الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 436/تعقيب على رأيين

مجلة الرسالة/العدد 436/تعقيب على رأيين

بتاريخ: 10 - 11 - 1941


في الغناء والموسيقى بمصر

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

في مصر بصيص من العلم والفن مشى بنوره الأقلون، وبان لبعضهم حقائق واقعة في وطنهم، مانعة من إصلاح الفاسد وتيسير الرقي، فمالوا طبعاً إلى كشفها لقومهم بشتى الأساليب في سبيل المصلحة العامة. ومن هؤلاء أحيانا من يخص الغناء والموسيقى ببعض ما يكتب.

هذا موضوع قد يتناوله كتاب تدفعهم إلى البحث فيه مصالح خاصة، أو أهواء ليست في شيء من غرض الإصلاح، أو مقرونة بقصده، فيسيئون إلى أمتهم، أو يكون ضرر صنيعهم أكبر من نفعه. أما دعاة الإصلاح الصادقون فلا غرض لهم سواه؛ وهم لا يوجهون نقدهم إلى أشخاص معينين، بل يكشفون حقائق طور من الأطوار أدت إليه عوامل عامة أحدثت هذه الحال الشاملة التي لا يلام عليها الأفراد من مؤلفي الأغاني والملحنين والمغنين والموسيقيين.

على أن المعلمين والمثقفين، المتفوقين من أهل الفن، يلام الواحد منهم إذا هو وقف من كلام النقاد على حال فنه الحقيقية السيئة، فلم يجتهد في إنقاذه منها بما في وسعه ولو كان مقصوداً بنقد، أو واهما ذلك: لأن كل محب لفنِّه ليس يبالي إلا بما يرفع من شأن الفن. والإصلاح آت، وإن كان مما لا يتحقق في لحظة. وأغلب الظن أن الذين يمهدون طرقه، أو تتاح لهم فيها فتوح، سوف يظهرون من هذا الفريق؛ ولا يعادل انتصار على ناقدٍ لذة مسابق يسبق إلى مثل هذا الفوز وينال شرفه.

ثم إن أولئك الدعاة ينظرون إلى المستنيرين المخلصين لفنونهم ويأملون الآن منهم أن يؤمنوا أولاً بحقائق عيوبها، وأن يدركوا أن إزالة هذه العيوب يزيد الناجحين منهم نجاحا: فإن هذا الإيمان وهذا الإدراك هما مفتاح لباب الإصلاح. ولذا كان من النافع أن تتعرف آراؤهم فيما يلاحظ على الغناء والموسيقى بمصر.

أبدي شاعر نابه، عميق العاطفة، عذب الأسلوب، رأيه في هذا الموضوع بمقال جاء فيه أنه رأي، في سنة 1925، ما يهدد الأخلاق من شيوع (الأغاني المكشوفة) فدخل مضما النظم للغناء؛ وبث في الزجل (روح الشعر من الطهر والعفة)؛ وأدخل في نظمه (من أبحر الشعر ومجازاته ما وسع دائرته، وفتح للملحنين أبوابا كثيرة)؛ فتناولت الأغاني (أبواباً جديدة من الغزل البريء، كان أهم عناصره الأمل والوفاء، والذكرى والتضحية، وما إلى هذا من صفات الحب الروحاني).

صدق. وهو جدير بالشكر على نزعته الفاضلة إلى الإصلاح. غير أن الوفاء والتضحية، والذكرى والأمل، أشياء قد توجد عند محب عزيز أبي، وعند محب ذليل دني؛ وما وفاء هذا، مثلاً، كوفاء ذاك؛ وأساليب العبارات الصادرة عن الخصلة الواحدة في الاثنين، هي التي تصف لونها في كل منهما، لاختلافه باختلاف نفسيَّتيهما؛ فإن كان منظوم الشاعر الفاضل يمثل جله أو كله كلام المحب الأول، فإن منظوم غيره هو، في الأكثر، كلام الثاني وهو طاغ على الأغاني.

قال في المقال إن شعراء ناصروه في مذهبه فكانوا جميعاً أصحاب (المدرسة الحديثة). ولم تقتصر أغانيهم على الحب، (بل شملت أنواعاً من الوصف الرقيق في جمال الطبيعة)؛ وأنهم بأسرهم ينظمون للمسرح والسينما والحاكي والراديو، (وفي هذه الميادين مجال كبير للمعاني التي لا تذكر الحب)؛ وينظمون (تارة بالعربية الفصحى، وتارة بهذه العامية الفصحى).

