الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 437/أدب اليوميات

مجلة الرسالة/العدد 437/أدب اليوميات

مجلة الرسالة - العدد 437
أدب اليوميات
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 11 - 1941


للأستاذ عباس محمود العقاد

(1). . . هل تكتبون مذكرات يومية، أو هل في نيتكم كتابة مذكرات أو تدوين ترجمة لحياتكم الحافلة كما يفعل كتاب الغرب؟ وهل لا توافقونني على أن كتاباً كهذا تصفون فيه ما صادفكم من عقبات وما تغلبتم عليه من الصعوبات، وتقصون فيه ما لا يعرفه الكثيرون عن حياتكم الشخصية والأدبية والسياسية يكون درساً مفيداً لشبان هذا الجيل والأجيال المقبلة؟

(2) هل معنى عدم إقدامكم على الزواج إلى الآن أن الحياة الزوجية تقيد رجل الفكر أو تشغله عن أداء رسالته، أم أنكم لم تهتدوا إلى المرأة التي ترونها المثل الأعلى المفكر؟

(3) لكل إنسان أماني وآمال ومطالب، ومطالب من عاش لا تنتهي. . . وهي تختلف باختلاف الأحوال والأيام؛ ولكن ترى ما هي أعظم أمنية تتوقون إليها في الحياة؟

(الإسكندرية)

أحمد عبد اللطيف الحضراوي

بالمعهد البريطاني

هذه فقرات من رسالة وصلت إلي من الأديب صاحب الإمضاء المتقدم، وفي الجواب عن بعض أسئلته ما يصح أن يشترك فيه حضرات القراء، لأنه من موضوعات الكتابة العامة التي تطرق في الكتب والمجلات

وأول هذه الأسئلة سؤاله عن المذكرات اليومية وما أدونه منها الآن أو بعد حين

وجوابي عن هذا السؤال أنني بدأت حياتي الأدبية - منذ الدراسة الأولى - بكتابة المذكرات والتعليقات على ما أطالع وأشاهد في كل يوم، وإنني لم أنقطع عن هذه المذكرات إلا في السنوات الأخيرة التي لا تتجاوز خمس سنوات

فأول كتاب صدر لي هو (خلاصة اليومية) واسمه يدل عليه. فقد كان تلخيصاً لما أثبته في مذكراتي اليومية من الآراء والملاحظات والأصول التي أتناولها بالتوسع إذا خصصتها بالكتابة ثم ألفت كتابي (ساعات بين الكتب) وهو غير الكتاب الذي طبع بعد ذلك بهذا العنوان. فإنما كان الكتاب الأول تعليقات القراءات التي تفرغت لها وأنا مقيم في أيام الحرب الماضية بأسوان، ولم يكن مجموعة مقالات أو فصول نشرت في الصحف كالكتاب الذي يحمل الآن هذا العنوان

لكن المذكرات اليومية نوعان وليست بنوع واحد؛ فهذا الذي ذكرته مقصور على الفكر والقراءة كأنه فصول صغيرة أو موضوع متفرق في عدة صفحات، وهو النوع الذي أكثرت من الكتابة فيه، وعندي منه الآن مجموعة صالحة في انتظار الطبع كما هي، أو في انتظار التوحيد والتأليف، لأنها تصلح لهذا وذاك

أما النوع الآخر وهو المذكرات عن حوادث الحياة وعوارضها فلم اشرع في الكتابة فيه إلا مرة واحدة طالت بضعة شهور، ثم مزقت ما كتبت وأحرقته ولم أعد إلى تجربة الكتابة في هذا النوع مرة أخرى، ولعلي لا أعود

ولكني لا أحكم على أدب اليوميات كله بالتمزيق والإحراق من أجل أنني اضطررت إلى تمزيق ما كتبت وإحراقه؛ لأن أسبابي غير أسباب الآخرين، وموانعي غير موانعهم، والمحظورات التي أتقيها غير المحظورات التي يتقونها

