مجلة الرسالة/العدد 433/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 433 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 20 - 10 - 1941 |
(أرواح شاردة)
تأليف الأستاذ الشاعر علي محمود طه
بقلم الأديب محمد فهمي كمال
هذه (الأرواح الشاردة) في تيه المرح والعذاب والحب، يحتفل بها شاعرنا علي محمود طه في كتابه الجديد احتفال الشاعر الهائم الذي تضطرب حياته في خضم هذا الكون العظيم، حيث تتوارى المعالم وتتلاشى الآفاق وتغيب الشطئان. ولقد وسم نفسه في عالم الأدب بالتيه والشرود، فهو (ملاح تائه) يهيم إثر (أرواح شاردة)، يجد لذته ومتعته في شروده وهيامه، حتى لكأنه أحد أولئك الشعراء البوهيميين الذي كتب عنهم (هنري برجير)، فهو ممن نلتمس عنهم غذاء الروح وري القلب في البيان المصطفق والخيال المنطلق والنغم المتسق!
ومن نعم الأيام أن يصدر هذا الكتاب الجديد في زمن تصطخب فيه الآذان وتضطرب الأذهان بأنباء أفظع مجزرة بشرية تمثلها روح الشر على مسرح الوجود، بل نحن في محنتنا هذه أحوج ما نكون إلى أمثال هذه الكتب المختلفة بالذوق الجميل والفن الرفيع، أكثر من حاجتنا إلى كتب العلم والمعرفة والحكمة والفلسفة التي لو شئنا شيئاً منها لالتمسناه في الكتب التي نقل عنها المؤلف أو تأثر بها، وفي غيرها مما لم ينقل عنه أو يتأثر به، ولكنا نحب هذا المزاح البديع من فن الشاعر الثائر علي محمود طه الذي عشقناه وفتنّا به في قصائده الفرحة وغنائياته المرحة!! فهذا الشارد الحائر بين معالم الجمال ومفاتنه في مصر والبندقية وبرن وروما وفرساي وانسبروك، سعيد بأن يلتقي بجماعة من الشاردين الحائرين أمثال: فيرلين ورامبو وبودلير وشلي ودي فيني وموسيه وجورج سان وشو وويلز، ممن تناولهم بالدراسة، أو عرض لهم ولآثارهم عرضاً سريعاً
فأما بول فيرلين فحديثه ممتع، ألمّ فيه المؤلف بسيرة هذا الشاعر الذي كان أرخم صوت صدح به الشعر الفرنسي في القرن الذي أنجب هيجو ولا مارتين وموسيه وجوتيه وسنت بيف ومالارمي وليكونت دي ليل وأناتول فرانس وغيرهم من الأعلام والعباقرة الأفذاذ ولقد تناول المؤلف في حديثه هذا أصول الفن مطوّقاً بالمصادر التي استمدت منها شاعرية فيرلين ألوانها الباهرة، واستلهمت أنغامها الساحرة؛ ثم تناول شخصية فيراين بالاستقراء والتحليل، هذه الشخصية التي قال أناتول فرانس في صاحبها: (إنه سقراطي بالفطرة أو خير من ذلك، مخلوق خرافي، حيوان غابة، نصفه إنسان، ونصفه حيوان، نصفه وحش ضار، ونصفه إله، هائل كقوة طبيعية غير خاضعة لشريعة ما. . .)
ولقد وفق المؤلف في تفصيل ذلك كله وكان رائعاً ومتواضعاً في ترجمته لقصيدة فيرلين في الخريف، بل إن أمانة النقل تبلغ في هذه الترجمة مبلغاً عظيماً مع الاحتفاظ بالروح الغنائي المرح الذي يفيض به شعر فيرلين
وفي عشرات الكتب والدراسات التي وضعت عن فيرلين تجد المؤلف قد ألم بالكثير من الآراء، وقرّب هذه الشخصية العجيبة إلينا، ولو أضاف إلى ما كتبه رأي (فرنسوا بوشيه) في علاقة فيرلين برامبو لانتهى إلى الحقيقة ولما قال إنها لا تزال موضع تحقيق النقاد والمؤرخين
أما بودلير فقد عرض المؤلف لفنه وللعوامل الموضوعية والذاتية في شاعريته أكثر مما عرض لسيرة حياته، وإن كان لم يهمل ما رآه متصلاً أوثق الاتصال ببحثه القيم النفيس، فقد تناول جانباً من حياة هذا الشاعر يلقي ضوءاً على المؤثرات التي عملت عملها في شذوذه وغرابة طباعه وأطواره وحماسته في عبادة شهواته، وكان حديثه رائعاً عن نشأة بودلير ورحلته إلى جزائر الهند، وعن أوكار الحشيش والأفيون، وهذه الأجساد التي تنضح بشهواتها وتسترق أنفاسها من دخان العطور الشرقية المخدرة؛ كما كان حديثه بليغاً وبديعاً عن هذه الفتاة السوداء التي نصبها بودلير إلهة للجمال بجسدها المعتل السقيم الذي يملأ الكلف أو البقع أديمه وهو يتخلع في ثوب مهلهل خلق. . .
