مجلة الرسالة/العدد 438/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
→ لا تقولوا أين الكتاب | مجلة الرسالة - العدد 438 مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية [[مؤلف:|]] |
التطور البشري ← |
بتاريخ: 24 - 11 - 1941 |
2 - ديوان البارودي
للدكتور زكي مبارك
الذاتية البارودية: ما رواه الكاظمي وما رواه النقراشي -
منابع الشاعرية البارودية: الشقاء بالحب، والشقاء بالمجد،
والشقاء بالناس - وصف الحرب الروسية - البارودي في
منفاه - جنازة البارودي: هل حملت على مدفع؟ وهل ودعها
رجال الجيش؟. . .
في الكلمة الماضية نصصنا على بعض الملامح من شخصية البارودي، في سياق الكلام عن المقدمة التي كتبها الدكتور هيكل باشا للديوان. واليوم ننص على ملامح جديدة تعين الطلبة على إدراك الشمائل النفسية والذوقية لذلك الفارس الفنان.
فمن هو البارودي في شخصيته الذاتية؟
لم يتفق لي أن أهتمَّ بمعرفة ذاتية البارودي من الذين عاصروه وكان ذلك في الإمكان، فقد كانت لي صلات مع الشاعرَين العظيمين: شوقي وحافظ؛ وكنت أستطيع أن أعرف منهما أشياء لو أني التفتّ إلى هذه الناحية. . . على أن الالتفات إلى هذه الناحية لم يكن كل ما ضاع مني، فقد كان في نيتي أن أسأل (شوقي) عن تفسير الإشارة التي مرَّت في كلمته الوجيزة وهو يقِّدم كتاب الدكتور محمد صبري (أدب وتاريخ)، فقد قال كلاماً يشهد بأن للثورة العرابية أسراراً أخطر من أن تذاع، ثم مضت الأيام والسنون، ومات (شوقي) قبل أن أسأله عن المراد بذلك التلميح.
ومع هذا، فقد أراد القدَر أن تساق إليَّ أخبار البارودي بدون أن أتجشم عناء الاستخبار، بفضل السهرات التي قضيتها مع الشاعر عبد المحسن الكاظمي في أعوامه الأخيرة، وكان من جيراني، وكنت أغتنم الأنس بحديثه كلما سمحت الظروف.
ومن أحاديث الكاظمي عرفت أن المروءة المصرية تمثلت لعينيه في شخصيتين كريمتين: الأولى شخصية محمد عبده، والثانية شخصية محمود سامي؛ ولا أريد في هذا المقام أن أذكر ما كان بين الشيخ محمد عبده والشيخ عبد المحسن الكاظمي، فقد فصّله الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا أجمل تفصيل في أبحاث يعرفها جمهور القراء، وأنا أبغض الحديث المعاد.
أما حديث الكاظمي عن البارودي، فهو عجب من العجب. كان البارودي على ألسنة أصحابه يتمتع بلقب (الأمير)، ويقول الكاظمي: إن البارودي كان (أميراً) في جميع شمائله الذاتية. وقد أكد الكاظمي هذا المعنى في أحاديثه معي عشرات المرات، وما كان اسم البارودي يجري على لسانه إلا ظهرت على وجهه إمارات الحزن الوجيع، وقد سألته مرة عن سر هذه الحال فقال:
كنت أسكن في حارة (قِرمز) بحي الجمالية، وكان مسكني بغرفة صغيرة فوق سطح البيت، وكان السُّلَّم مهدّم الدرجات وبدون درابزين، وكان البارودي يرى من أدب (الإمارة) أن يردَّ الزيارة لكل غريب؛ وكنت يومئذ من الغرباء، فقد كنت حديث العهد بالقدوم من العراق. وفي إحدى الزيارات تخوّف البارودي من ذلك السلم لضعف بصره، فاعتمد بيده على الحائط، فنفذ مسمار في كمه، فمزقه أشنع تمزيق، وما ذكرت ذلك الحادث إلا تألمت لما كان يعاني (الأمير) في سبيل الوفاء!