فالواقع أنني من أرغب الناس في قراءة اليوميات والانتفاع بها، وهي في اعتقادي أنفع القراءات للمؤرخ والمستطلع لأحوال الأمم وسرائر النفوس، ولاسيما المكتوب منها بخلوص نية لا يشوبها التكلف والرياء، ومعظم كتاب اليوميات ممن يتوخون خلوص النية وصدق الرواية عندما يخلون إلى صفحاتهم الخفية، لأن المسألة عندهم (ظاهرة نفسية) أشبه بالتوجه إلى محراب الاعتراف وكأنهم يخففون أعباء ضمائرهم بإلقائها عنهم في صفحات مسجلة يرجعون إليها ويؤمنون بصدقها وأمانتها، كما يخفف الإنسان أعباء ضميره بالإفضاء إلى صديق أمين؛ فهم مسوقون إلى صدق الكتابة بهذا الشعور العجيب الذي لا يستريح إلى غير الأمانة، وفي هذه الراحة ضمان للقارئ أو ضمان للحقيقة أقوى من ضمان المحاسبة والبينات

ولليوميات أدب مستفيض في اللغات الأوربية عامة وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية، وهذا الأدب موضع دراسة المؤرخ والناقد النفساني، والفيلسوف، والباحث العلمي، وكل من تعنيه سير الجماعات والأفراد؛ يشتركون في دراسته وبحثه تارة لبيان الأسباب التي تدعو الناس في فترة خاصة من الزمن إلى تدوين مذكراتهم والعكوف على أسرار ضمائرهم بمعزل عن الجماهير وشوا غلهم العلنية، وتارة لتحقيق الوقائع واستكشاف دخائل الرجال، ويأتون في جميع هذه التعليلات والتخريجات بما يلذ الوقوف عليه ويفيد!

وما من كاتب يوميات في الحقيقة إلا وهو ظاهرة نفسية كثيرة البدوات والغرائب، كثيرة الجوانب التي تتعلق بها مباحث النفسانيين والحكماء. وقد أشرت إلى طرف من ذلك في مقدمتي للجزء الثالث من مذكرات أحمد شفيق باشا رحمه الله حيث قلت عن يوميات صمويل بيبيز أنها موضع الحيرة عند بعض النقاد، (فلا هم قادرون على أن يجزموا بأنه كتبها لنفسه، لأن الإنسان لا يكتب كل هذه المجلدات وكل هذه الحوادث ليطلع عليها وحده، ولا هم قادرون على الجزم بأنه كتبها للأجيال المقبلة، لأنه كشف فيها أسراراً عن سيرته وسيرة أقربائه، كان معروفاً انه يخفيها اشد الإخفاء ويود لو يتعقبها بالمحو والنسيان)

ثم ضربت لذلك أمثلة شتى منها أن مسألة من المسائل البيتية كدرته فأتلف جميع أوراقها وأسانيدها ثم عاد إلى مذكراته فدون فيها جميع تلك الأوراق والأسانيد بأقصى ما استطاع من إسهاب وتفصيل!

هذا هو العجب، وهذا هو موضع التأمل والدراسة، وهذا الذي يجعل اليوميات مرجعاً صادقاً لدارس الحوادث ودارس الأخلاق.

فآنا لا أدين أدب اليوميات كله لأنني احترقت يومياتي ولم يخطر لي أن أعيد التجربة مرة أخرى

وإنما يباعد بيني وبين كتابة اليوميات أمران كلاهما حقيق بالإثبات لأنهما أيضاً من ظواهر النفسيات وظواهر الفترة التي عشت فيها

وأول الأمرين إنني غير مطبوع على التوجه إلى محراب الأعتراف، لأنه ضرب من الاستغفار لا أستريح إليه، أو لأنني ادخر لنفسي خفاياها وأنزها عن البوح لأحد غير مستثن من ذلك إلا القليل

