مجلة الرسالة/العدد 433/من أخلاقنا!
→ (كليلة ودمنة) | مجلة الرسالة - العدد 433 من أخلاقنا! [[مؤلف:|]] |
الصحافة والدولة ← |
بتاريخ: 20 - 10 - 1941 |
للأستاذ علي الطنطاوي
أعرف رجلاً أنعم الله عليه بسعة المال، وفطره على صدق الود وبسط اليد، فأباح إخوانه ماله، يغترفون منه اغترافاً، ويأخذون منه علاَّ ونهلاً، قرضاً حسناً لا يطالبون برده، وهدية لا يسألون المقابلة بمثلها، وهبة لا يرتقب منهم عوض عنها، ولا يسمعون كلمة منّ أو تذكير بها. وفتح لهؤلاء (الإخوان) - وما كان أكثرهم - داره، وأفرد لهم جناحاً فيها لا يدخله أحد من حرمه وأهله، وأقام عليهم خادماً وطاهياً، وانقطع فيه لاستقبالهم قادمين بالبشاشة والترحيب، وإيناسهم مقيمين وخدمتهم، وتوديعهم راجلين مشيعاً إياهم بالكرامة، شاكرهم على (تفضلهم) بالزيارة، سائلهم (التكرم) بالعودة. . .
ولبث هذا الرجل على ذلك حتى أضاع ماله كله، فباع الدار وأثاثها، وغدا فقيراً يحتاج إلى (الورقة السورية)، فلا يجد في كل أولئك (الإخوان) من يدفعها إليه، لا وفاء دين، ولا مقابل هدية، ولا عوضاً من هبة، ولا قرضاً حسناً إلى أيام السعة، اللهم إلا بربا، ولا يرضى المرابون أن يقرضوا مفلساً. . .
ولعلّ الرجل أخطأ حين عمد إلى هذا (الكرم الجاهلي) فأخذ به، وترك التأدب بأدب القرآن الذي يقول: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط، فتقعد ملوماً محسوراً)؛ والذي جعل المبذرين إخوان الشياطين. ولعله لقي جزاءه. . . فما سقطت القصة للحكم عليه، وإنما قصصتها لأنها ذكرتني بطائفة (من أخلاقنا)، هي كالداء في جسم الأمة، لا يجمل بالكتّاب وحملة الأقلام السكوت عنها والرضا بها، وهم أطباؤها وأساتها، وعندهم دواؤها
ذكرتني بما نكاد نراه كل يوم من الحوادث وما يكاد يعرف له كل قارئ شبيهاً ومثيلاً، حين يأتيك الرجل من أصدقائك أو جيرانك متذللاً متواضعاً، مظهراً للتقي والأمانة، يسألك أن تقرضه مالاً قد تكون أنت في حاجة إليه في يومك أو غدك ويذكرك الكرم والثواب؛ وربما استعان عليك بمن لا يرد طلبه عندك فتعطيه ما يريد، تضعه في كفه خالياً به، تستحي أن تشهد عليه شاهداً، أو تأخذ به كتاباً، مع أن الله أمر بكتابة الدين إلى الأجل المسمى أمر ندب واستحباب، لا أمر إيجاب وافتراض، فيأخذه منك ويذهب شاكراً فضلك، مثنياً عليك ثناء يخجلك ويضايقك؛ ثم لا تراه بعد ذلك ولا تبصر له وجهاً فتفتش عنه لتسأله رد المال وقد انقضت مدة الدين، وتجددت حاجتك إليه، فيروغ منك، وينأى عنك. . . فتطرق بابه، فيقال لك هو غائب عن الدار، فتعود إليه في الصباح فيقال هو نائم، فترجع بعد ساعة فيقال خرج. . . فتبتغي إليه الوسائل وتتشفع إليه بالأصدقاء. . . فيلقاك شامخ الأنف مصّعراً خده، يقول: (يا أخي، أزعجتنا بهذا الدين. . . ما هذا الإلحاح الغريب؟ أتخاف أن آكله. . .!) وينتهرك وأنت تداريه. . . ثم إن كان (رجلاً طيباً) دفع إليك الدين، ولكن قرشاً بعد قرش، و (ورقة) بعد (ورقة)، فتريق في استيفاء دينك ماء وجهك، وتنفق فيه الثمين من وقتك، ثم لا تنتفع منه بشيء. وإن لم يكن (صاحب ذمة) أكل الدين كله، وصرخ فيك حيثما لقيك: (مالك عندي شيء. اشتك للمحاكم!)، وهو يعلم أنه لا سند في يدك، ولا بينة لك عليه. . . وهبك أخذت منه كتاباً بدينك، أفتصبر على طول المحاكمة ومتابعتها وتأجيلها وتسويفها، و (رسومها ومصارفها). . . إن ضياع المال أهون من إقامته الدعوى به
ومثل هؤلاء المقترضين (الأفاضل) مستعيرو الكتب، أولئك الذين تركوا في قلبي غصصاً حلفت بعدها بموثقات الأيمان أني لا أعير أحداً كتاباً. ولم أنج مع ذلك منهم، ولم يرد لي إلى الآن كتاب (كشف الظنون) الذي نسيت من استعاره مني منذ إحدى عشرة سنة. . .
ولهؤلاء المستعيرين نوادر شهدت منها العجب، منها أن أستاذاً محترماً في قومه جاءني مرة يلتمس إعارته جزءاً من تفسير الخازن من خزانة كتبي، ليراجع فيه مسألة ويرده إلي عاجلاً، ففعلت؛ وانتظرت أربع. . . أربع سنوات - والله - ثم ذكرته به؛ فغضب وقال: (لإيش العجلة يا أستاذ، لم أراجع المسألة بعد. . .)!
والذي يذكر منهم صاحب الكتاب ويتنازل فيرده إليه، يرده مخلوع الجلد، ممزق الأوصال. وأنكى منه المستعير المحقق المدقق الذي يرمي في الكتاب موطناً يحتاج إلى تعليق، فيكتب التعليقة التي يفتح الله بها عليه على هامش كتابك بالحبر الصيني الذي لا يمحى ولا يكشط، ويذيلها باسمه الكريم!!
وشر من هؤلاء جميعاً الثقيل الذي يتظرف ويتخفف، فيرى أن من الظرف سرقة الكتب، فإذا زارك وتركته في المكتبة وخرجت لتأتيه بالقهوة أو الشاي أخذ كتاباً فدسه تحت إبطه، أو وضعه في جيبه ثم ذهب به وأنت لا تدري. . .
وربما كان هذا المدين المماطل، وذلك الذي يأكل الدين وينكره، والذي يستعير الكتاب ويمسكه، ربما كانوا عند العامة من أقطاب الوقت وأولياء الله الكبار؛ ذلك لأن الناس جهلوا حقيقة التقى وبدلوا معناه، فكان التقي في صدر الإسلام هو الذي يتقي المحارم والمظالم ما ظهر منها وما بطن، ولا يدخل جوفه ولا جيبه إلا طيباً حلالاً، ويفر من مواطن الشبهات، ولا يطلب المال إلا لإمساك الرمق ونيل القوام. والعيش عيش القناعة والرضا، ولا يأخذه إلا من حلّه. ولم يكن الرجل ليشهد للرجل بالتقوى إلا إن صحبه في سفره، أو عامله في مال؛ فصار التقي اليوم من يكبّر عمته، ويطيل لحيته، ويوسع كمه، ولا تفارق يده سبحته، ولا يقف لسانه عن ذكر؛ ومن يتوقر ويطيل المكث في المساجد. وهذا كله حسن لا اعتراض عليه، غير أن حسنه ينقلب قبحاً أبشع القبح إذا اتخذه صاحبه أو حبولة يصطاد بها الدنيا، كذلك الذي كان وصياً على أيتام ضعاف لا يملكون حيلة، اغتر أبوهم