ومن هذا الخبر البسيط نعرف كيف كان البارودي في شمائله الذاتية، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان مفتوناً بالمجد أعنف الفتون، وأن الأريحية المصرية كانت ملء برديه، عرفنا أنه كان بطبيعة نفسه من الأمراء بغض النظر عن مجده الموروث.
وهنا يتسع المجال لنادرة ذوقية تعد من الصور الشعرية، وهي نادرة حدثني بها الأستاذ الكبير محمود فهمي النقراشي باشا في سنة 1931، وقال:
كان البارودي يعرف مصيره بعد انهزام الجيش المصري في موقعة (التل الكبير) فاستدعى أحد أصدقائه من أعيان مديرية الغربية وأخبره أن في خزائنه كثيراً من الذخائر الذهبية، وأنه يخشى أن تصير تلك الذخائر من غنائم المنتصرين، ثم فوق بصره إلى ذلك الصديق وقال: هذه الذخائر وديعتي عندك، فإن نفاني الإنجليز ومتَّ في منفاي فهي لك مال حلال، وإن أرادت الأقدار أن أرجع إلى مصر حياً بعد النفي فالنصف لي والنصف لك.
وبعد سبعة عشر عاماً عاد البارودي من منفاه، وطلب نصيبه من تلك الذخائر الذهبية، فأنكرها ذلك الصديق، وأظهر استغرابه من أن تكون للبارودي عنده ودائع، وقد خرج من مصر وهو حَرِيب سليب (؟!)
واتفق أن يمرض ذلك الصديق الغادر بعد شهور قصار مرض الموت، فتجشم الشيخ محمد عبده مشقة الانتقال إليه ليفهمه أن (الدنيا لا تغني عن الآخرة) وأن من واجبه أن يردّ بعض تلك الديون ليلقى الله وهو خفيف الأوزار، فجادت نفس ذلك المحتَضر بعشرة آلاف وهو ينتظر أن يقبلها البارودي مع الحمد والثناء (؟!)
وجاء الشيخ محمد عبده إلى البارودي بصرَّة ثقيلة فيها عشرة آلاف من الجنيهات المصرية، وهو يرجو أن يكون في تلك الصرة عزاءٌ للبارودي عن بلواه بذلك العقوق
فماذا وقع؟ نظر البارودي إلى الصرة نظر الليث الشبعان إلى الثمر المعطوب، وصاح: (لن آخذ درهما من هذه الألوف، ويجب أن ترد حالاً إلى سارقها قبل أن يموت، لتكوى بها جنوبه وهو مرموس، وله الويل إن وقع بصري عليه يوم الحساب أمام الواحد الديان)
هنا تنتهي رواية النقراشي باشا، وقد بقى من الرواية فصل، فما هو ذلك الفصل؟
حدثني من عرفوا الشيخ محمد عبده أنه كان يضفي بره وعطفه على من يقرأ في حضرته بيتاً من الشعر بفهم وإدراك؛ فكيف يكون حاله وهو يشهد هذه الصورة الشعرية؟
من المؤكد أن الشيخ محمد عبده قد طرب لإيمان البارودي، وعظمة البارودي، وإباء البارودي. ومن المؤكد أن هذه الواقعة أقنعته بأن مصر لا تزال بعافية، وأنها ستكون إلى الأبد من أكرم المنابت لأحرار الرجال
أكتب هذا وأنا أذكر أن هيكل باشا قال في تقديم الديوان أن البارودي (وُلد بمصر) فبأي مكان من (مصر) وُلد هذا الفارس الشاعر؟ وفي أي مكان مات؟
في شارع (غيط العدة) بالقاهرة دار تسمى (سراي البارودي) وهي سراي عبثت بها مصلحة التنظيم ففعلت بها الأفاعيل، ولم يبق منها غير جانب هو اليوم (مخزن) لبعض المتجرين في توافه الأشياء
فإن لم يكن البارودي وُلد في تلك الدار ففيها أبت يده أن تتسلم عشرة آلاف من الجنيهات لغرض تعجز عن وصفه ألوف القصائد والأقاصيص. ومن واجب (مصلحة الآثار العربية) أن تستبقي أطلال تلك الدار يوم تفهم أن الأدب له قدسية تفوق قدسية التاريخ
إن الفرنسيين أبقوا على منزل مضعضع الأركان بشارع سان جرمان في باريس، لأنه مولد شاعرهم (ميسَّيه)، وإلى ذلك المنزل يحج عشاق الأدب الفرنسي. فهل يعرف شبان مصر أين يقع منزل شاعرنا البارودي في القاهرة، وأين تقع دار هواه في حلوان؟
إلى الله المشتكي من ضياع الأدب في هذه البلاد، ومنه نستمدَّ العون على ما يعاني الأدب من ثرثرة أهل البغي والعقوق!