صدق أيضاً. لكن كم من وصف الطبيعة في جملة ما يغنى؟ وهل جيد هذا الوصف بين أغانينا أوفر من رديئه؟ وهل أدرك المعاني الجيدة وغنى بها الملحن والمغني، وأداها كل منهما تأدية توافق المواقف المختلفة، وتشعر النفوس ببهجة الطبيعة؟ وكم نظم الناظمون للغناء من المعاني التي (لا تذكر الحب) في ذلك المجال الكبير بميادين المسرحيات وسواها؟ وما النسبة بين ما نظموا بالعربية الفصحى وبين ما نظموا بتلك العامية (الفصحى)؟ هذه الأسئلة أجاب عنها النقاد إجابة صحيحة بشهادة حال الغناء والموسيقى عندنا.

ومن كلامه: (القول بأن الغناء ينحدر في مصر فيه من القسوة شيء كثير، إذا قيس نتاج هذه السنين القليلة بعصور إسماعيل، وتوفيق، وعباس)؛ و (قد زال من قاموس الغناء ما كان في القديم من ذكر الدلع والخصر والكفل. . . والخمر ومجلسها، والنديم ودلاله)؛ و (انعدم من جو الغناء ذلك الغث المحدث، وليد الحرب والثورة)

أليس في هذا الكلام مبالغة إذا جرد منها انعكس معناه؟ فإن (جو الغناء) متسع لأكثر من جيد أغاني المجيدين من شعراء اليوم؛ وليس من كلامهم العف كل ما يغني، ولا أوفره؛ ولم ينعدم في الأغاني (ذلك الغث المحدَث) ولا ذكر الدلع والدلال. وقد يوصف يوصف جمال الإنسان بلا تمجن، كما يصوره المثال، وإنما العبرة بأسلوب الوصف. وكم يعبرون عن الشهوات الحسية بلهجة في اللحن وحركة في الغناء، فيأتي تعبيرهم الصوتي الماجن أبلغ من الكلمة الصريحة، ويثير غريزة الجمهور؛ وذكر الخمر والخصر خير من تمثيل الاستخذاء والذل.

والأهم أن تلك العصور كان، من الجهة الفنية، أرقى من غناء اليوم، إذ كان ملائماً لأغانيها، وأصدق بملاءمته تأدية لمعانيها، وأقرب إلى القلوب بصدقه وخلوه من التخليط المشوه للفن. وقد غنوا قصائد وتواشيح، وأدواراً سياسية، وعزفوا بشارف. ذلك عهد مضى عليه ربع قرن، وأصبح الغرب في مصر، وصاحت مصر في الغرب؛ وهي اليوم في عصر الجامعة، ومعاهد الموسيقى، والحاكي، والسنما، والراديو؛ ومع هذا كله فقد صرنا نؤدي الأغاني بخليط من الألحان كثيراً ما يتنافر فيه الترح والمرح، والشرقي والغربي، وبمزيج من أنغام معزف تضارب أنغام حناجر، في الغالب. ذلك بأننا تركنا الشعور والفهم وتبعنا السمع الضال والغريزة الجامحة والتقليد الأعمى. فليست الموازنة بين الماضي وبين هذا الحاضر في مصلحة نتاجه.

احتج، من غير موجب للتغني بالحب حيث قال: (كيف تخلو الأغاني من ذكر الحب، والله سبحانه وتعالى قد بنى الملك عليه وعمر. . . وليس في الوجود عاطفة أبعث للتضحية وأحيا للأمل، وأخلق للنبوغ من هذه العاطفة الكريمة)

