الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 44/الضمير الهارب

مجلة الرسالة/العدد 44/الضمير الهارب

بتاريخ: 07 - 05 - 1934


للدكتور طه حسين

لم يكن صاحبي ساذجا ولا غليظ القلب ظاهره كهذا الضابط الفرنسي الذي اظنك رأيته في دار من دور السينما، يأتمر مع أصحابه ليغير النظام في فرنسا ويرد إلى العرش ابن نابليون. فبينما هو ذات يوم يمشي على رصيف من ارصفة باريس لقى رفيقا من رفاقه في جيش الامبراطور. وكان العهد قد بعد بينهما فوقع اللقاء من نفس الرجلين موقعا حسناً، وتحدثا عن الجيش وعن الامبراطور، وتحدثا عن امس وعن غد، ولم يكرها ان يذما يومهما ويسرفا في ذمه. ثم ذهب الصديقان إلى حيث كان الضابط يحدث صاحبه عن أصدقائهما وما يأتمرون به، ثم مازال الحديث ينتقل بهما من موضوع إلى موضوع حتى عرف الضابط ان صديقه لم يقم على عهد الامبراطور، وإنما اثر لين الحياة فعمل في جيش الملك. هنالك لم يستطع الضابط ان يلوم صاحبه ولا ان يعاتبه، ولا ان يناقشه في شئ، ولم يزد ان اطفأ المصباح حتى لا يرى وجه هذا الصديق الخائن وفهم الرجل عن صديقه فأنصرف عنه خزيان اسفا.

لم يكن صاحبي ساذجا غليظ القلب طاهره كهذا الضابط الفرنسي، وإنما كان رجلا مترفا لا في حياته المادية، بل في حياته المعنوية خاصة. كان مترف العقل جداً لا يكتفي بظواهر الأشياء ولا يقنع بحقائقها، وإنما يبغي شيئا ارقى من الظواهر واعمق من الحقائق كأنه اللب والخلاصة لكل شئ. وهو إذا وصل إلى هذه الخلاصة وذلك اللب ولم يقنع بهما وإنما تخير منهما انقاهما وارقاهما واشدهما ملائمة للعقل الممتاز، والذوق الرفيع، والشعور الراقي، والنفس الأبية العالية. وكان صاحبي قوي الحس جدا، ولكنه كان شديد الازدراء للحس، يضعه في موضعه الطبيعي فلا يكبره ولا يغلو في العناية به، ولا ينتظر منه إلا ما ينتظر في الأداة التي لا يراد منها إلا ان تؤدى للعمل الذي هيئت له، فهو لا يريد من حسه إلا ان ينقل إليه صورة الحياة الخارجية، فإذا نقلها إليه شغل بها فحقق ودقق، ومحص وصفى، واثر نفسه بخلاصة ما ينتهي إليه التحقيق والتدقيق والتمحيص والتصفية، فغذى به عقله وقلبه وشعوره؛ وفكر فيه فأطال التفكير، واستخرج منه أقصى ما يستطيع استخراجه من اللذة والألم، ومن العبرة والعظمة، ومن الغبطة والحزن.