منابع الشاعرية البارودية
الشعر فيض من الشعور بحقائق الوجود، وهي حقائق يحسها الناس بمقدار، ويحسها الشاعر بقوة لا تتاح إلا لمن كان في مثل روحه المتوقد وخياله الوثاب
والذي ينظر في أشعار البارودي يجده أحس الحياة أعنف الإحساس، ويراه انطبعَ على الشعور بما فيها من شهدٍ وصاب
وأقوى باعث عند البارودي هو الفُتُوّة، فوجهه يشهد وآثاره تشهد بأنه كان من أكابر الفتيان
وفتوة البارودي فتوة أصيلة تأخذ وَقودها من القلب والروح، فهي التي أشقته بالحب، وأشقته بالمجد، وأشقته بالناس
تنظر إلى البارودي المحب فترى فتىً فاتك الصبوات في قدسية وجلال، فتفهم أن الحب شريعة وجدانية لا يتردد الفتى في اعتناقها ولو كان رئيس الوزراء. فالحب عند البارودي ليس نزوة شباب يُطلب منها المتاب، وإنما هو جذوة روحية تصل صاحبها بسرائر الوجود، وترفعه إلى أوج الخلود
هل قرأت أشعاره في الحنين إلى روضة المقياس؟
وهل تذكر أنه أول شاعر في العهد الحديث تغنى بصبوات القلوب على شواطئ النيل؟
وهل تعرف أنه صدَح بتلك الأغاني في أوقات كان فيها الغَزَل فناً لا يليق بعظماء الرجال؟
إن البارودي مجّد الفتوة المصرية بتلك الأغاريد، وجعل لمصر مكاناً في ضمير الوجود، فما تطرب الأريحية الإنسانية لأكرم ولا أشرف من التغني بأوطار الأرواح في مثل معاهد الجيزة والروضة وحلوان، وهي معاهد جهلها الشعراء، ونَدَر فيهم من يعرف وجوهها الصِّباح وفي أي عصر هتف البارودي بتلك الأغاريد؟
في العصر الذي كان فيه بدء كتب الشعر بالبسملة موضع خلاف بين جمهور المؤلفين
ثم ننظر فنرى الشاعر بمطالع الأقمار على شواطئ النيل قد امتشق السيف ليواجه الحرب في كريت، أو ليخوض البلاء في فجاج الأراضي الروسية، وهو في هذه الموقعة أو تلك لا ينسى مواقع هواه في ملاعب الجيزة والروضة وحلوان
إن حائية البارودي في وصف الحرب الروسية لو تُرجمت اليوم ووُزْعت على جنود الروس والألمان لرأوها من الأعاجيب، وفيها يقول:
لعمري لقد طال النوى وتقاذفت ... مهامه دون الملتَقى ومطاوحُ
وأصبحت في أرض يحارُ بها القطا ... وتَرهبها الجِنان وهي سوارح
بعيدة أقطار الدياميم لو عدا ... سُلَيْكٌ بها شأواً قضى وهو رازح
تصيح بها الأصداء في غَسَق الدجى ... صياح الثكالى هيجتها النوائح
تردّت بسمُّور الغمام جبالها ... وماجت بتيَّار السيول البطائح
فأنجادها للكاسرات معاقلٌ ... وأغوارها للعاسلات مسارح
مهالك يَنسى المرء فيها خليله ... ويندرُ عن سوم العلا من ينافح
فلا جوْ إلا سمهريّ وقاضبٌ ... ولا أرض إلا شمْريُّ وسابح
ترانا بها كالأسد ترصد غارةً ... يطير بها فتقٌ من الصبح لامح
مدافعنا نصب العدا ومُشاتُنا ... قيامٌ تليها الصافنات الفوارح
ثلاثة أصناف تقيهنَّ ساقةٌ ... صياح العدا إن صاح بالشر صائح