ولكن أحداً من الناس نشر نقد له لم يقل بتجريد الأغاني من ذكر الحب، وإنما قالوا ألا يقصر الغناء عليه، وألا يقصر هو على العاشق الذليل البكاء: لأن حبه ليس من تلك (العاطفة الكريمة) في الإنسان السليم من الآفات النفسية والجسمية؛ وهو ضحية الاستهانة به، فبأي الأشياء يضحي بعد الكرامة؟ وأي أمل لميت الأحياء؟ وفي أي ميدان ينبغ راض بالخزي أو معجب بمثاله؟ واحتج للشكوى والاستعطاف بقوله: (لم تخل أغانينا من الشكوى والاستعطاف، فهما في مرآة القلب أبداً؛ ولكنها شكوى الحافظ للعهد، الباقي على الود، وهي ناحية في دمنا نحن المصريين. . . ولقد ألفت أغاني كثيرة في البطولة، والوطنية، والأخلاق. . . ودخل في أناشيد. . . معان جليلة في العزة والاستقلال؛ ولكن الطلبة، والجند، والشعب، لم يرددوا منها كثيراً ولا قليلاً)؛ و (ردد الناس أكثر ما رددوا هذه الشكوى فطغت على بقية الأغاني واتهم الغناء عامة باللين والميوعة)

فكأن اعتراض النقاد على الأغاني من الشكوى والاستعطاف سببه هما في ذاتهما، وإنما المنكر هو ذلك الروح العليل الذي ينفث الذل فيهما، وهو طغيانهما طغياناً يتفشى معه الاستخذاء بالناس؛ فالاحتجاج لهما مناقض لمصلحة المصرين ومصلحة الفن.

وفي كم من الأغاني نجد (شكوى الحافظ للعهد، الباقي على الود)، ونجد استعطاف الإنسان الحر؟ أليس الأغلب أنهما شكوى حيوان أذل من كلب مضروب، واستعطاف هو الكدية الحقيرة؟ فأي الأخلاق هما مثاله! وحتى الأغنية البريئة من هذا العيب الشنيع قد يجرد اللحن والغناء شكواها واستعطافها من كل كرامة.

فالنقاد على حق في اتهامهم (الغناء عامة باللين والميوعة) لما طغى - كما قال بحق - على الأغاني من الشكوى الخانعة المائعة والاستعطاف الذليل، ولغير ذلك من عيوب الأغاني والتلحين والغناء جميعاً. وليس من الصواب أن يقال إن هذا الطغيان سببه ترديد الناس لتلك الشكوى، وإنما طغت الشكوى من الأغاني فجرفهم طوفانها. ولو كان أهل الفن قد انساقوا وراء الشعب لكان صنيعهم تجارة لا فناً كما يزعمون.

أما قوله: الشكوى (في دمنا نحن المصريين)، فهو كلام قد رجح فيه الشعر والإنشاء وعنى ظاهراً من الحال ولم يصب الحقيقة. وحسبنا أن نلاحظ أن هذا الشعب المصري بعينه يتحمس لأبي زيد وعنترة تحمساً يدل على أن سر ميله إلى الأغاني الشاكية الباكية هو غير ضعف قابليته للطرب من غناء المعاني القوية وللتغني بها، إن صح أن هذا الضعف فيه.

إن أغاني البطولة والعزة، والوطنية والاستقلال، إذا أخرجت بطابع التميع والتخنث في ألحانها وفي غنائها وموسيقاها، كان هذا التناقض البين فيها مضحكا إضحاك نشيد مشهور في مصر بهذه السخافة. وقد تعمد إظهار هذا التناقض كلوديس، الممثل الهزلي الفرنسي، في أغنية حربية غناها بلحن غرامي، فاستغرق النظارة في الضحك وصفقوا له أي تصفيق. وإذا أغانٍ من هذا القبيل سمعت باعتبارها جدية، كانت مدعاة للسخرية والاحتقار، فلا غرابة إذا مجتها الأسماع وعافتها الطباع، ولو جادت من كل وجه لتغني بها الناس.

ومن طريف الاحتجاج للأغاني التي يضعفها طغيان (الشكوى والاستعطاف) تعليله ضعفها - أو قلة الأغاني القوية - ليس بما (في دمنا نحن المصريين) فحسب، بل بطبيعة أصوات معازفنا أيضاً، مبرراً بذلك ضعف أغانينا وموسيقانا معاً، إذ قال: (كيف يقوم التخت بالإكثار من هذه الأغاني القوية وقد خلق من أنة العود وحنة الناي ورنة القانون؟)

الجواب أن هذه الآلات الأتانة الحنانة الرناتة، هي مع ذلك صيتة، منتهرة، نعارة، تخرج البشارف القوية المعاني، المطربة بما فيها من الشدة والرقة على أحسن تقويم، كما يجمع الافتنان البديع بين الغزل والحماسة لا بين الغزل والذل؛ تلك البشارف التي تتخيل موسيقاها معبرة بشدة في رقة عن حب، حب النفس العزيزة الأبية، تعبيراً بعيداً عن ذلك التناقض في كلام محارب يتهدد بصوت مغازل، أو في كلام جزل المعاني يغنيه صوت تلوثه نفس مخنثة، متضعضعة، أريدت على التحمس.