بلحيته وسبحته فوصى بهم إليه، فجرعهم كؤوس المذلة والجوع، ونشأهم في الأزقة نشأة اللصوص، وأكل أموالهم وهو يقرأ كل يوم بصوته الجميل: (إن اللذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً)، وهو مع ذلك لا ينقطع عن الأذكار وحلقاتها، ويجهر بالبكاء إذا سمع الموعظة. . . وينكر أشد الإنكار على من يهمل السنن فيشرب بشماله أو يحلق لحيته، والناس يتبركون بلثم يده. فكيف السبيل إلى إفهام هؤلاء الناس ما هي حقيقة التقي كيلا يعظموا اللص ويجعلوه ولياً مباركاً، ولا يغتروا بالصلاح المجاني الذي لا يكلف صاحبه مالاً بل يجمع به المال، ويعلموا أن الله الذي وضع في نفوس الشباب شهوة الجسد وضع في نفوس (هؤلاء) المشايخ (لست أعني المشايخ كلهم) شهوة المال، وإنه لا فضل لأحدهما على صاحبه؛ وأن الشيخ التقي هو الذي لا يقيم للمال وزناً، ولا عبرة بغضه البصر عن النساء واتباعه سبيل العفاف؛ وأن الشاب الصالح هو الذي لا تغلبه على نفسه تلك الشهوة ولا عبرة يبذله المال. . .
لقد انحدرت أخلاقنا حتى صار الشاب منا حين يخوض خضم الحياة، ويرى الاختلاف بين ما علموه من الأخلاق في المدرسة، وما تواضع عليه الناس في الحياة، يقف حائراً مدهوشاً لا يدري ما يأخذ وما يدع؛ فلا هو يرتضي لنفسه التفريط في أخلاقه: صدقه وأمانته وعزة نفسه، ولا هو يرتضي الحرمان من المتع واللذائذ والمناصب العالية والمرتبات الكبيرة يناله جزاء تمسكه بما علّموه من الأخلاق. حدثني صديق لي أنه أنتسب في شبابه إلى الشرطة، فجعلوه رئيس مصلحة السير في بلدة من بلاد الشام، وكان ذلك منذ خمس وعشرين سنة أو في من ذلك، وكان مقره في (مخفر) في ظاهر البلد، فمر عليه رتل من السيارات فيه حجاج آيبون، وكان نظام تلك الأيام أن سيارة لا تجتاز على مخفره إلا بوثيقة وإذن، لا أدري ما صفتهما فقد نسيت دقائق حديثه، ولم يكن معهم ذلك (الإذن) فوقفهم ومنعهم من المرور إلا به. (قال) فغاب السائق هنيهة ثم عاد وفي يده صرة وضعها على مكتبي فيها أربعون ريالاً مجيدياً، وقال هؤلاء حجاج آيبون يريدون التعجيل بالوصول. . . وهذه الصرة ثمن (فنجان قهوة) رجاء السماح لهم الخ. . . فلما سمعت ذلك قفّ شعري وصحت به: أتريد أن ترشوني يا كذا وكذا، وأمرت به فوقف، واستلمت الهاتف (التلفون) أهتف بمدير الشرطة أرفع إليه الأمر وأنا أرى أنه سينزل به أشد الجزاء، فإذا به يأمر بإطلاقه، ويأذن للسيارات بأن تسافر على خلاف النظام، وأن يبعث إليه بالمال ليجري التحقيق. (قال صديقي) وذهب المال ولم يعد، وتركت العمل. ولو أني بقيت لطرحت على عاتقي ثقل الأخلاق التي تجعلني غريباً بين زملائي، وتحرمني من الغنى، وتكسبني غضب الرؤساء فلا يصيبني ترفيع، ولا يصل إلى خير. وليست هذه القصة فريدة في بابها، ولا هي نادرة من النوادر، بل هي قصة كل