فلست ترى إلا كماةً بواسلاً ... وجُرداً تخوض الموت وهي ضوابح
نغير على الأبطال والصبح باسمٌ ... ونأوي إلى الأدغال والليل جانح
بكى صاحبي لما رأى الحرب أقبلتْ ... بأبنائها واليوم أغبر كالح
ولم يك مبكاه لخوفٍ وإنما ... توهمَّ أني في الكريهة طائح
فقال: اتئد قبل الصيال ولا تكن ... لنفسك حرباً إنني لك ناصح
ألم ترى معقود الدخان كأنما ... على عاتق الجوزاء منه سرائح
وقد نشأت للحرب مزنة قسطل ... لها مستهل ? بالمنية راشح فلا رأيَ إلا أن تكون بنجوة ... فإنك مقصود المكانة واضح
فقلت: تعلّم إنما هي خطة ... يطول بها مجدٌ وتخشَى فضائح
فما كل ما ترجو من الأمر ناجعٌ ... ولا كل ما تخشى من الخطب فادح
فهذه الحائية من عيون الشعر العربي، ولو سمعها أبو فراس لسجد لها سجود الإعجاب، فما عرفت اللغة العربية من الشعراء الفرسان افحل من البارودي وأبي فراس
وللبارودي في الحرب الروسية قصيدة أخرى هي الدالية، ولكن أي قصيدة؟ تلك أقباس لا تصدرُ إلا عن روح مَرِيد، من أرواح الفتيان الصناديد، وفيها يخاطب أحبابه في مصر فيقول:
نأت بيَ عنكم غربةٌ وتجهّمتْ ... بوجهيَ أيام خلائقُها نُكدُ
أدور بعيني لا أرى غير أمةٍ ... من الروس بالبلقان يخطئها العدُ
جواثٍ على هام الجبال لغارةٍ ... يطير بها ضوء الصباح إذا يبدو
إذا نحن سرنا صرَّح الشر باسمه ... وصاح القنا بالموت واستقتل الجند
فأنت ترى بين الفريقين كبَّةً ... يحدث فيها نفسه البطل الجعد
على الأرض منها بالدماء جداولٌ ... وفوق سراة النجم من نقعها لِبد
إذا اشتبكوا أو راجعوا الزحف خلتهم ... بحوراً توالى بينها الجزر والمدُ
تشلّهمُ شلَّ العِطاش ونت بها ... مراغمة السُّقيا وماطلها الورد
فهم بين مقتول طريح هارب ... طليح ومأسور يجاذبه القِد
نروح إلى الشورى إذا أقبل الدجى ... ونغدو عليهم بالمنايا إذا نغدو
ونقع كلج البحر خضت غماره ... ولا معقل إلا المناسل والجرد
صبرت له والموت يحمّر تارةً ... وينغل طوراً في العجاج فيسود
فما كنت إلا الليث أنهضه الطوى ... وما كنت إلا السيف فارقه الغمد
صئول وللأبطال همس من الونى ... ضروب وقلب القرن في صدره يعدو
فما مهجة إلا ورمحي ضميرها ... ولا لَبَّة إلا وسيفي لها عِقد
وما كل ساغ بالغ سُؤل نفسه ... ولا كل طلاَّب يصاحبه الرشد
إذا القلب لم ينصرك في كل موطن ... فما السيف إلا آلة حملها إدُّ وقد تحدث في هذه الدالية، كما تحدث في الحائية، عن شوقه إلى مصر ولياليها البيض بروح لم يتحدث بمثله أحد من الشعراء الذين سبقوه إلى الحديث عن معاهد الوجد بهذه البلاد