أو ليس لهذه المعازف أشباه مقاربة في الآلات الغربية لا تصم أغاني الغربيين بطابع الخور والمذلة؟؟ أليس هذا التخت هو الذي يقحم في غنائنا جملاً موسيقية قوية، أو أخلاطاً مسيخة من الأنغام الأجنبية لا توائم سياقه؛ وهو الذي يشرك بعض معازف الغربيين في تأدية ما نسرق من ألحانهم؟؟ فكيف نتوهم أن ضعف أغانينا وغنائنا سببه (أنه العود وحنة الناي ورنة القانون)؟ إنما الصحيح هو العكس. ولم لا نحاول تحسين معازف التخت واختراع غيرها في سبيل الإصلاح المنشود على كل حال؟؟

تلك الكلمة في التخت وما ورد في المقال من أن توسيع دائرة الزجل (فتح للملحنين أبواباً كثيرة) هما كل ما ذكر الشاعر على التلحين والموسيقى. والواقع أن النقاد قد نهبوا إلى عيوبهما جميعاً، وشمل نقدهم الغناء - أي فن المغني ذاته - بل إن الكاتب اللبق عارض النقد برمته، مبالغاً في الإيجاز، بقوله: إنه هو ومن ناصره في مذهبه من (شعراء هذه المدرسة الحديثة) ألفوا الأغاني (فانتشر غناء جديد وموسيقى جديدة كانت غريبة على الخاطر والسمع معاً - أول الأمر - ثم مال إليها الشعب فتغنى بها في كل مكان) إذا كان الشعب تغنى بها لأنها الشكوى التي في دمه فلم كانت غريبة على السمع والخاطر معاً أول الأمر؟؟ وإذا كان يتغنى بها لغير ذلك، أو لهذا وذاك، فباب الأمل مفتوح لمن يتوخى الإصلاح: لأن (المدرسة الحديثة) تقرر أن فنها قد غير ذوق الشعب في زمن قصير، أوله سنة 1925، حتى قبل ما كان غريباً على السمع والخاطر، فتغنى به الناس في كل مكان. وهذا تقرير يؤخذ منه أن ما في دماء المصريين من الشكوى، على قول صاحبه، لم يحل دون تذوق الموسيقى الجديدة التي خلطت الأوبرا بالجاز، وأن تغيير الذوق المصري في مدة وجيزة أمر ممكن. فلم يبق إلا أن نجعل التغيير إصلاحاً بدل الإفساد، ولو في زمن أطول.

بيد أن الإصلاح المنشود قد يمتد به الزمن امتداداً لا نهاية له إذا كانت الجهات التي يجب عليها أن تؤيده تميل - على العكس - إلى معارضته بمثل الصوت الرسمي الذي قرر أنه (يجب ألا ننسى اختلاف الأذواق وتباين وجهات النظر في التقدير عند البحث في جمال الصوت وسلامة الأغنية من العيوب التي يشكو منها بعض دعاة الإصلاح).

أي نظر وأي ذوق عناهما هذا الإيجاب؟ أي نظر، يا ترى، في مثل الفرق الواضح بين الليل والنهار، ونحن نتمنى أن يسمو بنا التعليم والتهذيب إلى أعلى مستويات الأمم الراقية في هذا العصر المنير؟! نرجو ألا يكون نظر العامة وأشباه العامة ممن تغرهم قشور من معارف لا يدركون ما وراءها من حقائق، نظر جماعات كأن أبصارهم لا تتصل بسوى أجسادها، فلا علاقة لها بأنبل ما في النفس الإنسانية من ملكات؛ أو نظر أفرادٍ ضئيل تهذيب مشاعرهم في الحياة، قليلٍ إطلاعهم على تحف من أنواع الفنون، تافهةٍ ثقافتهم الفنية، سقيمةٍ بهذا النقص آراؤهم في الغناء والموسيقى.