ومن الحق أن نسجل في هذا الفصل للأستاذ المؤلف قوته البيانية وطلاقته الفنية وحرارة تعبيره وإن كنا نأخذ عليه الإيجاز في محاكمة بودلير مع أنه عرض لها أكثر من مرة في فصله هذا مما يدلنا على إلمامه بدقائق هذه المحاكمة وخاصة عندما نوه بزعيم الإبداعيين فيكتور هيجو ودفاعه عن بودلير كفنان، وقد كان على المؤلف أن يشبع الموضوع بتفاصيل هذا الدفاع أما الكلمة التي نقلها المترجم عن الكاتبة (ربيكا) في الأدب الإنجليزي الحديث فهي من أدق وأوفى الدراسات التي كتبتها هذه الأديبة العظيمة فقد اشتغلت بالتأليف الأدبي مدى ثلاثين عاماً، وحسبنا هذا ثقة بآرائها في الأدب المعاصر
وقد وفق علي محمود طه في ترجمة قصيدة شلي ودي فيني وقصائد ماسفليد وسيتول و (فنست ملاي) توفيقاً عظيماً وخاصة في الثلاث قصائد الأخيرة فإنه يبلغ الذروة في الدقة والرقة والقوة أما قصيدته في قبرة شلي فقد جمعت كل ما سكبه قلب الشاعر الإنجليزي العظيم من الحلاوة والحرارة والصفاء وكل ما جادت به شاعرية المترجم من فنون التصوير والغناء وسعة الخيال وحسن الأداء، ولقد قدم المترجم لقصيدتي شلي ودي فيني بكلمتين عن الشاعرين ولم يصنع ذلك في بقية القصائد، ولو كان صنع ذلك لحمدنا له صنعه
وما أحسب أن الملاح التائه قد أهمل عن عمد تعريفنا بملاح غير تائه هو جون ماسفيلد شاعر العرش البريطاني الذي بدأ حياته ملاحاً صغيراً يعمل في البحر وهو في الرابعة عشرة من عمره
أما القسم الأخير من كتاب أرواح شاردة، فأنا شديد الإعجاب به، مفتون بالصور التي رسمها المؤلف لرحلاته في أوربا، مشغوف بالحوار الذي أجراه علي محمود طه على ألسنة الأشخاص اللذين التقى بهم في طريقه؛ فليست هذه المقالات مجرد وصف وتزويق من الخيال، بل هي ضلال وأضواء من الفن والعلم والأدب محتفلة بالرشاقة والعذوبة وخفة الروح، ممثلة لهذه العناصر أبدع تمثيل، كأقدر كتاب الأقصوصة، حتى لتشيع فينا ألواناً من الطرب الروحي ساعة من زمن أو لحظة من وقت كما يشيع إشراق الكأس المترعة طرب الّشرب ومرح الندمان؛ وحبذا لو أتحفنا علي محمود طه بكتاب يفرده لهذه الذكريات مضيفاً إليها ما أظنه لم يجد وقتاً لكتابته أو بالنسبة لحجم كتابه (أرواح شاردة)
أما القصيدة التي ختم بها المؤلف كتابه والتي أنشأها في محنة باريس وطلعت بها (مجلة الرسالة) على العالم العربي، فهي مثال من الحسرة والعبرة التي عرفناها في شعر شوقي في مثل هذه المناسبات!
فليهنأ عالم الأدب بمّلاحنا التائه، وليهنأ هو بأرواحه الشاردة محمد فهمي كمال