وكان صاحبي هذا بحكم هذا المزاج الخاص معقدا شديد التعقيد متعباً لنفسه ولأصحابه وأصدقائه جميعاً، وكان كثيراً ما يسأل نفسه عما يريد فلا يجد لهذا السؤال جواباً. وكان أصدقاؤه يسألونه عما يريد فلا يجدون لهذا السؤال جواباً. فقبلوه على علاته، وقبلوه على ما في صحبته من مشقة وتعقيد. وكانت حياته وحياة أصحابه هينة لينة مستقيمة تمضي في طريق لا عوج فيها ولا التواء، كما كانت حياة الناس كلهم في بعض أوقات الأمن والدعة والهدوء، فكان راضيا عن أصحابه، وكان أصحابه راضين عنه. وكان ما يعرض له ولهم من مصاعب الحياة ومشكلاتها لا يزيد على ان يكشفها لهم فيحببه إليهم، ويكشفهم له فيحببهم إليه. ولكن هدوء الحياة ودعتها واضطراد الامن فيها واستقامة الطرق لسالكيها ليست أمور محتومة مقضية للناس أو مقضية عليهم، قد اخذوا بها عهدا على الظروف والأيام. وإنما هي أمور ممكنة تتاح حينا وتمتنع أسحياناً، تتاح فيسعد الناس، وتمتنع فيشقى الناس. تتاح فيجهل بعض الناس بعضا، ويحب بعض الناس بعضا، ويطمئن الناس إلى بعض، لان ظروف الحياة لا تكرههم على ان يدفق بعضهم في امتحان بعض، ويحقق بعضهم في ابتلاء بعض. ثم تمتنع فإذا الناس يتعارفون، ولا يلبثون ان يتعارفوا حتى يتناكروا ويتدابروا. ويقوم الشك منهم مقام اليقين، ويقوم الحذر منهم مقام الاطمئنان، وتقوم التفرق منهم مقام الصراحة، ويقوم البغض منهم مقام الحب، وإذا هم يندمون على جهلهم القديم، وإذا هم يحزنون على اطمئنانهم لماضي، وإذا هم يتمنون لو رد الله عليهم تلك الأيام الحلوة التي كانوا يستمتعون فيها بلذة الجهل وحلاوة الغفلة ونعيم الثقة، واعفاهم من هذه الأيام التي يشقون فيها بألم المعرفة ومرارة الفطنة وبؤس الشك.