يوم، وهي الداء الذي يزداد ويسيطر والأساة عنه غافلون. وأين أساته وأهل السياسة مشغولون بالقتال على كراسي الحكم، هي الدنيا لهم وهي الأخرى، وأهل الأدب بين نائم يستمتع بشهي الأحلام، ومستيقظ قد ألهاه هواه، فهو يملأ الدنيا بكاء ونحيباً لأن صاحبته أسهرته يعد النجوم ولم تأته. . أو أنها قد وعدته بقبلة ثم وجدت أجمل منه أو أفسق فأعطته إياها. وأهل العلم يعيش أكثرهم على هامش الحياة لا هم له إلا مرتبه يقبضه من (دائرة الأوقاف) في مطلع كل شهر، ثم لا تراه ولا يراه أحد إلى الشهر الذي بعده، أو (حاشية) يقرؤها ويعيدها على من حضر مجلسه، قراءة تبرك لا قراءة تحقيق، فلا يرجع ولا ينتقد ولا يقابل قانوناً على قاعدة فقهية، ولا ينظر في مشكلة من مشاكل العصر ليرى حكمها. ومن اشتغل منهم بالمسائل العامة أخذ نفسه بالاهتمام بأمر لا يقدم في الدين ولا يؤخر، ولا يتوقف عليه إيمان ولا كفر. والشباب الناشئون لجهلهم حقائق الإسلام، وبعد ما بينهم وبين المشايخ، وقصر أيديهم وإفهامهم عن نيل الكتب (ذات الشروح والحواشي) قد زهدوا في كل ما هو شرقي واستهانوا به، وعظموا ما يقابله من كل حماقة دعيت مذهباً اجتماعياً، وكل سفسطة سميت فلسفة، وكل كفر بالدين والعرض دعي أدباً، وأعانهم على ذلك أن أكثر المدرسين من اللذين لم يقدر لهم فهم علوم الإسلام والغوص على كنوز كتبه. ولست أطلق القول وأجنح إلى التعميم، فإن في كل فئة من هؤلاء الطيبين المصلحين، ولكن الكثرة على نحو ما ذكرت. فمن أين يرجى إصلاح أخلاقنا وأوضاعنا؟
ومن أين يرجى لأخلاقنا صلاح، ولم نتفق بعد على (الأخلاق) التي ينبغي أن نتخلق بها، فمنا من يرى المثل الأعلى في أخلاق الجاهلية: كرم إلى حد التبذير، وشجاعة إلى حد التهور، كصاحبنا الذي استهلك بحديثه هذا المقال، وعامة طائفة (الزكرت) في الشام، (وهي أشبه بالفتوة في مصر) وأكثر البدو. ومنا من يميل إلى التخلق بأخلاق أجدادنا في القرن الماضي على ما كانت عليه بلا زيادة عليها أو نقصان منها، ومن يخالفهم مخالفة الضد للضد فيرى أن نقتبس الأخلاق الغربية برمتها. ويتشعب بهؤلاء الرأي فيميل كل إلى الأمة التي تعلم في مدارسها أو رحل إلى أرضها؛ ومن يرى اقتباس الجيد النافع من كل أمة من غير أن يحدد أو يعين. ولا دواء لهذه الفوضى في رأيي، ولا صلاح لأخلاقنا، إلا بالرجوع إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به سيدنا وسيد العالم محمد ﷺ، لا الإسلام الذي يفهمه الحشويون والمتاجرون بالدين، ولا الذي تفهمه العامة. فإذا فعلنا فثمة كل خير، ولا يكون ذلك إلا إذا شمر العلماء وحققوا المسائل، ودرسوا المشكلات، وألقوا عن المصنفين الأولين رداء التقديس، واستمدوا الأحكام من موردها ثم ترجموا هذه الكتب القديمة إلى لغة العصر، فأين من ينتدب نفسه لذلك؟
علي الطنطاوي