة يستحضرها؟ أي القطر يستقله إلى المدينة؟ متى يسافر؟ كيف يحصل على اجازة من عمله؟. . .
بعد لأي قرر السفر غداً - ولكن اخوانه المتآمرين كانوا قد قروا ان تكون هذه الاكذوبة مداعبة ظريفة ليس اكثر، فرسموا خطتهم على لا يكون سفر، والا يكون ما وراء السفر من مشاق ونفقات، ولا ما وراء ارسال الصورة الشمسية إلى صاحب المجلة مما تعلم، وما لا تعلم. . . كان ذلك واكثر منه سيحدث لو لم يقرر للمداعبة ان تكون ظريفة غير قاسية: لذلك قرروا ان تكون حفلة السمر في مساء ذلك اليوم، وان يفاجأ صاحبنا بأكذوبة ابريل بعد ما عساه ان يقال، من خطب ومقطوعات وازجال، في حفلة كلها أدباء أبطال.
قضى الشاعر يومه غير محسوب من عمره كما يقولون: احلام شهية، وأمال طلية، وشرف ومجد، وصيت لا يحد، ذهل حتى عن نفسه، واختلط عليه يومه بأمسه، يخاطبه مخاطبةً فيجيب (نعم) حيث الجواب (لا) يجيب (لا) حيث الجواب (نعم)، وقد يكتفي بإيماءة من رأسه تصلح للنفي والاثبات، وتؤدي معنى لا ونعم، وما ان فرغ من عمله حتى رأى نفسه في حجرة الاستقبال في بيته، ينظم وينسق، ويرتب وينمق، ثم في حجرة المائدة يكللها بالازهار لأنها ستحظى بتكريم فائز المضمار. . . دقت الساعة تسعا، فدقت (سماعة) الباب وإذا الطارق اخوانه المحتفلون، اخذ يحييهم، فيهنئون، ثم دعاهم إلى المائدة، فطفقوا يأكلون.
جلس الشاعر على مقعد التكريم، ولاول مرة يفوز بهذا المقعد فأحس الخيلاء تتمشى في نفسه، وخواطر العظمة تجيش في صدره، انبرى الخطباء أمام المنصة، يقولون ما سمته مرارا حول موائد التكريم، حديث معاد، لا يحرف ولا يزيد، وكان الخطباء بين اثنين: جاد منسجم في جده، وهازل غارق في هزله. والشاعر ترتسم على وجهه ألوان متعاقبة متأثرة بما يقال، فهو خجل حين يفيض المدح، متواضع حين يغلو الاعجاب، مبتسم حين تشرق الدعابة، ضاحك حين تدوي النكتة، مزهو يذكر السبق في المضمار، ثمل حين تدار كأس الانتصار؛ انتهى الخطباء من كلماتهم، ولم يبق غير وأحد من المتآمرين اعتذر بأن كلمته قصيرة فاترة، قد يفوح شذاها ان جعلت مسك الختام.
وهنا قام الشاعر المكرم، يؤم المنصة، متئد الخطى في دلال، مصعر الخد من جلال، ولم لا؟ الم يكن المجلى في حلبة الفرسان؟ ألم يفز بالقدح المعلى في الرهان؟ الم يشر أو سيشار إليه بالبنان؟ الم يصرع - وهو الشاعر الناشئ، والأديب الحديث - فحول الشعراء، قدامى الأدباء في الميدان؟ اخذ أمام المنصة يجول ويصول ويهز جوانبها تارة بالشعر المصقول، واخرى بالنثر المعسول، يخلع على الخطباء أبهج الحلل، ويقلدهم أنصع الدرر؛ حتى ملأ السمع، واثلج الصدر، وأفعم القلب؛ واخيرا جلس كما قام بين عاصفة من الهتاف والتصفيق. .
قام صاحب مسك الختام، وألقى في اول كلمته ما يناسب المقام، ثم. . . ثم مإذا؟. ثم استجمع قواه، وشد من اعصابه كما يتجمع من يهم بالقاء قنبلة داوية، وأراد ان يلقيها كلمة صريحة فلم تطوع له نفسه أن يقذف بها صديقا أعز عليه من نفسه، ولكنه أرسلها مبهمة تأخذ النفس في استجلائها رويداً رويداً فتأنس لها ولا تنفر منها نفورا كبيراً. . إذن ماذا قال؟ قال! (ألما يزل في ابريل، ذلك الشهر الطويل، شهر الكذب والتضليل) وسكت. . . هنا ذهبت نفوس المحتفلين غير المتآمرين وأولهم الشاعر في تأويل ذلك الذي قيل كل مذهب، وأخذ الشك يدب إلى يقينهم، رويدا رويدا، كما يدب غسق الليل إلى وضح النهار حين الغروب،. . . ولكن مازال في الافق بصيص من نور، وفي النفس ذبالة من أمل، لقد اطفأه ظرف الخطاب (أنسيت الخطاب المزيف؟) الذي عرض على الجميع بين الدهشة والاستغراب، فوجدوا ان خاتم البريد هو لمكتب البلد الذي به صاحبنا ن غير انه ختم به مرتين ذلك الخطاب الذي لم يحظ بركوب القطار. . . وإذن كان ظرف الخطاب، هو فصل الخطاب، قطعت به (جهيزة قول كل خطيب) وصاح الجميع في نفس وأحد، ابريل. . . ابريل، كذبة ابريل! لقد مثلت أجود تمثيل، فكانت كذبة رائعة محكمة، وكانت مفاجأة لذيذة متعة. فهل كانت كذلك في نفس شاعرنا الكريم؟ الجواب والمعنى في بطن الشاعر كما يقولون. فوجئ صاحبنا بكذبة ابريل، وانت ادرى ما يحوم حول المفاجآت من تكبير وتهليل.
آفاق الشاعر من حلم لذيذ، دام من الثامنة صباحاً إلى العاشرة مساء، على صوت قذيفة هذه المفاجأة الصارخة، وانهار في لحظة واحدة من الواقع ما بناه الخيال والوهم من صروح في ساعات وغار البشر في ظلام العبوس، ودفنت النشوة في وجوم الدهشة، وأرسل صاحبنا قهقهة عالية عصبية؛ أمن الغيظ أو الكذب أو الغفلة؟ لا ادري! ملأ السامرون حجرة السمر بصوت مزيج من التصفيق الانتصار، وضجيج الدهشة، وصياح الانكار، وضوضاء الفرح، ونشيج الامل.
فكيف كان موقف شاعرنا؟ تكلف وسط هذا الموج الصاخب أن يظهر بمظهر الرجل الثابت الذي يقابل الخطوب بابتسام. والأكاذيب بابتسام، وهتف من اعماق نفسه (الا لعنة الله على الماجنين، واخذ يسلي نفسه بما حضره من حكم الشعراء، بمثل قول ابي العلاء.
فظن بسائر الاخوان شراً ... ولا تأمن على سر فؤادا
فلو خبرتهم الجوزاء خبرى ... لما طلعت مخافة ان تكادا
هنا أحس زعيم المؤتمرين ان تلك المفاجأة - مهما يكن من شئ - قاسية شديدة، فأخذ يلطف حرارتها، ويخفض من شدتها بما قال مخاطبا الشاعر: لا يكن في نفسك يا أستاذ أثر من كذبة ابريل، فوالله ما تدري. لعل ذلك فأل جليل، فتطلع علينا في غرة مايو الجميل المجلة النزيهة. وفيها لك تاج واكليل.
حسن! وما رأيك في ان ذلك الشاعر الموتور. هو صاحب تلك السطور؟
فرحات عبد الخالق