وكان صاحبي قد فتح لنفسه الأبواب كلها على مصاريعها كلها ليتلقى كل شئ من كل شئ ومن كل إنسان. ثم ليسعد بهذه التصفية والتنقية، وبهذا التمحيص والتحقيق، وبتخير الثمرات من كل ما كان يجتمع له من الجد والردى فلما نكرت الأيام لم يغلق من أبواب نفسه بابا، وإنما نظر فإذا النفوس تغلق من دونه نفسا فنفسا، وإذا أبوابها تغلق من دونه بابا فبابا. إذا ما كان يجتمع له من الملاحظات شيئا فشيئا، ويندر حتى كاد لا يصبح شيئا. وإذا ما بقى من هذه النفوس القليلة التي ثبتت للمحن، وامتنعت على الخطوب، وابت ان تلين قناتها للأحداث، قد اخذ يغشاها من حين إلى حين لون رقيق جدا من الحياء، ثم من الغلو في الحياء، ثم من الإشفاق، ثم من الاسراف في الإشفاق، ثم يتكاثف اللون ويتكاثف، وتضاف طبقات منه إلى طبقات حتى يصبح احتياطيا وحذرا، وحتى يستحيل إلى حجاب كثيف صفيق لا تنفذ من دونه نفس إلى نفس، ولا ينتهي من دونه قلب إلى قلب، ولا يتحدث من دونه ضمير إلى ضمير، وإذا صاحبي يلقى أصحابه فلا يلقى منهم إلا وجوها، ويصافح أصحابه فلا يصافح منهم إلا أيدياً، ويحدث أصحابه فلا يكون بينه وبينهم إلا حركات الألسنة في الأفواه، وخروج الألفاظ من الشفاه، وانتهاء الأصوات إلى الآذان، ثم وقوفها دون هذه الأبواب التي قد غلقت تغليقا، وهذه الأستار التي قد اسدلت اسدالا، على انه أيضاً لم يكن اقل من أصحابه واحبائه تغليقا لأبواب نفسه، والقاء للحجب والأستار بينه وبينهم، فقد آذاه ما رأى منهم كما آذاهم ما رأوا منه، فكان هذا الحياء الذي كان منهم، ثم اخذ هذا الحياء يتعقد في نفسه كما كان يتعقد في نفوسهم حتى اصبح إشفاقا ثم شكا ثم احتياطا وحذرا. ولكن حياء صاحبي لم يكن كحياء أصدقائه، كانوا يستحون منه وكان يستحي لهم، كانوا يشفقون منه وكان يشفق عليهم. كان يحذرون منه وكان يحذر عليهم، ولكنه الحياء والإشفاق والحذر على كل حال. ولكنه تغليق الأبواب والقاء الأستار والحجب على كل حال. ولكنه انقطاع الأسباب وفساد الصلات على كل حال. ولكنه العزلة بين قوم لم يكونوا يستطيعون ان يعتزل بعضهم بعضا، والفرقة بين قوم لم يكونوا يستطيعوا ان ينعموا بالفراق، ولكنه الرياء بين قوم لم يكونوا يحتملون الرياء، ولكنه هذا الألم الممض الذي ينشأ عن الفراق والناس مجتموعون، وعن البعد والناس متقاربون، وعن القطيعة والناس متواصلون. ولكنه العذاب الذي يجده الناس حين يتحدثون بألسنتهم لا بقلوبهم، وحين يسمعون بآذانهم لا بنفوسهم، وحين تتصافح أيديهم وتتباعد بين ضمائرهم ونياتهم الآماد، إلا من ألف منهم هذه الحياة واطمأن إليها ووجد فيها مثل ما كان في تلك الحياة من اللذة والراحة والنعيم لأنه فارق أصدقاء فوجد مكانهم أصدقاء آخرين، ونأى عن أحباء فاستقر في أحباء آخرين. هنالك نظر صاحبي إلى نفسه، فإذا هو قد اصبح أداة من الأدوات تسعى مع النهار وتعود مع الليل، تلقى الناس فتتحدث إليهم وتسمع منهم دون ان تعقل ما يصدر عنها أو تذوق ما يصدر إليها من حديث. أداة تذهب وتجئ تتلقى آثاراً من أدوات مثلها، وتحدث آثاراً في أدوات مثلها، ولكنها آثار ظاهرة آلية لا قوام لها ولا لذة فيها ولا اثر للحياة القوية العاقلة المفكرة في مظاهرها، وإنما هي أداة ممثلة لا اكثر ولا اقل. تعمل مع أدوات ممثلة لا اكثر ولا اقل. وكانت لصاحبي بقية من قوة في النفس، وفضل من حياة في الضمير، واثر من حزم في الإرادة، وقليل من ذلك الترف العقلي الذي كان يستمتع به أيام كان الناس ناسا، وحين كانت الحياة حياة، فاكبر ما انتهت إليه أموره وأمور أصحابه من هذه الصفة التي يجحد فيها الرجل نفسه ولا يؤمن فيها إلا بغيره. اكبر ذلك وضاق به وازمع ان يعتزل هذه البيئة التي لا يستطيع ان يكون فيها إلا أداة مسخرة. ولكنه اعتزلها ولم يعتزلها، قر في داره وعاش بين أهله، لم يسع إلى أحده ولم يفكر في