فالمسألة التي تلعج خاطري وتثير شعوري وتتسرب إلى أعماق ضميري ليس مصرفها عندي أن أسجلها كما هي أو أفضى بها إلى أذن سامع قريب، وإنما مصرفها أن اعبر عنها في الشعر والكتابة، وأن أعرضها للتحليل والتقليب على وجوه شتى. فإذا حللتها واستخرجت معناها فقد استرحت منها وفتحت مغالقها ولم يبق فيها عندي موضع للمعالجة والاستقصاء

ورب كارثة نفسية من المقيمات المعقدات تسكن كما يسكن البحر الهائج في لحظة واحدة ساعة انتهائي إلى مقطع الرأي فيها، أو ساعة علمي بما ينبغي أن أقابلها به من عمل. وهذا الذي ينوب في طبيعتي مناب الإفضاء والبوح وما أسميه التوجه إلى محراب الاعتراف

أما الأمر الثاني الذي دعاني إلى إحراق يومياتي فهو راجع إلى حوادث الفترة التي نعيش فيها لا إلى البواعث الخلقية

وخلاصة إنني دونت تلك اليوميات لأستعين بها على تاريخ الفترة وتحليل أخلاق رجالها. ثم رأيت في أثناء الثورة الوطنية وبعدها بقليل أن ملفقي التهم ومدبري المكائد يستعينون بأمثال هذه اليوميات على طبخ القضايا وإحراج الأبرياء، وظهر لي أن إثبات ملاحظاتي على رجال الفترة من العسر بمكان مع تعرض اليوميات للمصادرة والسؤال، فآثرت إحراقها أيام اشتداد المحكمات والمصادرات وأحرقت معها رسائل شتى وصوراً وأوراقاً لها في حياتي الخاصة اثر لا يزول، وفاتني بإحراق هذه وتلك نفع كبير في مراجعة الحوادث التاريخية وصيانة الذكريات النفيسة، ولكنه اقل من الضرر الذي كنت متعرضاً له ومعرضاً له غيري لو أبقيت عليها وحدث ما كنت أتوقعه بسبيلها

على أنني ودعت كتابة اليوميات ولكني لم أودع كتابة المذكرات أو كتابة ما يقول عنه الأديب صاحب الخطاب انه قصة من الحياة الشخصية والأدبية والسياسية تكون درساً مفيداً لشبان هذا الجيل والأجيال المقبلة

ففي نيتي وأمام ذهني كتاب كبيراً كسره على أجزاء منفصلة وأفرغ كل جزء منه لناحية مستقلة تتناول حياة الأديب وحياة الصحفي والنائب والسياسي معاً وحياة الإنسان في خاصته وعامته وحياة الباحث عن نفسه وكونه وإلهه وسائر ما يتصل بالعقيدة والسريرة الدينية

ويخيل إلى أنني لو فرغت سنة واحدة مكفي المؤونة استطعت أن أفرغ من أجزاء هذا الكتاب كلها بغير عناء كبير، لأن أصوله وموضوعاته قلما تحوجني إلى مراجعات تفصيلية بعيدة من الذاكرة والوجدان

تلك كلمتي الموجزة في اليوميات، وما كتبت منها وأنوي أن أكتب بعد حين

أما سؤال الزواج، فقد أجبت عنه في (الرسالة) جواباً يغني فيه الأجمال عن الإسهاب، وكل ما أزيده هنا أنني استغرب المصادفة التي ساقت ألي أربعة أسئلة في شأن الزواج خلال شهر رمضان، وان كان أحدهما لا يستغرب في وقت من الأوقات، لأنه مزمن يأتي من السيدة الوالدة على غير ميعاد! فهل شهر رمضان - وما يعقبه من أفراح الأعياد - هما المسئولان عن مصادفة الأسئلة الثلاثة الأخرى؟

وأما أمنيتي التي يسألني الأديب عنها سؤاله الأخير، فلعلها لا تشرح في ذيل هذا المقال، وأحرى بها أن تؤجل إلى مقال قريب، لأنني لا اطرق منها جانباً يخصني دون غيري؛ بل أطرق منها ما يصح أن يمتد إليه كل بحث وينظر فيه كل ناظر

عباس محمود العقاد