وأي ذوق بالله في العيوب التي يشكو منها بعض دعاة الإصلاح؟! أهو ذوق تلك الجماهير التي تغشى مجالس الغناء بإنصافها السفلى وحدها، فلا تستطيع أن تكبح جماح غرائزها إذا هي أحست من الصوت حركة تخنث أو همسة تأنث، فينطلق عنان حيوانيتها، وتضطرب أجسامها يمنة ويسرة في قيام وقعود وتلويح بالجوارح، ويعلو صغيرها وهذيانها استعادةً شاطة لما لا تفهم في الغناء سواه من دواعي الشبق؛ وقد تقطع بعجيجها وضجيجها أجمل الجمل الصوتية التي يتأنق بها المغني في إظهار افتنانه وقدرته، فتذهب مزايا هذه الجمل وتبقى الجماهير بثورتها البهيمية أشبه بتلك القبائل الهمجية في حفلاتها الهائجة المائجة، وذلك كله لا مثيل له في أمة راقية من عالم المدنية.

والأعجب أن المغنين لا يظهرون امتعاضاً من هذا الاعتداء الصارخ على فهم لعلهم يهذبون هؤلاء المستمعين، بل هم يسرون بعمل المعتدين، إذ يعتبرونه دليل الاستحسان لفنهم، وإنما هو استحسان لشيء مخجل في غير محله ووقته؛ ولو كان للفن في ذاته تقدير وحرمة عند تلك الجماهير، لأظهرت استحسانها بعد سماع الأغنية أو الجمل الممتازة في غنائها، كما يفعل المستمعون بأنصافهم العليا وحدها من أهل المدنية.

فمجمل كلام الشاعر الفاضل أن المدرسة الحديثة أبدلت الحب الروحاني بالحيواني في الأغاني، وضمنتها شتى المعاني، وقد فضل الأغاني الحديثة، بمقاصدها وعباراتها، على أغاني عهد مضى؛ وبرر ما فيها من الشكوى، وهي تفجع وهوان، ودافع عما يسمونه الموسيقى الجديدة ولم يبين ما هي، وما هي إلا تخليط شنيع.

وذلك كله يتعلق بالعرض من فنون الغناء والموسيقى، سواء أعد من الصفات المستحسنة أم العيوب المستهجنة. أما الذي يتعلق بالجوهر فهو الداء المفسد الوبيل، الموجب للنقد، المتأصل في تلك الفنون، وهو ما لم يذكر الشاعر ولم يشر إليه الصوت الرسمي بحرف.

ألا إن وجه النقد الباقي بحذافيره راجع إلى (ماهية الموسيقى والغناء الأصلية، أي الدلالة الصوتية على الأحاسيس والخواطر)، عائد إلى عيوب الائتلاف (بين معاني كلام الأغنية ومعاني لحنها وغنائه، ومعاني موسيقاها)؛ وهو منصب على جهلنا (أن اللحن الموسيقي إنشاء يجب ألا تتضارب الجمل الصوتية في سياقه) من (تخليط قديم مسيخ بمسروقات محرفة من الألحان والموسيقى الغربية، القديمة والحديثة، ومن أصوات الجاز)؛ وهو منبه على أننا لا نسلك سبيل الشرقيين القدماء، أو الغربيين المعاصرين لنا؛ في التغني بمختلف الأحاسيس في مواقف الحياة الإنسانية المحوطة بجمال الطبيعة، ومنبه أيضاً على أننا لا (نقلد الغرب فيما ارتقت إليه موسيقاه من التصوير. الذي عظم شأنه بالتحسين والابتكار في المعازف).

وقد قلت إن (الفنان يؤثر في بيئته وجمهوره وإن تأثر منهما، ومن هنا نصيبه في تهذيب ذوق الجمهور وإعلاء مثله الأعلى بقدر مواهبه وسحر فنه؛ ومن هنا تبعة الفنون الضالة ومسئولية أصحابها في إفساد الأذواق)؛ وإن في مصر (معاهد أهلية وحكومية للموسيقى يجب عليها أن تلتفت إلى حقيقة حال هذه الفنون عندنا وإلى ما يصلح من شأنها، فذلك خير لها من أن تظل على الأيام صوراً جوفاء خاوية، لا تصلح إلا لتمكين الفن السقيم الضعيف والمحافظة عليه)

لكن ذاع صوت رسمي كأنه يقول: (ليس في الإمكان أبدع مما كان!) فصدق القائل: (لما يصل رقينا إلى أن نشعر أن الغناء تربية للأمة)

محمد توحيد السلحدار