لقاء أحد، وكان يظن ان هذه العزلة ستغنيه وتحميه وترد إليه نفسه بريئة من النفاق معصومة من الفساد. ولكنه لم يلبث ان استيقن انه لم يصنع شيئا. فهو يعتزل الناس ولكن الناس لا يعتزلونه، يعرض عنهم فيقبلون عليه، يقعد عنهم فيسعون إليه، يكف عنهم حياءوه لهم وإشفاقه عليهم فيحملون إليه حياءهم منه، وإشفاقهم منه، ويغلون في ذلك يحسبون انهم يخدعونه عن انفسهم، أو يحسبون انهم يخدعون انفسهم عن انفسهم. فلما استيأس صاحبي من نفع هذه العزلة، واستيقن له انه لا امل له في ان يظفر بنفسه صافية وقلبه طاهرا، وضميره حيا، إلا ان ترك البيئة كلها وهاجر من ارض إلى ارض، وارتحل عن وطن إلى وطن، اسر ذلك في نفسه واظهر لنا معشر أصدقائه المخادعين له ولانفسنا مثل ما كان يظهر من حسن اللقاء ولطف المؤانسة حين كنا نزوره ونجلس إليه. ثم سعيت إليه ذات يوم لاقضي معه ساعة من ساعات الفراغ، وما اكثر ساعات الفراغ في حياتنا نحن المصريين فلم اجده، وسألت اين يمكن ان يكون فلم ادلل عليه. وسألت متى يمكن ان يعود لم انبأ بشىء. فعدت محزونا لا لأنني لم القه، بل لاني لم الق عليه ثقل ما كنت احتمل من الضجر والضيق والفراغ، ولاني لم الق في نفسه اني اوثره بالحب، واعتقد انه يؤثرني به. لاني لم اهد إليه شيئا من هذا الرياء الذي يهديه بعضنا إلى بعض في كل يوم، لم اتلق منه شيئا من هذا الرياء الذي يتلقاه بعضنا من بعض في كل يوم، رجعت محزونا لان الأداة لم تؤد بعض ما كانت يجب ان تؤدى من التمثيل. وعدت إلى صاحبي التمسه فلم اجده، واخذ أصحابنا يلتمسونه فلا يجدونه وكلهم شعر بمثل ما شعرت به، وكلهم يتحدث إلى نفسه بمثل ما تحدثت به إلى نفسي من الحزن وخيبة الامل، وقليل منهم يتحدث إلى الناس بمثل ما اتحدث به اليك الان ايها القارئ العزيز. ثم انقضت الاسابيع والاشهر، وإذا انا اتلقى صباح اليوم منه هذه الاسطر التي دفعتني إلى كتابة هذه الفصل. واحسب اني لن اجيبه إلا بارسال هذا العدد من الرسالة إليه. فقد عرفت عنوانه الان. كتب الي يقول: كتابي اليك ايها الصديق من بلد ناء فررت إليه بنفسي وضميري من بلد تفسد فيه الضمائر والنفوس، واثرت ان احيا فيه فردا مع نفسي على ان احيا عندكم حياة الأدوات لا حياة الناس، ولقد كنت اظن اني فارقتكم إلى غير رجعة، ورحلت عنكم إلى غير عودة. وسئمت حياتكم سأما لأحد له، وكرهتها كرها لا اعرف له قراراً، وعجزت عن احتمال أيسر اثقالها. واعترف باني سعدت بهذه الهجرة سعادة خصبة حقا، واستكشفت فيها نفسي، نعمت بهذا الاستكشاف، وانست فيها إلى ضميري، واستمتعت بهذا الانس، ولكني لم البث في هذا البلد شهرا أو شهرين، حتى احسست ان نفسي لا تكفيني، وحتى ضقت باطالة النظر في المرآة، حتى ذكرت الأصدقاء فنفرت من ذكر الأصدقاء، وفزعت منهم إلى الكتب حينا، إلى مناظر هذه الطبيعة الرائعة حينا اخر، وما زلت ايها الصديق مطمئنا إلى هذا المعقل الذي آويت إليه، واعتصمت به ولكن انظر! ها أنذا اكتب اليك، وما كتبت اليك إلا لاني فكرت فيك، وما فكرت فيك إلا لان نفسي نازعتني إلى حديثك، وإذن فقد ابت حياتي تلك إلا ان تتبعني في هجرتي وتقتحم علي هذا المعقل الذي لجأت إليه، وكل ما اتمناه إلا تغلبني على نفسي، ولا تخرجني من معقلي، وان تكتفي بزيارتي والإلمام بي من حين إلى حين. فأكتب إلى واطل فقد يظهر ان الحياة التي ترتفع ارتفاعا خالصا عن كل ما نكره من النقائص شئ لا سبيل إليه، وأما انا فقد جربت الضيق بالحياة في مصر والفرار منها، وانا زعيم لكم ايها الأصدقاء بان صاحبكم سيعود اليكم متى انقضى الصيف ومن يدري، لعل الحياة ان تكون قد عادت إلى شئ من الامن والدعة والهدوء، فتتفتح الأبواب، وترفع الحجب والأستار، لا نحتاج فيما بيننا إلى اصطناع الرياء، أو إلى اصطناع المجاملة. ثم لا يستحي بعضنا من بعض، ولا يستحي بعضنا لبعض.

طه حسين