ثم يقضي القَدَر في مصير البارودي بما قضاه، فيشترك في الثورة العرابية، وتقع أحداث وخطوب تنقل وطنه من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود، ويلتفت فيرى دنياه خلت من الرمح والسيف، ولم يبق إلا أن يعيش في جحيم النفي والاغتراب بلا ظفر ولا ناب
لم يكن للبارودي نية في الثورة العرابية، فنحن نرجح أنه اشترك فيها بلا قلب، ولو كان من جناتها لصار التاريخ غير التاريخ فقد كان من مغاوير الأبطال، وكان يستطيع أن يرد المكروه عن بلاده لو آمن بما آمن به العرابيون، وكان يستطيع على الأقل أن يظفر بالاستشهاد في ميادين الجهاد
ومعنى هذا الكلام أن البارودي كان يملك التنصل من تبعة الثورة العرابية ليسلم من التأذي بعواقبها السود، ولكن فتوته أبت عليه أن يقف ذلك الموقف البغيض. فشارك إخوانه في البأساء، واستسلم لحكم القضاء، في سبيل الوفاء
نُفيَ البارودي إلى سرنديب وهو في يأس من المعاد. فقد كانت الظروف الدولية تنطق بأن لا أمل في تغيير مركز مصر السياسي، وكانت الأخبار توافيه بأن مصر ضعيفة الرجاء في زحزحة الاحتلال.
وفي تلك المدة كانت أحوال أهله في مصر تنتقل من ظلمات إلى ظلمات لغياب راعيها الأمين، فكان روحه ينتقل من جحيم إلى جحيم.
هل رأيت الأسد المأثور في حديقة الحيوان، ولاحظت أنه يزأر من وقت إلى وقت ليسري عن نفسه بالزئير مع اليأس من الحرية؟
كذلك كان البارودي، فما ترك الشعر الحماسي في أعسر أوقات الضيق والكرب؛ ولا سمحت نفسه بأن يتوب من الغطرسة والاستعلاء
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش ... بها بطلاً يحمي الحقيقة شدُّهُ
وإني امرؤ لا أستكين لصولة ... وإن شد ساقي دون مسعاي قده
ويطول بلاء البارودي في منفاه، ويستيئس من الأمجاد الحربية، فيقبل على الأمجاد الأدبية ليضمن لنفسه الخلود
وفي تلك الآماد من البلاء يلتفت البارودي التفاته جدية إلى ماضي الشعر العربي فيضعه في الميزان ليختار من أطايبه ما يشاء
وهل كان معاصرو البارودي يعرفون من ماضي الشعر العربي مثل الذي يعرف؟
ثم تسمح الدنيا بأن يلقى البارودي وطنه بعد اليأس من اللقاء، ولكن لا يعيش في رحاب الوطن غير أعوام قصار قضاها وهو أشبه بالمكفوف، ولعله لم يمت إلا حين عرف أن القاهرة لن تكون أمام عينيه إلا سواداً في سواد، وكانت لياليها أشد إشراقاً من الصباح
ولم يتسع الوقت فأرجع إلى الجرائد المصرية في أواخر ديسمبر سنة 1904، لأعرف كيف كانت جنازة البارودي، وأغلب الظن أنها لم تحمل على مِدفع ولم يشترك في توديعها رجال الجيش رعاية لبعض الظروف الثقال، مع أن البارودي كان من نماذج البطولة المصرية في ميادين الحروب
انتهت دنيا البارودي، وانقضى ما كان يعاني من بوائق الغدر والجحود، وبقى للبارودي ما لم يبق لأمثاله من رجال السيف، بقى شعره المسطور على ضمير الزمان، والشاعر الصادق أخلد من الخلود
زكي مبارك